فُرض على العراقيين خلال حكم صدام حسين الاحتفالات فى شهر نيسان/ابريل من كل سنة بمناسبتين هما ميلاده وميلاد حزبه. وما أن حل شهر نيسان الماضي الا وبدأت التفجيرات فى كل مكان من العراق وخاصة فى بغداد راح ضحيتها عشرات الأبرياء ما بين قتيل وجريح، مخلفين وراءهم الأرامل واليتامى لينضموا الى مئات الآلاف ممن سبقوهم.
ما هو السبب فى عجز حكومة المالكي فى ايقاف الارهاب والارهابيين؟ من السهل على اي شخص أن ينتقد ويوجه اللوم الى الحكومة، ولكن هل الحكومة وحدها هى الملومة؟ ماذا عن شريحة كبيرة من الشعب العراقي ولأسباب مختلفة اختارت موقفا معاديا للحكومة حتى قبل تشكيلها؟ دعونا نتصارح ونذكر الحقائق كما هى بدون تحيز الى فئة أو طائفة ونركز على مصلحتنا، مصلحة العراق والعراقيين فقط.
ومع كراهيتى العميقة للطائفية والطائفيين، أجد من الضروري التطرق اليها، فعندما يغمض الانسان عينيه فانه لا يرى الناس ولكنهم يروه.
كانت نسبة كبيرة من أبناء السنة، وأستطيع أن أقول أغلبهم، ضد صدام حسين وعصابته، وقدموا ضحايا لا تقل عما قدمه الشيعة من ضحايا، ولكن ما أن أعلن عن تشكيل مجلس الحكم بعد سقوط البعث وظهرت فيه أغلبية شيعية، حتى ذهل السنة وخيل اليهم ان ما حصل كان مجرد تغيير للسلطة ونقلها من السنة الى الشيعة. ومن البديهي أن يقاوم السنة الحكومة الجديدة طالما كان أكثرية أعضائها من الشيعة، وهم الذين تعودوا على حكم العراق منذ أن استولى الأمويون على الخلافة قبل حوالي 1350 سنة.
العراقيون مثل بقية الشعوب فى الشرق الأوسط لا تجربة لهم فى الديموقراطية، فقد تعودوا على الحكم الدكتاتوري والخنوع للحكام، كما تعود الحكام أيضا على الحكم الدكتاتوري وهضم حقوق الشعب. مارس العراقيون حق الانتخاب فى العهد الملكي التى كان يغلب عليها طابع التزوير، ثم قامت (انتخابات) فى العهد البعثي حين اشتهرت نسبة ال99.99 بالمائة من الأصوات للحكام. الشعب العراقي الذى تعود على مر العصور أن يسجد للحكام الطغاة، يحسب أن النظام الديموقراطي الذى يفسح المجال للجميع على قدم المساواة ما هو الا دليل على ضعف الحكومة، فاغتنموا كل فرصة لمقاومتها بعد سقوط آخر دكتاتور سنة 2003 وتمادوا كثيرا فى ذلك.
بالاضافة الى ابناء السنة من غير العراقيين المتعاطفين مع مجرمي القاعدة والذين تسهل لهم بعض دول الجوار الدخول الى العراق لقتل أهله بدون تمييز، فان هناك البعثيين القابعين فى سوريا واليمن الذين هربوا من العراق وتركوا سيدهم فى حفرة العوجة وهربوا معهم مليارات الدولارات لاستخدامها لعودتهم المزعومة الى الحكم. وهناك أيضا بعض المعممين الذين يخضعون لايران وينفذون تعليمات طهران وكل مؤهلاتهم أنهم من عوائل دينية معروفة حشروا أنفسهم حشرا فى العملية السياسية، ولم يكتفوا بذلك فراحوا يؤهلون أبناءهم لاستلام مناصبهم من بعدهم على طريقة الأمويين والعباسيين. وهناك حارث الضاري رئيس ما يسمى ب(هيئة العلماء المسلمين) وولده فى عمان يجمعان الأموال ويتفقان مع البعثيين ومجرمى القاعدة فى محاولة اسقاط الحكم الحالي ويحاولان الآن الاتفاق مع بعض قادة (الصحوة) فى ديالى والموصل.
