قبل ايام احتفلت quot;المنظمة الآثورية الديمقراطيةquot; بالذكرى الثانية والخمسين لتأسيسها من قبل مجموعة من الطلبة الآشوريين في الجزيرة السورية،حيث التجمعات الآشورية وانتشار المدارس والنوادي والجمعيات السريانية،والمناخ السياسي الليبرالي الذي ساد سوريا آنذاك وجرت فيه 1954 انتخابات برلمانية حرة وديمقراطية في ظل تنافس حاد بين مختلف التيارات والكتل الوطنية على المستقبل السياسي للدولة السورية الناشئة.تلك التجربة الديمقراطية الفتية تم وأدها والتضحية بها من قبل القوميين العرب لأجل شعارات خاوية وأوهام قومية،كادت أن تلغي الوطن السوري من الخارطة السياسية العالمية والتفريط به باسم quot;الوحدة العربيةquot; مع مصر التي زرع نظامها الشمولي بزعامةquot;جمال عبد الناصرquot;بذور الاستبداد والدكتاتورية في البيئة السياسية السورية،ودعمه لانقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة آذار 1963في سوريا واحتكاره لها.


بلا ريب،ان تأسيس المنظمة الآثورية الديمقراطية شكل نقلة نوعية في التاريخ السياسي المعاصر للآشوريين السوريين.فرغم الامكانيات، السياسية والثقافية، المتواضعة لهؤلاء الطلبة الآشوريين،تحلوا بالجرأة والشجاعة وتحملوا مسؤولية تأسيس أول تنظيم سياسي آشوري في سوريا ليكون نواة لـquot;حركة تحرر آشوريةquot; معاصرة،لشعب أثقلت كاهله حروب ومذابح فظيعة،ونالت منه كل القوى الشوفينية والحكومات العنصرية في المنطقة لمحو وجوده وطمس هويته القومية.ورغم المصاعب والتحديات وعمق الجراح تطلعت تلك المجموعة الآشورية الى نيل الآشوريون حقوقهم القومية والديمقراطية المشروعة في وطنهم الأم quot;سورياquot; التي تحمل اسمهم و تحتضن جزء كبير من تاريخهم وثقافتهم، الوثنية والمسيحية.في ضوء الدستور الذي وضعوه للمنظمة الآثورية لم تكن القضية القومية بالنسبة لمؤسسي المنظمة الآثورية فقط بعض الحقوق للآشوريين السوريين،وانما كانت تعني لهمquot;حق تقرير المصيرquot;للشعب الآشوري في موطنه التاريخيquot; بلاد ما بين النهرينquot;.جاء في المبدأ الخامس من الدستور:quot; للشعب الآشوري الحق في أن يعيش وينال حقوقه القومية المشروعة في أرض الآباء والاجداد(بلاد مابين النهرين) بالتساوي مع باقي القوميات الموجودة في المنطقةquot;. لتحفيز الآشوريين على العمل القومي والانخراط في صفوف المنظمة الآثورية، روج الآثوريون في ستينات القرن الماضي، الى فكرة quot;وجود مقعد شاغر في الأمم المتحدة، مخصص لمندوب الدولة الآشورية التي ينتظر العالم قيامها في بلاد ما بين النهرينquot;.رغم طوباوية الفكرة، شكلت عامل جذب واستقطاب لعدد ليس بقليل من الآشوريين، ومن مختلف الطوائف.فكرةquot;المقعد الآشوريquot; لم تأت من فراغ، وانما هي مستوحاة من شعارات ومطالب quot;حركة التحرر الآشوريةquot; في عشرينات القرن الماضي،التي أوصلت،بفضل نضالاتها وتضحياتها الكبيرة، القضية الآشورية الى quot;عصبة الأممquot;كاحدى أبرز قضايا المنطقة.وقد وعدت، دول الحلف (البريطاني الفرنسي)، الآشوريون بعد مشاركتهم في الحرب العالمية الأولى الى جانبها، بمنحهم استقلالاً سياسياً وفق مبادئ quot;الأربعة عشرةquot; للرئيس الأمريكي ويلسون التي وضعها عام 1918 لانهاء الحرب،وتحديد مصير الشعوب المستعمرة من قبل الامبراطورية العثمانية.لكن(بريطانيا وفرنسا)اللتان وضعتا اتفاقية quot;ساس بيكوquot;،التي بموجها أنشأت الدول العربية في المنطقة، غدرت بالآشوريين ورأت في quot;الدولة الآشوريةquot; تهديداً لمصالحها الاستراتيجية في quot;الشرق الأوسطquot; الذي أرادته بؤرة توتر وتخلف دائمين، لتسهيل الهيمنة والسيطرة عليه.


