لا تلوموا انبهاري بما أرى هنا في أوروبا التي أزورها في خريف العمر بسفرة متأخرة جدا.. ولا تنزعجوا من روايتي لبعض المشاهد التي سأرويها لكم في عدد من مقالاتي القادمة، فبعد أن قبعت في سجن العراق الكبير لما يزيد عن نصف قرن،أتيحت لي أخيرا فرصة وقد تكون الوحيدة للخروج من ذلك السجن وزيارة أوروبا.
فلست مسؤولا في الحكومة أو من حاشيتها حتى يتسنى لي مثلهم مثل هذه الفرص الثمينة مرارا وتكرارا بفضل الخيرات الوفيرة النازلة على رؤوس حكومة الإقليم، فمثل هذه السفرات والإيفادات محصورة في بلدي فقط بحفنة ممن يمتهنون التزلف والتملق ومسح الأكتاف، أو من يشاركون الحكومة الفاسدة في مصادرة اللقمة من أفواه أطفالنا، ومن ينهبون خيرات بلدنا ليرموها تحت أقدام راقصات الملاهي أو فوق طاولات القمار في عواصم العالم المختلفة!.
أول ما بهرني في سفرتي هذه، هو الفضاء المفتوح في هذه القارة الذي يخلب اللب، والهواء الذي ينعش القلب ويفتح النفس، فبلدان القارة، هي جنات على مد النظر ما ينشبع منها بصر، على عكس بلداننا التي تعمى الأبصار بالنظر الى سماواتها المغبرة، وتضيق الصدور بريحها السموم.
فبعد قضائي لحكمين مؤبدين داخل سجن العراق، الأول في ظل حكم الدكتاتور الأرعن صدام حسين،الذي منع عني جواز السفر لأكثر من 25 سنة،وزجني في حروب عبثية تارة مع إيران، وأخرى مع الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي، والحكم الثاني قضيته في ظل حكومة الإقليم التي أشغلتني بصراعاتها الكاذبة مع الشوفينيين والعنصريين والطامعين بما تسمى بتجربة إقليم كردستان من دول الجوار،تحررت توا من ذلك السجن ووصلت أخيرا الى الجنة الأوروبية التي وعد العراقيون، وأصبحت بلدانها مهوى أفئدتهم، ولكن للأسف فقد وصلتها متأخرا ومجردا إلا من سيف من خشب بعد أن أمات عرفاء الأمن والإستخبارات رجولتي لأكثر من نصف قرن، فتحولت أولى أسفاري الخارجية الى مجرد التمتع بالنظر الى الحسناوات الشقر والسمر، وهن يتمخترن في شوارع ستوكهولم التي تزدحم بكل لغات الأرض وثقافاتها، فلا أملك والحال هكذا غير أن اتأفف وأتحسر على أيام الشباب الضائع وعلى السيف اليماني البتار!!
ومع كل ذلك تراني منبهرا بما أرى من مشاهد أفتقدها في بلدي،وسأحاول في سلسلة من مقالات متتالية أن أروي مشاهداتي لقراء quot; إيلاف quot; الحبيبة الذين غبت عنهم لفترة طويلة بسبب ما صادفته من أول يوم وصولي الى السويد من مشكلة كيبورد جهاز الكومبيوتر وعدم توفر الحروف العربية فيها، وهي مشكلة عالجها زميلي العزيز الكاتب روند رسول المقيم في السويد، فأتاح لي بفضله فرصة اللقاء مجددا بقراء إيلاف الأعزاء.
أول ما لاحظته في أيامي الأولى بهذه العاصمة الإسكندنافية هو الحضور الطاغي لوزير النقل في هذا البلد، فهو موجود في كل تفاصيل الحياة اليومية للشعب السويدي، إبتداء من الخروج الصباحي للمواطن وتنقله عبر قطارات الأنفاق، مرورا الى التنقل السهل والمريح وبمواعيد مضبوطة ودقيقة دقة الساعات السويسرية بالقطارات والحافلات المريحة الى المدن الأخرى في المملكة، وإنتهاءا بالسفر بالطائرات الى بلدان العالم، على العكس من وزير النقل في بلدي الذي يقبض راتبه وهو غارق في نوم العسل بمنزله المحاط بطاقم كبير من الحماية وبكتل كونكريتية تحجب سقوف بيته من الرؤية البعيدة المدى، فبلدي هو من البلدان القليلة جدا التي لا توجد فيها لا قطارات تحت الأرض ولا فوقها، ولا طائرات مدنية تجوب سماوات مدنها، بإستثناء تلك الطائرات الخاصة المستأجرة لحفنة من مسؤولي الحكومتين المركزية والإقليمية يستخدمونها في أسفارهم ورحلاتهم الإستجمامية على شواطيء الريفيرا أو الساحل الأسباني أو الإسطنبولي!!!.
كما لاحظت غيابا كاملا لوزير الداخلية في السويد الذي بالكاد يعرف المواطن السويدي إسمه، على عكس وزير داخلية بلدنا الذي يختفي مخبريه بين أواني مطابخنا المنزلية ليسجلوا كل ما يدور في بيوتنا من حديث حول غلاء المعيشة أو أزمات السكن والغلاء والكهرباء..
