قد يكون القضاء من أهم ركائز المجتمع، أيا كان شكل النظام السياسي القائم. وسلامته وترفعه وتجرده هي أكثر من ميزات وصفات، بل هي شروط أساسية لاستتباب الأمن، ولتحقيق المساواة بين جميع المواطنين. وغني عن الذكر دور وأهمية الاستقرار الأمني كونه يأتي في مقدمة سلم العوامل الضرورية لأي تطور اجتماعي، ولأي ازدهار على الصعيد الاقتصادي. والإنسان منذ القدم استشعر أهمية العلاقة العضوية بين ثبات الدولة والعدل. ومقولة quot;العدل أساس الملكquot;، التي تختصر هذه العلاقة، وهي مثل قديم شائع ينسبه البعض للإمام على بن أبي طالب، كما يعتبر آخرون ورده في الحديث الشريف،على لسان عبدالله بن مسعود،أحد الصحابة، وراوياً للأحاديث،quot;، بات شعاراً يرفع لأهميته وصحته، على أبواب قصور العدل في العالم أجمع..

ولصون هذا العدل ولحماية القائمين عليه، كان لا بد من خلق إطار أو تشريع يحيد الهيكلية القضائية عن أي تدخل أو تأثير خارجي، أياً كان مصدره. وبما أن هذا التأثير غالباً ما يأتي من قبل السلطات القائمة،كان لا بد من اجتراع ناموس ثاني قد يساوي بأهميته الناموس الأول، وهو quot;ضرورة فصل السلطاتquot;. أي العمل على إبعاد أي هيمنة أو تدخل من السلطة القائمة على عمل القضاء، وقراره الحر والمتجرد. ومن هذا المنطلق قد لا نستغرب تمسك العقلاء والحكماء من القادة بمبدأ فصل السلطات، صوناً وحماية للجسم القضائي حتى يتمكن من تحقيق المساواة بين المواطنين.

أما الكوارث العظيمة فهي تنشأ عادة نتيجة إشاعة جو من التشكيك بالقضاء وبنزاهته. وترتد التداعيات السلبية لهذا النوع من الحملات، على مختلف قطاعات المجتمع ومكوناته.إذ حين يصبح الجسم القضائي مهدد بالتفكك، يصبح النظام الاجتماعي بكامله معرض للتصدع والانهيار. لأنه في غياب هيبة القضاء من الممكن أن تسود شريعة الغاب، وتقوم الناس على بعضها البعض، في حروب أهلية طاحنة لا يردعها رادع، ولا يحدها خوف من قانون أو عقاب. إن التجريح بالسلطة القضائية هي خطيرة إلى حد، أن السؤال الذي بات يطرح بإلحاح اليوم على الساحة اللبنانية، وحيث يتعرض القضاء اللبناني إلى أشنع وأعتى هجوم منذ نشأة هذه الدولة، هو هل يدري الذين يشنون هذه الحملة المبرمجة على القضاء اللبناني ماذا هم فاعلون؟ فإن لم يكونوا على يقين مما هم فاعلون، وهو أمر مستبعد، فهي كارثة، وإن كانوا يدركون نتائج وتداعيات حملتهم الهجومية، وفجورهم الإعلامي المركز على الجسم القضائي، فهي كارثة أكبر وأعظم، كونها تكشف جزء من المطمور في النوايا، وبعضاً من الأهداف والمرامي. منها على سبيل المثال نية دك أهم ركيزة في النظام القائم، كمقدمة لإحداث انهيار في البنيان، تمهيداً وتسهيلاً لقيام نظام جديد، مغاير للذي هو قائم، بدأنا نرى اسمه مرفوعاً على بعض اللوحات الانتخابية، المروجة لقيام ما يسمى quot;بالجمهورية الثالثةquot;.

