عبد الله كرمون من باريس: بعد ظهوره قبل عشر سنوات يتوفر حاليا في الأسواق قرص فيلم يامينة بن ﯖيﯖي التسجيلي(DVD) والذي يحمل عنوان: مذكرات المهاجرين: الإرث المغاربيquot;. واضح إذن أن الهجرة هي انشغال الفيلم وأن المهاجرين هم ذووا أدواره. لذلك فرّعَته إلى ثلاث لحظات معنونة كالتالي: الآباء، الأمهات، الأبناء، منفصلة إجرائيا ومنسجمة في أصل انتمائها كلها إلى جسد الهجرة المغاربية في فرنسا كما رأتها صاحبة الفيلم. ثلاثة أفلام وثائقية إذن في واحد، أنتجتها كانال بلليس (Canal+) وبّوندي.
صحيح أن موضوع الفيلم جدي وذو أهمية كبرى، كما أن تناول الهجرة ليس البتة جديدا، سواء في الفن أو في الدراسات السوسيولوجية. للفيلم الوثائقي إذن، كما سوف نرى، نيته الحسنة ومثالبه الكثيرة.

مغربيات في فرنسا
ليس من الدقة، مع ذلك، أن نعتبر هذا الفيلم هو مجرد تراكم مواد خام، يلزمها بالتالي فقط شيئا من الحدس والانطباع الذاتيين كي يتحقق التلقي المرجو. ذلك أن الشهادات التي تتضافر فيه ليست عادية وليست استقراءات متأتية فقط من آليات ذهنية تسندها الملاحظة والتبصر. إنها وجهات نظر الذين حاورتهم صاحبة الفيلم، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالفرنسيين الذين شغلوا مهام متعلقة بالهجرة والمهاجرين خلال ستينيات القرن الماضي أو حتى إلى يومنا هذا بالنسبة لبعضهم.
من هنا يمكن أن نسجل في البدء غياب رأي صاحبة العمل، مادامت قد استغنت عن كل تعليق وكأن الصور والشهادات التي قدمت هي غنية عن كل تعليق. ما ليس صحيحا على كل حال. وكأنها ترغب أيضا أن تعري فقط دموع المهاجرين باستثارتها. أمر آخر، أنها مسئولة بالتالي عن اختياراتها بخصوص الأشخاص الذين حاورتهم ومنحت لهم الفرصة كي يبرروا كوارث الأمس واليوم ويغطوا على كل ما اقْتُرِف، حينها والآن، ضد المهاجرين. وأخص هنا موظفي الإدارة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية وغيرهم ممن ندت عن شهاداتهم بعض انزلاقات، هي بحق من لباب أفكارهم.
قد يبادر البعض بالقول أن الدراسات التي أنجزت حول الهجرة هي علمية وليست سوى في متناول المختصين والمهتمين بالسؤال عن كثب. صحيح ذلك، غير أنه ليس مبررا كافيا كي تقدم السيدة يامينة بالصورة عملا هزيلا، فقط على أساس أن قوة الصورة هي فوق كل ريب.
نية العمل كما أسلفنا القول هي أن صاحبته أرادت أن تُري للأجيال الحالية من أبناء وأحفاد المهاجرين كل الحيثيات التي رافقت وصول آبائهم وأجدادهم إلى أرض فرنسا. كي يفهموا أولا جزءا من تاريخهم المنسي والمخفي وكي يتمكنوا من التأقلم مع صعوبات حاضرهم من أجل تحقيق السعادة التي افتقدها الذين كانوا في أصل تواجدهم بل في نشأتهم على أرض أبناء الغال!
النية سليمة إذن وتحققها على أرض الواقع قد شابته معضلات هائلة. بخصوص جزء quot;الآباءquot;، ليس الذين قدموا ثمة شهاداتهم يمثلون كل الآباء وليسوا في أساس أمرهم يشهدون بحق على كل الذين سبقوهم إلى أرض الغربة، لذلك نسجل ثمة خللا تاريخيا مؤكدا. أمر آخر أنهم ليسوا يمثلون كل أرض شمال إفريقيا ما يدعى الأرض المغاربية في هذا الشأن. ذلك أن صاحبة الفيلم قبائلية من الجزائر ركزت أكثر على الهجرة الجزائرية ما ليس يغفر لها انتماؤها تناول قضايا موضوعية من وجهة نظر ذاتية.
