بعد انتصار انتفاضة آذار 1991م لم يكن أمام شعب كوردستان إلا خيار الديمقراطية وبناء المؤسسات وفق ذلك الخيار بعد أن انسحبت معظم إدارات الحكومة المركزية وخبرائها وفنييها وكل ما يتعلق بإدارة المجتمع والحياة من معظم إقليم كوردستان العراق حيث تركت ثلاث محافظات مدمرة في بنيتها التحتية ومواردها المالية وفرضت عليها حصارا مزدوجا مع الحصار الاممي الذي شمل كل العراق، وضاعفت قبضتها الاستبدادية على الأجزاء الأخرى في كركوك والموصل وديالى بمواصلتها لسياسة التطهير العرقي والتعريب والتغيير الديموغرافي لتلك المدن والبلدات ذات الأغلبية الكوردية.


لقد ورثت الجبهة الكوردستانية التي قادت الانتفاضة ( وهي ائتلاف بين الديمقراطي والاتحاد والشعب والاشتراكي ) أكثر من أربعة آلاف قرية تم تدميرها وإزالتها من الوجود بسكانها البالغ عددهم قرابة المائتي ألف من الرجال والشيوخ والنساء والأطفال الذين ابتلعتهم صحراوات السماوة والنجف وبادية الحضر في ما سمي بمعارك الأنفال التي انتهت بقصف مدينة حلبجة والعديد من المدن والقرى الأخرى بالأسلحة الكيماوية في أبشع عملية قتل جماعي منذ كارثة هيروشيما وناكازاكي في الحرب العالمية الثانية.
ورغم كل هذا الإرث والتحديات التي خلفتها ممارسات النظام السابق في هذه المناطق من كل النواحي قررت الفعاليات السياسية التي تقود المجتمع إجراء انتخابات عامة لتأسيس برلمان وحكومة وطنية منتخبة مباشرة من الشعب ولأول مرة في تاريخ العراق المعاصر وإقليم كوردستان، لينبثق المجلس الوطني الكوردستاني وينتخب حكومة إقليمية تبدأ اولى مهامها في صناعة حاضر جديد دون ما الالتفات إلى الماضي إلا بما يدفعها إلى الأمام.


لقد كانت اولى تلك التحديات هي مدى قبول المحيط الإقليمي لهذه البذرة بل وكيفية التصدي لمحاولات إجهاضها أو على الأقل عدم السماح لها بالإنبات، وهذا ما حصل فعلا حيث اجتمع كل المختلفين في المحيط على إجهاضها والعمل من اجل عدم السماح لنموها أو حتى إنباتها من خلال تكريس الحصار وإشاعة الفرقة والفتنة والاقتتال الداخلي بين القوى السياسية بما يمنع أي تطور للتجربة الديمقراطية في الإقليم ومن ثم تحقيق الأهداف المرجوة لعموم الأهالي الذين كانت لهم وقفتهم الحاسمة في نجاح التجربة وفشل الانقسام والاقتتال الداخلي والانطلاق في ائتلاف سياسي واجتماعي من اجل بناء كوردستان وتقدم شعبها.


وخلال عدة سنوات أنجزت مؤسسات الإقليم التشريعية والتنفيذية وفي كافة مجالات الحياة ما عجزت عنه كل الحكومات المتعاقبة على حكم العراق خلال أكثر من ثمان عقود منذ تأسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي وحتى انهيارها في مطلع عام 2003م، وربما كان السلم والأمن الاجتماعيين أهم ما أنجزته تلك المؤسسات بالتعاون مع المجتمع ومنظماته المدنية حيث قضت على ظاهرة الانتقام وتصفية الحسابات على خلفية تلك الثقافة البائسة التي زرعها النظام السابق من خلال ميليشياته العشائرية المسلحة التي شكلها وكان يستخدمها في حربه مع الثوار، فقد نجحت تلك المؤسسات بدءا بالجبهة الكوردستانية وانتهاءً بالبرلمان من أن تشرع قانونا للعفو العام يؤسس لثقافة التسامح وإعادة اللحمة للمجتمع ومكوناته، وأن تنجز حاضرا اجتماعيا متميزا يقود عملية السلام وتوحيد الإدارتين التي أفرزتها الحرب الأهلية والانتقال إلى الاندماج الكلي للمجتمع والإدارة تحت سقف المصالح العليا للإقليم بالتعاون مع كل القوى الخيرة في المنطقة والعالم.


أن السلام والأمن الاجتماعي الذي تميز به الحاضر الكوردستاني وفر الأجواء المناسبة للانطلاق إلى بناء الإقليم وبنيته التحتية وفي مقدمة تلك الأجواء هي الانفتاح العربي والدولي، حيث نجحت تلك المؤسسات في عقد أول اجتماع عربي كبير في العاصمة اربيل للاتحاد البرلماني العربي في آذار 2008م بحضور أكثر من 150 شخصية تمثل 19 بلدا عربيا نجحت في إزاحة الكثير من تلك الصور المشوهة التي رسمتها ماكينة الدعاية الشوفينية عن تجربة الإقليم بل وساهمت في إرساء علاقات جيدة مع معظم البلدان العربية وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية والجمهورية العربية السورية وليبيا والكويت والسعودية والأردن وقطر الإمارات العربية التي زارها جميعا السيد مسعود بارزاني بصفته رئيسا لإقليم كوردستان العراق.


