تفاءل المشاهد المصري كثيراً حين بدأت الفضائيات الخاصة في بث برامج التوك شو، والتف لمشاهدة هذه البرامج لارتفاع سقف الحريات فيها والجرأة في طرح الموضوعات بشكل لم يعتده في الإعلام الحكومي، لكن يبدو أن التفاؤل لم يدم طويلاً، فما لبثت أن تراجعت هذه البرامج خطوات إلى الخلف في الأشهر الأخيرة، وهو ما عزاه البعض إلى عدة أسباب، من بينها صدور وثيقة تنظيم البث الفضائي من جانب وزراء الإعلام العرب.


المياه الراكدة التي حركتها هذه البرامج، بعد أن ألقى فيها مقدموها بحجر عادت للركود مرة أخرى، وبالتالي فإن الحجر الذي كان يفخر أحد مقدمي هذه البرامج برميه في المياه الراكدة لم يعد موجوداً، لأنه لم تعد هناك قضايا ساخنة، فبرنامج quot;تسعون دقيقةquot; الذي يقدمه معتز الدمرداش صاحب التجربة الطويلة في التليفزيون المصري وإذاعة صوت أمربكا quot;سوا حالياًquot; وقناة إم بي سي وقناة دبي وبرنامج quot;العاشرة مساءًquot; الذي تقدمه منى الشاذلي صاحبة التجربة في قنوات إيه آر تي باتا يقدّمان فقرات خفيفة بعيدة عن هموم المواطن المصري.


هذه البرامج في بداياتها طرحت بعض الأحداث الساخنة بشكل أحرج التلفزيون الحكومي وسرق المشاهدين منه ولذلك كانت محاولات الأخير أن يطور نفسه، فحدث تغيير ملحوظ في شكل الشاشة لا المضمون وبدأ بتقديم عدد من البرامج المشابهة المحكومة بسياسة معيّنة وخط أحمر لا يمكن تجاوزه، مثل quot;حالة حوارquot; لعمرو عبد السميع، وهو ما جعل هذه البرامج تفقد بريقها بسرعة أمام سقف الحريات المرتفع إلى حد ما في برامج الفضائيات الخاصة التي ما لبثت في التراجع هي الأخرى.


وخفت بشكل لافت حدة النقد للمسئولين الحكوميين،وتسابق برنامجا quot;تسعون دقيقةquot; وquot;العاشرة مساءًquot; على تقديم فقرات خفيفة من باب الحشو وملء ساعات الإرسال وتعبئة الهواء، فتراجعت نسبة المشاهدة لهذه البرامج، ولا أستبعد إذا ظلت هذه البرامج على حالها أن تفقد جمهورها، لتصبح نسخة من البرامج المقدمة في القنوات الحكومية.


يرجع إقبال المشاهد المصري على متابعة عدد من البرامج الحوارية ومن بينها برنامج quot;القاهرة اليومquot; على قناة أوربت وquot;العاشرة مساءًquot; على قناة دريم وquot;تسعون دقيقةquot; على قناة المحور وquot;البيت بيتكquot; على الفضائية المصرية وquot;الحياة اليومquot; على قناة الحياة يرجع إلى نكوص الإعلام الحكومي عن القيام بدوره كما ينبغي واكتفائه بلعب الدور الدعائي المباشر للنظام.


أضف إلى ذلك فقدان المشاهد للثقة فيما يقدِّمه الإعلام الحكومي من برامج بالإضافة إلى ضعف مستوى مقدمي البرامج وافتقارهم إلى الصفات التي يتمتع بها المحاور ودخولهم هذا المجال من الأبواب الخلفية بدون مؤهلات حقيقية يتمتع بها هؤلاء الذين لهم تجارب في قنوات فضائية بدأت في لندن واستقرت في دبي.