يبقى أنه لا بد من كلمة حق تقال، ولشهادة تعلن حول قدرة القضاء اللبناني على الصلابة والصمود. صلابة بوجه الأعاصير، التي عصفت بالكيان اللبناني طوال سنين الحرب الأهلية، والتي أمعنت في كل مؤسسات الدولة تخريباً وتفتيتاً. وصموداً وصداً لكل الضغوط التي مورست عليه إبان فترة الوصاية السورية، والتي سعت لتطويعه وتدجينه.هذا مع العلم واليقين بأن القضاء في النهاية، مهما تجرد وعلى شأنه، يظل عائداً لمهارة بشرية وغير إلهية. وهو بالتالي معرض للخطأ والوهن. ولكن من واجب الشعب أن يحافظ على مؤسساته القضائية. وعندما يوهن أو يضعف عليه أن يسانده ويدعمه، وعندما يخطئ عليه أن يدفعه لعملية تصحيح وتقويم، على أن تكون هذه العملية جراحية، فتعالج مكمن الداء دون سواه من الأماكن، وعلى أن تتم بعيداً عن الأضواء ووسائل العلام، وبشكل شبه عائلي ومتكتم درأً وصيانة لحرمة القضاء، وفعاليته.

وبالعودة إلى مجريات الأحداث في الداخل اللبناني وفي ما خص الاحتفاليات التي تلت إطلاق سراح الضباط الأربعة، فهي تبقى أمراً، والتهجم والتجريح بالقضاء اللبناني الذي رافق هذه الاحتفاليات أمراً آخراً. والجدير بالذكر هنا أن القضاء اللبناني لم يقصر في موضوع توقيف الضباط ولم يرضخ لضغوط سياسية. فهو أولاً أوقف الضباط بموجب توصية خطية من المحقق العدلي ديتليف ميليس، وأبقاهم في السجن حتى من دون توجيه أي تهمة لهم، ولكن بمجرد الشبهة،وهو تصرف غريب طبعاً، ولكن تم بموجب المادة 180 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والذي كان البرلمان اللبناني سعى لإلغاء مفاعيلها الشاذة، أي التوقيف الاحتياطي المفتوح والغير محدود، وفقط بمجرد الشبهة. ولكن مشروع القانون هذا والذي صدر عن البرلمان اللبناني بتاريخ 2 أيار 2001، تم رده من قبل رئيس الجمهورية حينا أميل لحود، مما اضطر مجلس النواب لسحبه. وتم ذلك بتاريخ 16 أيار مايو 2001، أي بعد انقضاء أسبوعين فقط على صدوره عن مجلس النواب. بمعنى آخر الطبخة الذي طبختها القوى الموالية لسوريا حينها، كانت هي، أي رموز فترة الوصاية هذه، أول من ذاق مرارتها. وقد يكون الضباط الأربعة من أول ضحاياها. وعندما تم ترك الضباط الأربعة من قبل القضاء اللبناني، تم ذلك بموجب قرار صدر عن المدعي العام الدولي،دانيال بيلمار، صدق عليه القاضي الدولي دانيال فرانسين وأصبح جاري المفعول في لبنان. ولا بد من الإشارة هنا بأن نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يجيز التوقيف الاحتياطي دون توجيه التهمة الواضحة، على أن يحرره فقط لمدة ثلاثون يوما قابلة للتجديد مرتين فقط، ولا يقر بالمهل المفتوحة أسوة بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني.

ويطالب اليوم الضباط المخلى سبيلهم، والذي تولت قوى 8 آذآر بقيادة حزب الله مساندتهم بتنحي أو استقالة القضاة الذين كانوا مسؤولين عن ملفهم القضائي. وهذا المسعى يعتبر من هذه الناحية تدخل فاقع بعمل القضاء الذي من المفترض أن يكون منزهاً وبعيداً عن أي إملاء وتأثير. وإلا quot;ضاعت الطاسةquot; كما يقول المثل الشعبي اللبناني. لأن القضاء الذي يرضخ اليوم لإرادة طرف أو فئة، يصبح معرضاً ربما غداً لضغوط مماثلة من الطرف المقابل، وسوف يضطر بالنهاية للرضوخ مرة ثانية وثالثة. وهنا مكمن الخطورة، أي من خطورة تحول هذا التدخل إلى سابقة. لأنه من الممكن أن نرى بعضهم وفي همروجة الدفاع عن حقوق الضباط الأربعة المهدورة، وبحجة إحقاق حقوق المظلومين، في سعى حثيث للتأثير على قرارات مجلس القضاء الأعلى المنتظر انعقاده يوم الثلاثاء المقبل للنظر بالأزمة القضائية القائمة. وفي حال رضوخ مجلس القضاء الأعلى لضغوط الشارع كما يجري التهديد بذلك، سوف يحكم على كيانه بالهلاك وتكون بداية النهاية ليس له فقط بل لكل الجمهورية القائمة.

مهى عون


كاتبة لبنانية