quot;إيلافquot; تفتح ملف الذاكرة المرئية في العراق، وتستجلي أسباب فقرها وقصورها(22)
حاوره عدنان حسين أحمد من لندن: تشكّل الذاكرة الثقافية رصيداً بالغ الأهمية لأي شعب من الشعوب، فكيف اذا كان الأمر يتعلق ببلد عريق ذي حضارات متعددة وموغلة في القدم مثل العراق. ولأن الذاكرة الثقافية مفردة واسعة وعميقة الدلالة، وتضم في طياتها الذاكرة المرئية والمسموعة والمكتوبة، إلا أن استفتاء quot;إيلافquot; مكرّس للذاكرة المرئية فقط، والتي تقتصر على السينما والتلفزيون على وجه التحديد. ونتيجة للتدمير الشامل الذي تعرضت له دار الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما والمسرح، بحيث لم يبقَ للعراق، إلا ما ندر، أية وثيقة مرئية. فلقد تلاشى الأرشيف السينمائي العراقي بشقيه الروائي والوثائقي. وعلى الرغم من أن السينما العراقية لم تأخذ حقها الطبيعي على مر الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، كما لم يحضَ السينمائيون العراقيون بأدنى اهتمام من مختلف الحكومات العراقية التي كانت منشغلة بموازناتها السياسية، وبأرشفة أنشطتها المحدودة التي لا تخرج عن إطار الذات المرَضية المتضخمة. وقبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد كان السينمائيون العراقيون يعلِّقون الآمال على حكومة العراق الجديد التي تمترست خلف أطاريح الديمقراطية، والتعددية السياسية، والتناوب السلمي على السلطة من دون انقلابات أو ثورات يفجرها مغامرون عسكريون مصابون بعقدتي السجادة الحمراء والموكب الرئاسي، غير أن واقع الحال يكشف، خلافاً للتمنيات المعقودة، بأن نصيب الذاكرة المرئية من الرعاية والاهتمام يكاد يكون معدوماً، بل أن بعض السينمائيين العراقيين قد بات يخشى من تحريم هذا الفن الرفيع أو اقامة الحد عليه. لقد عنَّ لـ quot;لإيلافquot; أن تثير خمسة محاور أساسية في محاولة منها لاستجلاء واقع السينما العراقية عبر تفكيك منجزها الروائي والوثائقي على قلته، ورصد حاضرها المأزوم، واستشراف مستقبلها الذي نتمنى له أن يكون مشرقاً وواعداً بحجم تمنيات العراقيين وتطلعاتهم نحو حياة حرة، آمنة، مستقرة، كريمة.

أسئلة الملف السينمائي
1- على الرغم من غنى العراق وثرائه الشديدين، مادياً وبشرياً، إلا أنه يفتقر إلى الذاكرة المرئية. ما السبب في ذلك من وجهة نظرك كمخرج quot;أو ناقدquot; سينمائي؟
2- أيستطيع المخرجون العراقيون المقيمون في الداخل أو المُوزَعون في المنافي العالمية أن يصنعوا ذاكرة مرئية؟ وهل وضعنا بعض الأسس الصحيحة لهذه الذاكرة المرئية التي بلغت بالكاد quot; 105 quot; أفلام روائية فقط، ونحو 500 فيلم من الأفلام الوثائقية الناجحة فنياً؟
3- فيما يتعلق بـ quot; الذاكرة البصرية quot; كان غودار يقول quot; إذا كانت السينما هي الذاكرة فالتلفزيون هو النسيان quot; كيف تتعاطى مع التلفزيون، ألا يوجد عمل تلفزيوني ممكن أن يصمد مدة عشر سنوات أو أكثر؟ وهل كل ما يُصْنَع للتلفاز يُهمل ويُلقى به في سلة المهملات؟
4- كيف نُشيع ظاهرة الفيلم الوثائقي إذاً، أليس التلفاز من وجهة نظرك مجاله الحيوي. هناك المئات من الأفلام الوثائقية التي لا تحتملها صالات السينما، ألا يمكن إستيعابها من خلال الشاشة الفضية؟
5- في السابق كانت الدكتاتورية هي الشمّاعة التي نعلّق عليها أخطاءنا. ما هو عذرنا كسينمائيين في ظل العراق الجديد؟ وهل هناك بصيص أمل في التأسيس الجدي لذاكرة بصرية عراقية ترضي الجميع؟
فيما يلي الحلقة الثانية والعشرون التي يجيب فيها المخرج السينمائي عمّار العرّادي على أسئلة ملف السينما العراقية.