لقد أنجز البرلمان مجموعة من القوانين تتيح انتقالا نوعيا للعلاقات الاجتماعية والسياسية للمجتمع ومؤسساته ومن أبرزها قانون الاستثمار وقانون الصحافة وقانون تنمية الإنتاج الزراعي ومشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية وقانون مجلس الشورى ومشروع قانون دستور إقليم كوردستان، فضلاً عن إعلان رئيس برلمان الإقليم عن قرب مناقشة قانون السلطة القضائية وقانون الرقابة المالية مشيراً إلى أهمية استقلال السلطة القضائية وديوان الرقابة المالية.


وفي الجانب الآخر نجحت حكومة إقليم كوردستان في إرساء قاعدة علاقات دبلوماسية وتجارية وصناعية مع معظم دول العالم ( أكثر من عشرين قنصلية وممثلية في العاصمة اربيل ) في أمريكا وأوربا واسيا ودول المحيط الإقليمي مثل تركيا وإيران التي أصبحتا شريكتان مهمتان في التجارة والاستثمار الصناعي والسياحي مع إقليم كوردستان، إضافة إلى عشرات الشركات العالمية المهمة التي تستثمر أموالها وخبرتها في مجالات الصناعة والنفط والمصارف والسياحة بما يؤمن حاضرا مزدهرا ومستقبلا واعدا للإقليم والعراق عموما، وفي هذا السياق افتتحت العديد من ممثليات الدول وقنصلياتها في العاصمة اربيل وكان آخرها القنصلية الفرنسية التي افتتحها وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير في نيسان 2008م اثر زيارته للإقليم العام المنصرم، إضافة إلى قنصليات بريطانيا والمانيا وروسيا والتشيك وكرواتيا وايران ومكتب العلاقات الأمريكية والكثير من الممثليات التجارية لدول اوربا واسيا، إضافة إلى العديد من جمعيات الصداقة بين شعب كوردستان وبقية الشعوب العربية والأجنبية التي افتتحت مقراتها في الإقليم.
وفي حقل النفط والغاز نجح الإقليم بمؤسساته المختصة من اكتشاف واستثمار حقول جديدة للنفط والغاز بما يؤهله لسد حاجاته المحلية ويتجاوز ذلك إلى التصدير وهذا ما حصل فعلا في الأول من حزيران هذا العام حيث بدأ الإقليم بتصدير نفطه المنتج لأول مرة عبر الخط التركي إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط بطاقة ابتدائية هي مائة ألف برميل يوميا قابلة للزيادة إلى نصف مليون برميل خلال عام واحد. وفي نفس الاتجاه تعمل الشركات المحلية والعالمية في إنشاء مصافي مهمة للبترول في الإقليم ومحطات كبيرة لإنتاج الطاقة الكهربائية بما يسد حاجة السكان وينهي أزمة الكهرباء المستعصية.
وفي مجال التعليم والتعليم العالي انتقل الإقليم إلى نظام تربوي متطور بأجرائه عملية تحديث شاملة للمناهج والأساليب والنظم المستخدمة في الإقليم بعد أن اقر البرلمان عملية التحديث وتغيير المناهج السابقة واعتماد احدث المناهج والفلسفات التربوية الحديثة من خلال فتح المئات من المدارس الحديثة وكليات التربية الأساسية لتخريج كادر تعليميي بمستوى عملية التحديث والتغيير والتطور الكبير في أعداد التلاميذ الذي أصبح اليوم مليونا و320 ألف تلميذ وتلميذة من رياض الأطفال وحتى الثانوية بعد أن كانوا 580 ألفا في عام 1991م، يدرسون في أكثر من 5110 مدارس بعد أن كانت لا تتجاوز 1310 مدارس في 1991م، يعمل فيها 83 ألف معلم ومدرس بعد أن كانوا 22 ألفا في عام 1991م..
وفي حقل التعليم العالي والجامعات حيث كانت هناك جامعة واحدة في الإقليم عام 1991م هي جامعة صلاح الدين التي كانت تضم سبعة كليات و81 قسما علميا و582 تدريسي و سبعة آلاف طالب وطالبة وما يقرب من 18 طالب وطالبة فقط للدراسات العليا وعدد ضئيل من المعاهد ودور المعلمين، أصبح لدينا الآن أكثر من ست جامعات كبيرة وعشرين معهدا تقنيا وثلاث كليات تقنية تضم أكثر من مائة كلية 384 قسما علميا وأكثر من أربعة آلاف كادر تدريسي وألفين من المعيدين وما يقرب من ثمانية عشر ألف موظف و76 ألف طالب وطالبة، منهم 2150 دراسات عليا، تنتشر في معظم محافظات الإقليم وابرز ما يمثل الحاضر في هذا الإقليم الواعد ويميزه هو فتح العديد من الكليات والمعاهد في القرى والأرياف بما يمنح فرصا كثيرة لتطوير هذه المناطق وتقليص الفوارق بينها وبين المدن.
لقد أنتجت هذه الطفرة النوعية في انتقال الإقليم من أوضاعه المتخلفة قبل عام 1991م تحولا نوعيا في حياة المجتمع وفي نمط العلاقات الخارجية مع العالم وبالذات بعد سقوط النظام السابق والانفتاح الكلي للإقليم حيث تحولت عاصمته اربيل إلى مركز للمعارض التجارية الدولية التي تقام سنويا، إضافة إلى المنتديات الاقتصادية الإقليمية والدولية مثل المنتدى الاقتصادي الياباني والكوري والإيراني، بما يجعل كوردستان بوابة الدخول لكل المستثمرين والشركات العالمية إلى العراق والمساهمة في حملته الواعدة للأعمار والبناء.
انه بحق الحاضر الذي ينتخب المستقبل في كوردستان خاصة والعراق عامة.

كفاح محمود كريم