لأسباب ذاتية وموضوعية، تعرضت quot;المنظمة الآثورية الديمقراطيةquot; خلال مسيرتها الطويلة الى انتكاسات سياسية وهزات تنظيمية كثيرة تسببت في تقويضها وانحسار وجودها، حتى اضحت اليوم،بعد أكثر من نصف قرن على انطلاقتها، مجرد يافطة سياسية، من غير رصيد جماهيري في الشارع الآشوري والسوري،رغم نمو الحالة الآشورية في سوريا.وبدلاً من أن يعمل الآثوريون الجدد على انقاذ منظمتهم المترهلة وتعزيز الروح الوطنية و القومية وترسيخ المفاهيم الديمقراطية في المجتمع الآشوري، وعوضاً من أن يجعلوا من quot;المؤتمرات العامةquot; مناسبة لمراجعة الذات وفرصة لتجاوز الأخطاء والثغرات، انغمسوا بالفساد وحولوا المؤتمرات الى حلبة للتأمر على البعض ولنسج الدسائس لتصفية الخصوم والمنافسين وابعاد المخلصين ليسهل عليهم السيطرة على المنظمة الآثورية. وقد نجح بعض المراهقين السياسيين، في المؤتمر العام الأخير بفضل خبرتهم الطويلة في حبك المؤامرات وممارسة التضليل على رفاقهم والتغرير بهم، نجحوا في خطف المنظمة الآثورية وجعلها رهينة نزواتهم وأهوائهم الشخصية،التي قادتهم الى التعاطف والتضامن،وربما العمل، مع قوى كردية تسعى لاستنساخ التجربة العراقية في سوريا،رغم كل ويلاتها ومآسيها،على العراق وشعوب العراق، وبشكل أكثر على الآشوريين والمسيحيين عامة.في اطار هذا النهج المخالف لمبادئ وأهداف المنظمة الآثورية والمتعارض مع خطها الوطني، ورغم تحفظ حليفهم quot;الحركة الديمقراطية الآشوريةquot; العراقية، قام قبل أشهر وفد قيادي من المنظمة بزيارات مشبوهة وذليلة الى الشمال العرقي والتقى بشخصيات سياسية في حكومة الاقليم الكردي.ولاثبات حسن نواياهم وثباتهم على موقفهم الداعم ليس لمشروع ما يسمى بـquot;كردستان العراق فحسب،وانما لما يسمى بـquot;كردستان سورياquot; ايضاً،سارع القائمون على المنظمة الآثورية الى مصادرة رأي غالبية رفاقهم واصدار بيان باسمهم أشادوا فيه بالحكومة الكردية و هنأوا الشعب الآشوري بتضمين مشروع الدستور الكرديquot;حكماً ذاتياًquot; للآشوريين ولبقية الأقوام الصغيرة في الاقليم الكردي.حكماً ذاتياً ملغوماً،لا حياة له، يستحيل تحققه في ظل الموانع والشروط التي يضعها الدستور ذاته، روجت له حكومة البرزاني لأغراض انتخابية وسياسية بحتة،ولكسب الآشوريين والمسيحيين الى طرف الأكراد في حال نشوب صراع عربي كردي، وهو أمر وارد جداً حصوله في ضوء تطورات وتعقيدات المشهد العراقي.خاصة اذا ما أصر الأكراد على ضم كركوك وسهل نينوى ومناطق عراقية أخرى واسعة ورد ذكرها في الدستور الكردي الذي وصفه البعض من العراقيين بـquot;قنبلة موقوتةquot; ألقت بها الحكومة الكردية لتفجير الوضع العراقي.من دون شك، أن أي حرب عربية كردية قادمة في العراق ستجلب مزيد من الويلات على شعوب العراق وبشكل مضاعف على الآشوريين والمسيحيين، الغير قادرين على تحمل أعباء مزيد من الحروب والصراعات.تجدر الاشارة هنا الى أنquot;الثورة البرزانيةquot;ضد الحكم العربي،ابتلعت معظم المناطق التاريخية للآشوريين في الشمال العراقي.ثم جاءت حملات الترحيل والتطهير العرقي،التي قامت بها الحكومات العراقية المتتالية في ستينات وسبعينات وثمانيات القرن الماضي،لتقوض ما تبقى من وجود آشوري في العراق.