المخرج عمار العرادي: السينما في العراق منقوصة القوانين والتشريعات

مغامرات الربح والخسارة
1- دعنى من غنى العراق وثراءه الشديدين!! فكل أموال العراق المعروفة ذهبت بلا طائل... و رحم الله شاعرنا الكبير الرصافي .. ورحم الله السياب الذي قال: quot; ماذا تخلف في العراق سوى الكآبة والجنون quot;وإلى يومنا هذا إذ يقول quot; ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع quot; !! .. فدعنى أخي من أموال العراق التى تمنح مكرمات وعطايا وهبات! فهل تأمل من بلد الهبات والمكرمات أفقا يستشرف الحق والحقوق! ويخطط للآتي وللأجيال كما تخطط الأمم لأجيالها وتؤسس للتعليم والصحة والثقافة، كيما ينتج المجتمع قياداته المؤمنة بالحياة والجمال! مادام هناك رأي مؤدلج يرى مايراه صحيحا، ولاصحيحا إلا ما يرى ... سترزح الثقافة وتزحف وتترنح!، وكأن لاحق لها بأموال العراق ولاحقوق .. والذي يهب الثقافة المكرمات، إذا ما أصاب، فإنه يصيب نصيبه منها أولا بشروطه و مخاوفه وهواجسه! لاحق للثقافة والمثقفين بأموال العراق ، إلا الهبات أو اليباس والممات !! وإلا فالذاكرة المرئية ومنذ إنطلاقة ألسينما في العراق، لم تراع الدولة في نهضتها القوانين والتشريعات التي من شأنها أن تنهض بها كما حدث في مصر مثلا .. وهو أمر معرف، إنطلاقا من أن الصورة كمنجز حضاري له أهميته الاجتماعية والأقتصادية الخطيرة والهامة، فعندما تصدى لهذة النهضة إنسان إقتصادي ومتحضر يعمل كموظف بالدولة، لا يملك رأيا متسلطا مثل quot;طلعت حرب باشاquot;، إستشرف هذا المنجز بلا هواجس ظلامية .. إنظراليوم الى هذه النظرة، وتأمل الذاكرة المرئية المصرية سياسيا وإجتماعيا، وإنظر الى ماترتب عليها من مردودات إقتصادية وسياحية!، وكذلك البلدان الأخرى المنفتحة عقولها على كل منجز حضاري بلا هواجس ومخاوف متخلفة وضيقة، كيف وثقت ذاكرتها المرئية، واليوم يؤسفنا أن نتكلم بالبديهيات وكأننا في الماضي، أو في بداية البدايات، لأننا مازلنا مع الأسف نفتقر الى فهم يستوعب خطورة الخطاب الصوري الذي إستقطب كل خطابات العصرجميعا!! ،فمن أين نأتي بهذا المدرك لعصب الحياة وصيرورتها؟، هذة المشكلة الأزلية التي تواجة الذاكرة المرئية، والتي تسببت في تراجعها، نحن نمتلك الموارد المادية والبشرية، فمنذ مغامرات الربح والخسارة نجح المرحوم الفنان حيدر العمر في العام 1953 من إخراج فيلم عراقي خالص quot;فتنه وحسنquot; ثم فيلم quot;إرحمونيquot;، وقد نجحا نجاحا جماهيريا واسعا، وهناك الكثير من الأفلام في تأريخ السينما العراقية التي حققت أرباحا مادية، مثلما هناك أفلام واجهت الخسارة، وهذا هو الشيء الطبيعي في الأمر، لو تمكنت اليسنما العراقية من الإستمرار في توثيق الذاكرة المرئية. إلا أن غير الطبيعي هو هذه العزلة أو الفاصلة بين الفهم الثقافي للهواة أو المعنيين بالسينما، والقائمين على قيادة الحياة والمجتمع، هناك في العراق مميزات لدراسة السينما لاتجدها في البلدان المجاورة، فهناك أربعة معاهد وكلية للفنون، مخرجاتها تندرج من الدبلوم الى الدكتوراه في إختصاص السينما، تدفع في كل عام أناس مخيرين، مختارين دراسة هذا الاختصاص، أغلبهم تخرجوا والسينما مخنوقة بالحصار البغيض من جهة، وبالسقف الرقابي والأفكارالواجهية من جهة أخرى، وأغلبهم من أصحاب الفيلم الواحد الذي تخرجوا به، ولكن ستجد جميع هذه الأفلام لصيقة بقضايا الناس، وتجدها أفضل من وثقت للذاكرة المرئية العراقية، وربما هي الوحيدة التي بقيت لنا بعد إستباحة العراق من المستباحين للذاكرة المرئية العراقية، في الإذاعة والتلفزيون ودائرة السينما مع شديد الأسف، وضاعت بذلك أفلامنا الروائية والتسجيلية مابين منهوب ومحترق، نحن لانهتم بالتوثيق!!، نحن كما يقال عنا شفاهيون يمضي زماننا بلا ذاكرة .. أذكر أنني كنت مونتيرا في السينما العسكرية، وفي مخزن الأفلام المئات من الأشرطة للعهد الملكي والعهد الجمهوري، صورت من قبل مصورين الجيش وكان في هذه الدائرة البعض من هم في سن التقاعد. كانت مهملة الخزن ممنوعة من التداول إلى أن فقدت، لأنها بيد من لم تعرف أهمية التوثيق والذاكرة المرئية، التي هي ملك للتأريخ والناس كل الناس أين ما كانوا، أعتقد أن هذا هو السبب في فقر الذاكرة المرئية ... ولكن للسينما في العراق دارسيها المتخصصين وهواتها، وللسينما والثقافة حقها في أموال العراق، وللذاكرة المرئية دواعيها الوطنية والانسانية التي لا تظل السبيل مستقبلا إطلاقا.