وكأنها لما أردفت كثيرا في الفيلم أغنية جزائرية قديمة تقول: quot;هَاجو عْلِيَّا التْفاكير بعد ما كنتْ ناسيquot; ما يعني quot;هاجت ذكرياتي بعدما نسيتquot; أي البلد وأخباره وأهله وغير ذلك، قد شاءت أن تراوح بين قلق سليل بالهجرة وحياة المهاجرين، لكنها أيضا لم تنس أن تجعل خربشة حائط ما تنوس كل مرة في لحظات مهمة خلال الفيلم وانتهى بها أيضا، خُط فيها أن فرنسا للفرنسيين! الأمران مهمان إذ يشيران إلى مأزق كبير بخصوص الهجرة، كيف عاشها المهاجرون في الصميم وكيف تصدى لها الآخرون مثلهم في الصميم!
لقد أتيح للكثيرين ومنذ مدة أن يدركوا أن الضفة الأخرى من المتوسط ليست جنة بل هي في أقصى تقدير لربما، دون أخطاء نرتكبها، لهي مجرد جحيم.
من بعض الذين كتبوا عن الهجرة، دون أن أذكرهم جميعا، لحسن زهراوي مثلا، والذي دافع في كتابه الجميل بالفرنسية عن هجرة الرجل الوحيد في العائلة، الذي يحمل نفس العنوان، ما كان حال أول المهاجرين الذين نزحوا من ديار شمال أفريقيا متجهين صوب عقرب البوصلة. هذا الرجل سوسيولوجي التكوين، وليس دون شان أن يكون مكسيم رودنسون هو من أشرف على أطروحة دكتوراه في المجال، وطالما درس الهجرة واشتغل بالتحري الميداني عن كل ملابساتها لدن عائلات المهاجرين بباريس وضواحيها. ولكم استمتعنا منذ سنوات ببعض محاضراته التي ألقاها في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية، بملحه خاصة وببعض مسوداته عن كل الذي اكتشفه خلال تحريه العلمي بذلك الخصوص.
كان هدف المهاجرين الأوائل إذن هو الاغتناء ثم العودة طرا إلى البلد، لقد تحملوا ما لا يمكن تحمله كي يحققوا هدفهم هذا ولكي يبنوا لهم صورة عظمى في البلد طالما تعهدوها لدى كل زيارة لهم ثمة إذ وصل بهم الأمر في أحايين كثيرة أن يحركوا ثمة بعض القطع النقدية بأصابعهم داخل جيوبهم في الأسواق كي يجعلون الآخرين يحسبون على أنهم أثرياء حسب ما جاء لدى لحسن زهراوي.
لقد حصلت هذه الهجرة الأولى من تلقاء أنفس المعنيين بها، مثلما كان ذلك من طبع الإنسان أن يتنقل ويبحث عن أماكن وفضاءات عيش أفضل أو أقرب إلى طباعه ومزاجه الشخصي.
في زمن آخر، كانت اليد العاملة المغاربية تحت الطلب، فعمدت الإدارة الاستعمارية إلى فرز وسطاء يصولون ويجولون في قرى ومدن البلدان المستَعمرة كي يوفروا في سمسرة بشرية بلا نظير لتكاد تشبه في أسها تجارة الرقيق. الغريب في الأمر أن صاحبة الفيلم منحت الفرصة لأحد المشرفين على تلك العملية كي يتحدث عن تلك المغامرة الجميلة في نظره والمنزهة عن كل شر، إذ قال وهو يفند ما سماه quot;المزاعمquot; على أن المؤهلين للهجرة يتم ترقيمهم لصق الجلد مثلما يُعمل اليوم للبهائم المذبوحة في مذابح العالم. ما يذكرني ثمة بقصيدة قرأتها منذ الصغر في ديوان شاعر مغربي عن هذا الأمر: تجارة اللحم والدم!
لست أؤمن بالذي أدلى به كل أولائك الفرنسيين موظفي إدارة فرنسا. إنهم يحاولون أن يغطوا على كل الذي جرى: بكلمة واحدة: هم يكذبون! لكن على من؟؟
بكّاكْ هذا الذي يعرفه الجميع كوزير هامشي والذي باح في الفيلم ببعض عبارات من قبيل أمثال صدر عنه ما يعني أنه لو يعمل أحد ويبقى مختبئا، يصدق عنه أنه متى نراك غبا ًّنزعجك أقل!
أو: ما لا تفتح فِيكَ لا تجازف ببلع الذباب!
صاحبة الفيلم قاربت الموضوع وسقطت في ترهات كثيرة إذ لم تستوعب الهجرة ومداها والفاصل بين السياسي وغيره في شأنها، ما جعل من فيلمها مجرد بانوراما رثة عن موضوع سياسي واجتماعي كبير وحرج. مضت كل هذه السنوات وعلينا أن نقف اليوم على خطورة الأمر وأن أمر الهجرة ليس خاطرة تكتبها مراهقة صغيرة!