فضلاً عن أن المذيع في القنوات الرسمية لا يستطيع وهو يحاور المسئول أن يضعه في قفص الاتهام أمام المشاهد، لأنه هذا المذيع في النهاية موظف لدى الحكومة، ومن ثمّ فإن البرنامج يفقِـد مصداقيته وأهميته وبالتالي مشاهديه، في وقت ترفع فيه الفضائيات هذه الحساسية وتكسر حاجز الخوف فلا يستطيع المسئول المراوغة وتأتي إجاباته وردود فعله على قضية ما مقاربة للواقع الذي يعيشه الناس.


هذه الأمور تدفع معظم الناس إلى الالتفات للإعلام المضاد للحكومة، لأنه يجد من الحكومة وعوداً تطرحها في إعلامها كمجرد تطمينات في حين تتزايد المشاكل يوماً بعد يوم، من معدلات البطالة، وغلاء فاحش، وفساد طال كل شيئ، لذلك فقد المصريون ثقتهم في الإعلام الحكومي واتجهوا لبرامج التوك شو التي وجدوا فيها متنفساً لطرح مشاكلهم وبالتالي طرح معاناتهم على الملأ.


ومن إيجابيات هذه البرامج إن بعض هذه المشاكل تلاقي استجابة من المسئولين، الذين يحرصون على الظهور في هذه البرامج أو المشاركة عبر الأقمار الاصطناعية أو من خلال الاتصال التليفوني، لأن هؤلاء المسئولين يدركون أن رسائلهم تصل بشكل قوي من خلال هذه البرامج، لذلك يطرحون مبرراتهم وتفسيراتهم ووِجهات نظرهم لما اتخذوه من قرارات ويردون في الوقت نفسه على ما يُطرح من اعتراضات وانتقادات لسياساتهم.


وعلى الرغم من أن هذه البرامج استطاعت في فترة زمنية بسيطة أن تجذب ملايين المشاهدين العرب والمصريين على وجه الخصوص وأن تأخذهم معظم الوقت، من القنوات الأرضية، والفضائية الحكومية، إلا أن كثيراً من الخبراء والمتابعين يأخذون على هذه الفضائيات عموماً وعلى برامج الـ quot;توك شوquot; منها على وجه الخصوص أنها: ترتبط باسم مقدّميها، ويوجد تشابه يكاد يصل إلى حدّ التطابق بين مواضيعها وضيوفها، فنفس القضايا تتابعها في كل البرامج وحتى الضيف تجده ضيف بالأستوديو في برنامج وتجده على الهاتف في برنامج أخر يذاع في نفس الفترة.


ولاشك أن تأثيرات الأزمة المالية العالمية انعكست على الفضائيات بسبب الركود الاقتصادي الذي أثر بشكل واضح في سوق الإعلانات المرتبط بهبوط البورصة وانخفاض أسعار البترول، وكان من الطبيعي أن تبدأ هذه المحطات التلفزيونية في ترشيد نفقاتها، وإعادة النظر في إنتاج البرامج الكبيرة ذات الميزانيات الضخمة خاصة المنوعات التي تتطلب مبالغ طائلة لاستضافتها نجوم الفن الذين يتقاضون أجورا ًكبيرة.


وقد تكون الأزمة المالية العالمية ذات تأثير ايجابي على الفضائيات، فتختفي مثلا البرامج التي لا تحمل مضموناً ولا أهدافاً وبالتالي يختفي مقدمو هذه البرامج أو يعودوا إلى مهنهم الأصلية، بعيداً عن الأضواء التي أغرت بعضاً من الصحفيين الذين لا يمتلكون مؤهلات للعمل كمقدمي برامج سعياً وراء الشهرة، وتحسين أوضاعهم المادية، كما أنه لابد من الابتعاد عن الأفكار المكررة خاصة وأن بعض القنوات المصرية الخاصة وضعت برامج جديدة على خريطتها لا ضرورة لها، وربما كان من الأفضل لهذه القنوات أن تكتفي بتطوير البرامج الموجودة بالفعل والتي قد يرتبط بها المشاهد مرة أخرى، إذا رفعت سقف الحريات وطرحت همومه، قبل أن يعود مجدداً لفضائيات أخرى لها أجنداتها وتبث من دول أخرى.


فؤاد التوني
إعلامي مصري