وهناك الطائفيين فى مجلس النواب الذين اعترفوا بطائفيتهم من أمثال عدنان الدليمي، وهناك النواب المحميين بالحصانة الدبلوماسية الذين يتمسكون بالمناصب لغرض جمع الأموال الهائلة وتهريبها الى خارج العراق، ويقوم أقرباؤهم وأتباعهم بالتفجيرات والقتل والاختطاف، واذا ما طلب منهم حضور جلسة مهمة يتحججون بذهابهم للحج أوالعمرة أو العلاج فى طهران ولندن. وهناك أيضا طالبى الثأر ممن قتل من أهلهم وأحبابهم بحق أو باطل نتيجة الاحتلال، والنزاع الطائفي.
وهناك منتسبي الجيش العراقي السابق الذين فقدوا مصدر عيشهم بعد تسريحهم، فسرق بعضهم الاسلحة من مخازن الجيش وباعوا قسما منها لمن يشتريها واحتفظوا بالباقى لينضموا الى الارهابيين. وهناك أيضا الموظفين ورجال الشرطة الذين عودهم البعثيون على أخذ الرشوة من الناس خاصة حينما بدأت الأمور تزداد سوءا بعد غزو الكويت، حتى أن بعض الاحصائيات الأخيرة تقول أن أكثر من ثلث موظفى الدولة حاليا يبتزون الناس، والفساد قد استشرى الى أكثر مرافق الدولة واشترك فيه على ما نسمع وزراء ونواب ومحافظون يؤازهم البعض من رجال الدين الدجالين، الذين شارك بعضهم حتى فى تهريب النفط.
كان الحكم العثماني يشجع النظام العشائري لكي يجبوا لهم رؤساء العشائر الضرائب والأتاوات. وشجعهم الحكم الملكي لمؤازرته فى حكم العراق. حاول عبد الكريم قاسم القضاء على الاقطاع ولم تتح له فرصة كافية لتنفيذ خططه اذ قتله البعثيون بمساعدة بعض رؤساء العشائر والاقطاعيين.
كان صدام على حذر من رؤساء العشائر، ولكن بعد هزيمته من الكويت غير سياسته وبدأ يغدق عليهم الأموال الوفيرة والسيارات الفارهة، وفى نفس الوقت قام بتوزيع (كوبونات) النفط على الصحف والصحفيين ليمجدوه آناء الليل وأطراف النهار. وقام كل هؤلاء بمعاداة الوضع الجديد فى العراق، تارة باسم الطائفية وأخرى باسم القومية. وتعلم الأمريكيون الدرس القديم من الانكليز فاشتروا ولاء بعض رؤساء العشائر وشكلوا منهم ما يعرف بمجالس الصحوة والتى قام أكثرها بمطاردة مجرمي القاعدة وطرد معظمهم من العراق. بدأ الامريكيون بالتخلى عنهم ووكلوا أمرهم الى الحكومة العراقية التى عجزت عن دفع الرواتب لهم فى مواعيدها بسبب الكساد العالمي الحالى وانخفاض أسعار النفط الى أقل من الثلث ابتداء من الثلث الأخير من السنة الماضية، اضافة الى الرواتب والمخصصات العالية جدا التى تمنح للمسئولين وترهق الخزينة، فبدأ قادة الصحوة يتململون، وأحيانا يهددون الحكومة، وأصبحوا خطرا آخر يهدد سلامة العراق يجب معالجته فورا وقبل استفحاله.
ومن المشاكل المستعصية الأخرى هى مشكلة المهجرين داخل العراق الذى أصبح مقسما الى مدن شيعية ومدن سنية وأحياء سنية وأحياء شيعية، ينظر بعضهم الى البعض الآخر بريبة وعداء. وكذلك المهاجرين الى خارج العراق وخاصة العلماء منهم والأساتذة والأطباء والمهندسين والحرفيين المهرة الذين خسرهم العراق ربما للأبد.