رغم الأمن النسبي الذي تنعم به شعوب الشمال العراقي في ظل الحكومة الكردية لا يشعر الآشوريين والمسيحيين بالاستقرار والاطمئنان لمستقبلهم،وذلك نتيجة مشاريع التكريد والسياسات الشوفينية والممارسة العنصرية التي تمارس بحقهم والانتهاكات المستمرة لحقوقهم من قبل حكومة البرزاني والقوى المتنفذة فيها. وقد كتب الكاتب الكردي العراقيquot;نزار آغريquot; عدة مقالات في الصحافة العربية صور من خلالها بكل موضوعية وأمانة الواقع المزري للأشوريين ماضياً وحاضراً في ظل الحكومة العربية في بغداد وفي ظل الهيمنة الفعلية للحزبين الكبيرين المسيطرين على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الاقليم الشمالي منذ عام 1991.من هذه المقالاتquot;عندما تتحول الضحية الى جلادquot;وquot;عندما يستكرد الأكراد، السريان والكلدان والآشوريينquot;نقتبس بعض ما جاء في هذا الأخير:quot; إنهم شعب(السريان الكلدان الآشوريين)، انتقم منهم التاريخ كثيراً. أزال الفرس امبراطوريتهم. ثم أكمل العرب الإجهاز على ميراثهم وأقام الترك لهم المجازر وشارك الأكراد في التنكيل بهم...هؤلاء أحفاد ذلك القوم المتعدد الذي أقام حضارة عريقة نهضت على أيديهم في العراق منذ آلاف السنين. هم الذين شيدوا بابل ونينوى وأنشئوا المكتبات وسنّوا القوانين وبنوا ممالك وامبراطوريات عريقة...هم ليسوا الآن على ذلك القدر من القوة والمهابة. إلا انهم ما زالوا هناك حاملين تاريخهم وتراثهم ولغتهم وثقافتهم وإرادتهم في أن يصمدوا ويعيشوا ويظفروا بالحرية. أربيل (التي يعمد الأكراد، في سلوك عنصري واضح، إلى تبديل إسمها بإسم هولير وذلك طمساً لماضيها السرياني، الآشوري. أربيل بالسريانية اختصار لكلمة أرب إيلو أي الآلهة الأربعة). لا يُنظر إليهم أحد كشعب له الحق في أن يقرر مصيره بنفسه. حكومة بغداد والحكومة الإقليمية في كردستان تهملان حقوقهم. لا تباليان بمطالبهم. لماذا لا يحق لهم إقامة كيانهم الذاتي بالشكل الذي يقرره هم لا الآخرون؟ هل ينبغي أن يعمدوا إلى إعلان التمرد وخلق المشكلات وإصدار البيانات التي تفضح ما يجري بحقهم أمام الرأي العام العالمي حتى يتم الإلتفات إليهم؟..quot;.
وفق معطيات الحالة العراقية الراهنة،وفي ضوء تشرذم الموقف الآشوري،بات جلياً أن quot;القضية الآشوريةquot;في العراق بكل أبعادها ومضامينها،السياسية والوطنية والانسانية،تم اختزالها بعدد من المقاعد الهزيلة للأشوريين(كلدان/سريان) في حكومة وبرلمان ما يسمى بquot;كردستان العراقquot;وببعض quot;الحقوق الدينية والاداريةquot; في بلداتهم في سهل نينوى الذي سيضم قسراً الى الاقليم الكردي.هذا السيناريو الكردي المرسوم للآشوريين والمسيحيين العراقيين وضع بموافقة المحتلين الأمريكيان وهو يحظى بمباركة بابا الفاتيكان،لأقفال، والى الابد، ملف quot;القضية الآشوريةquot; في العراق، التي عمرها من عمر الدولة العراقية.


أخيراً: أن تجدد الهجمات على الكنائس في المدن العراقية،وفشل حكومة المالكي في توفير الحماية الوطنية لمسيحيي العراق واخفاقها،وعدم رغبتها، في الكشف عن الجهات الضالعة بعمليات قتل وتهجير جماعي لهم في نينوى تشرين الأول 2008، أكدت على أن لا خلاص لمن بقي من الآشوريين والمسيحيين في العراق سوى بتوفير منطقة آمنة لهم بحماية ورعاية دولية، على غرار المنطقة الكردية التي مازالت quot;محمية أمريكيةquot; رغم الامكانيات القتالية والبشرية والمادية لأكراد العراق.لهذا على الزعامات السياسية والروحية الآشورية السريانية الكلدانية بدلاً من أن تتقاتل على التسمية عليها أن تتحرك سريعاً والقيام بحملة كبيرة على الساحة الدولية لكسب وتأييد المجتمع الدولي مع قضيتهم في العراق وحثه على التحرك لأجل توفير quot;منطقة آمنةquot; لهم باعتبارهم شعب مهدد بوجوده.

سليمان يوسف يوسف
آشوري سوري مهتم بقضايا الأقليات
shosin@scs-net