وبالمناسبة لقد ضقت ذرعا في أيامي التي أقضيها الان في ستوكهولم بإستمرار ضخ التيار الكهربائي في هذا البلد، فلم أصادف ولو للحظة أن تم قطع الكهرباء عن الشقق والمنازل بحجة تأخر وصول شحنة جديدة من الغاز الى محطة توليد الطاقة الكهربائية، أو بسبب إنخفاض مناسيب المياه في السدود السويدية كما يحصل في بلدي وبشكل يومي..
كنت أحتاج الى ولاعة سجائر فطلبت من إبني quot;دشتي quot; اللاجيء في السويد أن يشتري لي ولاعة من المحل تحت شقته، ولكنني أوصيته على عادتي في أربيل أن يشتري لي ولاعة بمصباح، فإنفجر ضاحكا وقالquot; أنت في السويد ولست في كردستان، فما حاجتك لمصباح؟!.. تذكرت عندها فعلا أنني في بلد لياليها مليئة بالأنس ولا يغيب عنها النورصباحا ومساء، فعندنا في كردستان تعتبر الولاعة بمصباح من ضرورات الحياة اليومية، حتى أن دول الجوار أدركت تلك العلاقة الجدلية بين المصباح والإنسان فبدأت تصدر إلينا مصابيح صغيرة مركبة بكل الأشياء حتى بالمسجلات وراديوات الترانسيستور، بل أنها تركبها حتى بأحذية الأطفال حتى لا يضيعوا منا في الأسواق؟؟!!..
وبالمناسبة أيضا صادف في هذا اليوم وأنا أكتب مقالي أن إنهمرت أمطار شديدة أغرقت العاصمة السويدية فيما يشبه الفيضان، فإلتفت الى إبني وقلت لهquot; لو نزل ربع هذا المطر على كردستان لأعلنت حكومة الإقليم عن مكرمة جديدة بزيادة ساعة واحدة من تجهيز الكهرباء لبيوت المواطنين، ولكن أنظر الى سوء حظنا العاثر والى صدود حتى الطقس والمناخ معنا، فالأجواء هنا ماطرة، وعندنا مغبرة، والله يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير..
زرت القصر الملكي في السويد فلم أجد عند بابه إلا حارسا واحدا يحمل بندقية أعتقد أنها كانت من الخشب، وكان الحارس يرتدي الملابس الفولكلورية القديمة على عكس حراس مقراتنا ودوائرنا الحكومية المدججين بالقنابل اليدوية وبقاذفات الآر بي جي، وعندما دخلت قاعة إستقبال الضيوف الرسميين في القصر لم يفتشني موظف الإستقبال، ولم يطلب مني أن أسلمه ولاعتي ولا جهاز الموبايل أو أي شيء من هذا القبيل، على العكس من قصور مسؤولي كردستان التي تبعد عن المناطق المأهولة بالسكان بمسافة عدة كيلومترات على سبيل التستر على ما يحدث فيها، ولحراسها حق إستخدام الدخيرة الحية عند إقتراب أي جسم بشري أو حيواني بمسافة كيلومتر مربع حوالي تلك القصور!!.
لم أصادف طيلة أسبوع من وجودي في ستوكهولم شرطيا واحدا أو مركزا للشرطة، ولم يسألني أحد عن بطاقتي التموينية ولا عن هوية الأحوال المدنية، كما لم أجد أي لافتة تدل على وجود مقر حزبي، بل وجدت الجدران مزينة بصور حسناوات شقراوات، أو بلوحات تشكيلية جميلة مرسومة على جدران وسقوف مترو الأنفاق، على عكس جدران شوارعنا التي تمتليء بصور مرشحي إنتخابات الدورة السابقة للبرلمان الكردستاني والتي جرت قبل أربعة أعوام،وعلى الرغم من أن الدورة الإنتخابية للبرلمان الكردستاني الحالي قد شارفت على الإنتهاء، ولكن مازالت الإبتسامة المرسومة على شفاه أولئك المرشحين السابقين بادية في تلك الصور الدعائية، وشعاراتهم الإنتخابية التي كانت تبشر المواطنين بالخير العميم باقية لم تزلها الأمطار والعواصف الرملية التي تجتاح كردستان هذه الأيام.
ومن هنا أنصح الحزبين الكرديين بأن يستفيدا من تلك الصور المعلقة على جدران مدن كردستان، وأن لا يكلفا نفسيهما بتغيير أعضاء البرلمان الحالي في الدورة المقبلة توفيرا للأموال التي تصرف على الدعايات الإنتخابية القادمة وطبع صور مرشحين جدد، وأن يستخدما تلك الأموال في وجهتها الصحيحة بالصرف على رحلاتهم الإستجمامية والعلاجية، فعلى ما أظن أن في أوروبا اليوم تتوفر علاجات شافية ووافية للسيوف الخشبية لمسؤولي هذين الحزبين التي تهد جبال كردستان الشماء.
شيرزاد شيخاني
ستوكهولم/ السويد
[email protected]
التعليقات