بعض الزعماء الأكراد لا يرضيهم أي شيء أقل من الانفصال عن العراق متى سمحت لهم الظروف بذلك، وهم يتصرفون وكأنهم قد أنفصلوا فعلا وان كانوا يتحدثون عن عراق موحد، فيعقدون الصفقات التجارية وشراء الاسلحة والاتفاقيات النفطية والمعاهدات السياسية، ويعاكسون الحكومة كلما سمحت لهم الفرصة بذلك. وهناك رئيس الجمهورية الكردي الذى يدافع عن (كردية) كركوك والفقرة (المقدسة) رقم 140 من دستور بريمر. وهو يرفض التوقيع على اعدام الخونة والمجرمين الذين أدانهم القضاء، بحجة أن حزبه متفق مع جهة دولية تحرم حكم الاعدام، مقدما بذلك مصلحة حزبه على شعب العراق. ويحاول الزعماء الأكراد ضم أكبر مساحة ممكنة من العراق الى (كردستان)، ومن يدرى فقد يطالبون غدا ب(عكد الأكراد) فى وسط بغداد أيضا!.
إن الاسراع فى المحاكمات وتنفيذ أحكام الاعدام يشكل عاملا أساسيا لاستتباب الأمن. وعلى الحكومة أن لا تلتفت الى أي ضغط من أي جهة كانت لتعطيل أحكام الاعدام، فالعراقيون أعرف بمصلحة بلدهم من غيرهم.
الأمريكيون يواصلون الضغط على الحكومة لتتصالح مع البعثيين الذين أذاقوا شعب العراق مر العذاب على مدى أربعين عاما من حكمهم الدامي، وأدخلوا العراق فى حربين تسببتا فى مقتل مئات الألوف من العراقيين وتدمير البنية التحتية للبلد المخرب. وان ما يحصل اليوم فى العراق هو من تداعيات ذلك الحكم الأرعن و(عنتريات) قائده المقبور. وكل عاقل يدرك أن عودة البعثيين تحت أي غطاء الى الحكم سيؤدى الى تكرارالكوارث التى رافقت حكمهم المباد.
تركيا وايران وسوريا يستعملون نفس السلاح الذى استعملوه مع الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم للحصول على ما يريدون من العراق، وهو سلاح قطع جريان الأنهارالتى تنبع من بلدانهم الى العراق، وسبب ذلك فى عودة الجفاف الى الأهوار وقضى على عدد كبير من المزارع والبساتين. ومن يدرى فلربما سيطلبون من العراق برميلا من النفط عن كل برميل ماء يسمحون بدخوله الى العراق!.
الأردن أكبر مستفيد من مصائب العراق التى بدأ الاردنيون يجنون ثمارها حالما هاجم صدام ايران واضطر العراق بعد اغلاق شط العرب الى استعمال ميناء العقبة الاردني لجلب البضائع والاسلحة عن طريقه، وارغموا العراق الى تزويدهم بالنفط بأسعار مخفضة، وعادوا الى المطالبة بأسعار ومزايا خاصة فى العهد الجديد بحجة تحمل الاردن أعباء اللاجئين اليه من العراقيين، بينما الواقع يقول أن الكثيرين من اللاجئين العراقيين (مليونيرية) وقاموا بانشاء العمارات الضخمة وأسسوا العديد من المصانع، كما أن الملايين من دولاراتهم تملأ خزائن البنوك الأردنية، ومنهم أطباء وعلماء وأساتذة جامعات يعيشون من عرق جبينهم،اضافة الى المبالغ التى يدفعها العراق والأمم المتحدة الى حكومة الاردن لمنفعة اللاجئين العراقيين.
السعودية ساعدت صدام فى هجومه على ايران لا حبا له وانما عداوة للحكم الجديد فى ايران، ولكنها انقلبت عليه بعد غزو الكويت وخوفها من أن يأتيها الدور بعد الكويت. وهى تخشى من أن تقع الحكومة العراقية تحت حكم الملالي فى ايران، وبالغت كثيرا فى ذلك الى حد أنها لا تزال مترددة حول اعادة فتح سفارتها فى العراق وتحث دولا أخرى أيضا على عدم اعادة فتح سفاراتها فيه.
الكويت ومنذ أن طلب منها نورى السعيد الانضمام الى (الاتحاد العربي) الذى عقد بين العراق والأردن لمقاومة طاغية مصر جمال عبد الناصر، وهى تخشى أن تبتلعها جارتها الكبرى فى الشمال، وبدلا من عرفانها بالجميل للحكم الجديد الذى قضى على عدوها اللدود صدام، فانها تطالب بالتعويضات من الشعب العراقي الذى عانى من صدام أكثر مما عانت منه الكويت، ولا أظن أن هذا الاصرار سيكون فى صالحها على المدى البعيد، ولا أظنهم يجهلون ما أصاب الحلفاء الذين فرضوا الغرامات الضخمة الظالمة على الألمان فى الحرب العالمية الاولى وانتقم منهم الالمان شر انتقام فيما بعد فى الحرب العالمية الثانية.
