نهض الملايين على وقع أخبار المجزرة المروعة التي استهدفت عرساً في قرية( Kertecirc;) إحدى قرى ولاية ماردين بكردستان تركيا واسفرت عن مقتل 44 شخصاً معظمهم من الأطفال والنساء. وسائل الإعلام المختلفة في العالم تحدثت عن الخبر وتوقفت عنده طويلاً. ظهر من الوهلة الأولى بأن quot;الحادثةquot; هي نتاج عملية ثأر وإنتقام بين عوائل أو عشائر في المنطقة، وهو أمر مألوف حدوثه في كردستان، وفي الشرق عموماً. لكن هول الكارثة الآتي من ضخامة عدد الضحايا، والوحشية في التنفيذ جعلا من الصعب تصديق هذه الرواية والتي سوقتها الجهات الرسمية التركية. فرغم أن الثأر عادة شائعة ـ كما قلناـ في كردستان، ألا ان التاريخ الكردي القريب لم يشهد مثيل هذه الجريمة، ولم يعمد أي طالب ثأر إلى قتل الأطفال والنساء بهذا الشكل الهمجي والوحشي، وهو متخف وراء قناع يحجب عن الناس شخصيته الحقيقية، وهو ما فعله المهاجمون الأربعة حين تنفيذ الجريمة، بشهادة من شاهدوا تفاصيل المجزرة. من يقتل بقصد الثأر يعمد إلى إظهار شخصيته والضرب وجه لوجه تأكيداً على quot;الرجولةquot; وقضيةquot; غسل العارquot; وquot; الإنتقامquot; وquot;الرد بالمثلquot;. الكردي ليس من عادته قتل النساء والأطفال وضم ذلك إلى حسبة الثأر. وراء هذه الجريمة ما ورائها. الشهود الثلاثة الذين نجوا من حفلة الموت تلك قالوا بأن المنفذين هم عناصر من ميليشيات حماة القرى العميلة للدولة( وهي ميليشيات أسسها الجيش التركي لمحاربة مقاتلي حزب العمال الكردستاني نهاية الثمانينات)، وهذا يعني أن هؤلاء ضالعون في مخطط أكبر منهم، وبالتالي يمكن الإشارة باصابع الإتهام الى دوائر الحرب الخفية في الجيش والإستخبارات التركية. وحتى ولو كانت المجزرة بمبادرة فردية من هؤلاء، فإن هذا لاينفي مسؤولية الدولة التركية، كون الجناة موظفون رسميون لديها( بصفة عملاء ومرتزقة) والسلاح الذي نفذوا به تلك المجزرة، هو سلاح عائد ملكيته للجيش التركي.

شهود العيان الذين أٌثخنوا بالجراح تمكنوا، وهم في في تلك الحالة، من الوصول إلى مدينة ماردين لطلب النجدة وتلقي العلاج، بينما لم يحضر إلى مكان الجريمة أي من عناصر الشرطة المحلية، رغم أن أبعد مخفر عن القرية المنكوبة لايبعد سوى كيلومترين. عناصر الشرطة وصلوا بعد ساعتين بالتمام والكمال. وصلوا بعد أن افرغ الجناة 1200 طلقة في رؤوس ضحاياهم. وهو الأمر الذي يلقي بمزيد من ظلال الشك على القضية. شهود العيان قالوا بأن المهاجمين المقنعين أرادوا قتل كل الحضور ولم يغادروا إلا حينما تأكدوا من أمر مقتل الجمع الحاضر كله. وأضاف هؤلاء بأن النية كانت تتجه بعد ذلك في إتهام حزب العمال الكردستاني بالمسؤولية عن الحادث، حيث نقلت بعض وسائل الإعلام التركية ساعة وقوع تلك الجريمة أخباراً عن quot; مواجهات وقعت في المنطقة بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني وعناصر حماة القرىquot;، وهو الأمر الذي فٌسر بأنه كان التمهيد والتوطئة لتحميل الكردستاني مسؤولية هذه المجزرة.

السلطات التركية وبعد شهادة الناجين راجعت نفسها وغيرت من خططها، وشنت حملة إعتقالات في صفوف عناصر ميليشيات حماة القرى وبدأت تروّج بأن العملية هي ثأر بين عائلتين متنافستين في المنطقة. وبدأت السلطات بمصادرة كم الأسلحة والقنابل التي كان الجيش قد سلمها لهؤلاء ليقاتلوا بها حزب العمال الكردستاني.

ثمة مخطط تركي لخلق صدام دموي كبير بين الأكراد في تركيا. فبعد الإنتصار الكبير الذي حققه حزب المجتمع الديمقراطي( الجناح السياسي للعمال الكردستاني) في الإنتخابات البلدية الأخيرة والتي جرت في 29/03/2009 وإستحواذه على أغلب بلديات مناطق وولايات كردستان، بدأت حملة الترهيب والإعتقالات بحق كوادره القيادية. الحكومة التركية تريد ضرب المجتمع الديمقراطي واجهاض الإنتصار الذي حققه بأي ثمن. ولعل مراكز الحرب الخفية( وهي تضم جنرالات كبار في الجيش والإستخبارات، يعملون بعلم الحكومة وبدون علمها) تحركت هي أيضاً لكي تنال من الكرد وتخلق فتنة كبيرة بينهم، مستخدمة عناصر الإرتزاق والعمالة في ميليشيات حماة القرى، والهدف هو إرتكاب المجازر والجرائم، ومن ثم إتهام العمال الكردستاني بالمسؤولية عنها، لتشويه صورته والتأثير في شعبيه.

ملف الميليشيات العميلة ملف شائك وكبير. وقد دعى احمد ترك، رئيس حزب المجتمع الديمقراطي، الرئيس التركي عبدالله غول( خلال لقاءه أمس به) إلى حل هذه الميليشيات ونزع سلاحها ووضع حد لإرهابها ضد المواطنين.

أمام إصرار الحكومة التركية على الحرب ومواصلة سياسة الحسم العسكري، وأمام حملات التمشيط التي يقوم بها الجيش لايمكن للمرء أن يتفائل بشأن الوصول إلى حل سياسي قريب للقضية الكردية. فمع إرتكاب مراكز الدولة الخفية في تركيا لمثل هذه الجرائم، تعود البلاد إلى نقطة الصفر، حيث تخفت أصوات العقلاء ويرتفع صوت السلاح والجنرالات. وهو الأمر الذي حذرّ منه الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان في تصريحاته الأخيرة، وقال بأن جعل القضية أسيرة لحملات الحرب التي يشنها الجيش وعمليات رد المقاتلين الكرد عليها، لن يكون في مصلحة أحد.

كان من الممكن أن تقتنص الحكومة التركية فرصة تصدر حزب المجتمع الديقراطي الإنتخابات في كردستان وتفٌهم الجيش أن هؤلاء هم ممثلوا الكرد المنتخبين، وانه لامناص من الحوار معهم بغية حل القضية الكردية والإعتراف بحقوق الشعب الكردي وبهويته والإنصراف لبناء البلاد. لكن ماحصل شيء آخر، حيث رضيت حكومة حزب العدالة والتنمية بتكليف الجيش مرة أخرى بالحل، والتهرب من المواجهة والحوار، وهو مايعني مزيد من الدماء والدموع في المرحلة القادمة. فتكليف الجيش بمهمة فشل في إنجازها طيلة ربع قرن وأحرق في سبيل الفلاح فيها الأخضر واليابس، يعني الهرولة في نفس دائرة الدم تلك، والعودة إلى المربع الأول الخطر من جديد...

طارق حمو
[email protected]