لا أدري لماذا ينتابني و أنا أتابع المشاهد السياسية المتحولة في العراق شعور حقيقي بأن ذلك البلد لا يعيش في عصر الفتنة الكبرى فقط ؟ بل أن التاريخ قد تجمد و توقفت ساعته عند العصر الأموي تحديدا!!

فالملل و النحل و العصابات و الأحزاب التي ظهرت هناك و ما تزال تتوالد بمتواليات حسابية رهيبة تعطي للمراقب قناعة حقيقية بأن الحرب ضد التخلف الفكري و الطائفي في العراق هي حرب شرسة و صعبة و ليست مضمونة النتائج أبدا كما أن كسب تلك الحرب لصالح أفكار الحرية و السلام و التقدم قد أضحى أمرا دونه خرط القتاد للأسف، فالعراق الذي كان قبل عقدين يتفاخر في دول الشرق الأوسط بكونه من أوائل الدول التي إستطاعت تقليص مساحات الأمية و التي كانت تطمح لمغادرة خانة العالم الثالث تحول اليوم و في ظل الدكتاتورية البعثية البائدة و حروبها السقيمة ثم موجات الظلامية الدينية و الطائفية التي هبت عليه ثم الإحتلال الأميركي الذي قدم تحت عنوان حرية العراق و تحول لخازوق تاريخي كرس التخلف و جاء بالمتخلفين و دمر الدولة العراقية بالكامل وهي الدولة التي بناها الحكم الهاشمي الملكي منذ أيام المغفور له الملك فيصل الأول و كانت بدايتها واعدة و مبشرة بالأمل و الخير فبعد ظلام العصور الوسطى و الإحتلال العثماني التجهيلي الرهيب ثم الصراعات الفارسية / العثمانية التركية على الجثة العراقية المستباحة جاء الحكم الوطني بشكله الملكي رغم كل سلبياته ليسجل النقاط الأولى في ظهور و تبلور العراق الحديث و تجميع أطرافه في عام 1921 و أستطاع ذلك النظام أن يحفر بالصخر و أن يحاول و قد نجح في تأسيس و إبراز شخصية وطنية عراقية كانت لها الريادة في دول المنطقة، فالعراق الملكي كان أول دولة عربية تدخل عصبة الأمم و كان من المؤسسين لهيئة الأمم و لكل التكتلات الإقليمية و كانت الحكومات العراقية وقتذاك تقودها كفاءات علمية و عسكرية و ليسوا من أهل الشهادات المزورة أو من أساطين التخلف!!

المهم إن كل ذلك التراث التأسيسي قد تهاوى بالكامل بعد سلسلة الإنقلابات العسكرية العجفاء التي هبت رياحها على العراق منذ إنقلاب 14 تموز الأسود عام 1958 ليصبح الحكم نهبا مشاعا لمن يركب الدبابة و لمن يمتلك الكثير من عناصر ( السرسرة ) لكي يشكل عصابات و يقفز على السلطة في ليل بهيم كما فعل البعثيون الذين تقدمهم شلة السرسرية و القتلة و في طليعتهم عصابة المشنوق صدام حسين ليصادروا العراق و يقدموه على طبق من ذهب نهبا مشاعا للدول الكواسر و للقوى المتوحشة و ليأتي الإحتلال الدولي ليكون المدخل الحقيقي لتاريخ العراق في القرن الحادي و العشرين و لتصبح الشؤون العراقية نهبا مشاعا للقوى الدولية و الإقليمية المتصارعة، فقد راجت الأنباء مؤهرا بأن جماعة ( جند السماء )!!

وهو التنظيم السري لطائفة و جماعة متطرفة من غلاة الشيعة من الذين يعتقدون بإنهم أجروا إتصالات مع ( الإمام الغائب ) أو المهدي المنتظر!! قد أعادوا تجميع صفوفهم من جديد في بعض مدن الجنوب المنكوبة بالتخلف التاريخي!! و إن هذه الجماعة التي حاولت كما يقولون قبل ثلاثة أعوام الإنقلاب الدموي على الحوزة الدينية الشيعية في النجف و قتل المراجع الكبار مما أدى لوقوع مجزرة بشرية كبرى في منطقة ( الزركا ) قرب النجف لم يعرف عن حقائقها الكثير من الحقائق و الغوامض هي اليوم بصدد إعادة التنظيم!! و ذلك يعني بالعربي الفصيح من أن هنالك حملات تصفية دموية قادمة و مؤكدة بين الشيعة أنفسهم وهي لقطات تاريخية تذكرنا بأجواء الكوفة أيام العهد الأموي حينما كانت تخرج الدعوات المختلفة كدعوة الخوارج أو دعوة الكيسانيين أو جماعة التوابين ( المختار الثقفي ) أو ثورات العلويين أو الطالبيين!! فالصورة النمطية لم تتغير و كل ما أختلف من رتوشها هو أن من يقضي على الثوار الجدد لم يعد جيش الأمويين في الشام بل جيش الأمريكيين في ولاية واشنطن و قواعد فلوريدا!!..

إنها المهزلة التاريخية المتكررة فصولا في العراق، هذا العراق المثخن بالجراح و السواطير و التي تحاول حكومته في ظل الإنهيار الشامل ماليا و إقتصاديا و إجتماعيا أن تحوله لجنة إستثمارية!! وهو حلم أشبه بحلم إبليس في الجنة!!، كيف يأتي الإستثمار للعراق ووزارة المالية فيه من أغبى الوزارات و حيث يقودها وزير غير متخصص بالشؤون الإقتصادية و إذا كان الوزير الخطير الرفيق باقر صولاغ الصولاغي ( قدس سره ) يمتلك محلات لصياغة الذهب أو مكاتبا للتهريب في الشام فإن ذلك بالتأكيد لا يعطيه أي مقدرة حقيقية على إدارة وزارة المالية التي بلغ التدهور الإقتصادي في عهده الميمون قمة إنحطاطه، دون أن نعيد إلى الأذهان السرقات الكبرى في وزارة التجارة من خلال الرفاق المؤمنين في حزب الدعوة و العياذ بالله!! و كما قال الرصافي العظيم / من أين يأتي للعراق تقدم وطريق ممتلكيه غير طريقه، لا خير في وطن يكون السيف عند جبانه و المال عند بخيله و الرأي عند عديمه!!!، هذه هي الصورة الحقيقية لعراق اليوم كما وصفها الشاعر الرصافي قبل سبعين حولا!!

المهم إن حروب الطوائف سواءا تلك المنتظرة لعودة الإمام الغائب أو تلك التي تكفر الآخرين هي اليوم في بطارية الشحن!! أي أن جولات دموية قادمة في الطريق، و لطالما قامت العملية السياسية على أكتاف الأحزاب الدينية و الطائفية المتخلفة فإبشروا بالخراب العظيم، فالخوارج و الزيدية و الراوندية و الزنادقة هم من يتلاعب بالأمن و السياسة في عراق التخلف العظيم... فليتفرج العالم على فضيحتنا التاريخية المضاعفة و المتجددة.. ولا حول و لا قوة إلا بالله.!

داود البصري


[email protected]