مصر (المحروسة) هى المتضررة الكبرى من سقوط نظام صدام، حيث كانت قد بعثت بملايين العاطلين المصريين الى العراق ليحلوا محل العمال والفلاحين العراقيين الذين قتلوا فى الحرب مع ايران، وازداد عددهم حتى كان يخيل للمرء عندما يتجول فى كثير من محلات بغداد مثل محلة (سيد سلطان علي) أنه يسير فى حارة مصرية. وكان المصريون فى العراق يعبدون (صدام) الذى كان قد فضلهم على العراقيين، وهدد من يعتدى عليهم من العراقيين بأشد العقاب، وقال قولته المشهورة: (ان من يعتدى على مصريا فكأنما يعتدى على صدام حسين نفسه). وأطلق رئيسهم حسنى مبارك تصريحا غريبا يقول فيه بأن ولاء الشيعة هو لإيران وليس للعراق!!، وهو يحلم باعادة ملايين العاطلين المصريين الى العراق، كما شارك فى الحملة التى بدأت قبل أسابيع على الشيعة وامتدت تلك الحملة من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي، وأطلقت خلالها التحذيرات من تسلل المذهب الشيعي من العراق وايران الى الدول العربية السنية، وكأنما يحذرون رعاياهم من مرض الطاعون. وفى خضم تلك الحملة تناسوا أن اسرائيل هي التى تحتل فلسطين وليس ايران، وقام بعضهم بزيارة واستقبال الزعماء الاسرائيليين لاقامة جبهة (موحدة) ضد ايران بقيادة الولايات المتحدة.
للعراق مصالح فى ايران كما لإيران مصالح فى العراق، وكل محايد ومنصف يعترف بأن المصالح بينهما أكثر من مصلحة العراق مع أي من الدول العربية، وان الضغط إن استمرعلى العراق قد يدفع به الى أحضان ايران لا محالة. ويلوح فى الأفق تغيير فى السياسة الأمريكية اتجاه اسرائيل، فقد شدد الأمريكان عليهم بأن يقبلوا بمبدأ الدولتين فى فلسطين والكف عن بناء المستوطنات وازالة بعضها. كما أنهم بدأوا بالتقرب من الايرانيين مما أثار الرعب فى قلوب بعض الحكام العرب وجعل اوباما يسارع الى تطمينهم.
كل هذه الفوضى العارمة التى يغرق فيها العراق والأخطار التى تحيق به لا يمكن لحكومة المالكي ولا لغير حكومة المالكي أن تنقذ العراق منها، الا اذا انتبه شعبه الى ما يحيط بهم من أخطار، فيكونوا يدا واحدة مع الحكومة المنتخبة (على علاتها) ويشترك الجميع فى العملية السياسية والانتخابات المقبلة. يحب أن نتعلم أن نعيش سويا بسلام، ولا نحاسب المواطن العراقي على أصله وفصله ودينه وطائفته ولونه. الشعب الأمريكي ذو الأغلبية المسيحية البيضاء ومن اصول كثيرة متعددة انتخب أوباما الأسود الذى كان أبوه أفريقيا أسودا مسلما، انتخبه الأمريكيون رئيسا ليس لحسبه ونسبه بل على أمل انقاذهم مما ورطهم فيه بوش وحكومته الغابرة، وليكن لنا فى ذلك درسا وموعظة. ان خيارنا هذا سيكون الخيار الأخير وعليه يتوقف مصير بلدنا وسعادتنا وسعادة أطفالنا وأحفادنا من بعدنا. دعونا ننسى الماضى بحسناته وسيئاته ونبدأ من جديد بقلب واحد ويد واحدة، ولا ننسى القول المأثور: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فان لم نفعل فسينهار كل شيء وستسيل الدماء مدرارا فى كل شارع وحارة وسيحاسبنا التأريخ حسابا عسيرا ويلعننا من سيأتون بعدنا الى أبد الآبدين.
عاطف العزي
التعليقات