اقتباس الحياة العراقية
2- أما عن الأسس فما دام المعنيين بالسينما، وأقصد القادرين والمؤهلين علميا على وضع الخطط والأهداف الإستراتيجية الصحيحة لنماء وتطور السينما بعيدين عن إهتمام الدولة ، فلا أسس صحيحة، و الدولة هنا غير الحكومات، الدولة هي التي ترعى كل مرافق الحياة بالقوانين والتشريعات على حد سواء، وتسعى الى تقدمها جميعا الى الأمام، إنطلاقا من فهم أن كل مرافق الحياة مجتمعة تنتج الحضارة .... والحضارة حياة معاصرة غير منقوصة، وأنا عندما أؤكد على الدولة لأننا لا نستطيع أن نحيا بقوانين وتشريعات منقوصة، ولا حياة لمجتمع منقوص القوانين والتشريعات، وأعتقد أن الحياة السينمائية في العراق منقوصة القوانين والتشريعات منذ نشوئها والى الآن!! فلذلك لاتجد أسسا ولا تجد ذاكرة مرئية!، أما عن المخرجين العراقيين سواء كان ذلك منهم في الخارج، أو على قيد العراق! حسب قول الشاعر حسين القاصد ... فإن أي فيلم يقترب من إقتباس الحياة العراقية على وفق الإقتراب من قضايا الناس والمجتمع، فهو موثق للذاكرة المرئية، وهم صناعها بلا شك، وأنا لا أرغب بالنيل من السينما العراقية كما يحلو للبعض، بلا فهم للأسباب الموضوعية التي أضرت بها، مثل نقص القوانين والتشريعات المساعدة، وغياب الدولة عن فهم الانتاج التسويقي، وقلة دور العرض المؤثرة في نمط الإنتاج...الخ ، ولكن مهما قلنا فإننا أنتجنا أفلاما روائية وتسجيلية ذات قيمة وثقت للذاكرة المرئية، و لم نستطع الحفاظ عليها، وضاعت مع شديد الأسف الجهود المضنية التي صنعتها، وهذه هي مرارة السينما عندما يقودها غير مختص وغيرمحب لها، وهذا هو حال بلدنا، المحبون لاختصاصاتهم بعيدون عنها، ومازال أملنا في المستقبل.

محرقة مشتعلة
3- ليس كل ما يقال هو بالضرورة صحيحا.. ربما التلفزيون في الستينيات هو غيره في عصر الثورة الفضائية، وتأثيره مختلفا، فالتسويق السينمائي للفيلم وآلياته في جميع بلدان العالم تميزت بالسرعة والإنتشار، ومازالت، ولكن البث الفضائي المتجاوز للإنتشار المحلي، أثر نوعيا بلا شك، وأصبح من دواعي التسويق البث التلفزيوني ولو بعد حين، المهم دخل الفيلم التسويق الفضائي وخصوصا المحطات المتخصصة بالفيلم والدعاية ، وهذا يعطي تسويقيا أهمية للتلفزيون، خصوصا بعد تطور وسيلة العرض التلفزيونية وأقصد الشاشات العريضة، وإنتشار المشغلات الإعتيادية ورواج أسواقها، مع الفارق بين مميزات العرض السينمائي والعرض الألكتروني، ومن يدري ما سيكون عليه تطور وسائل العرض الألكترونية مستقبلا ، إلا أنني مازلت أرى أن المجال الأنسب لعرض الفيلم هي دور العرض، أما الفيلم التسجيلي فمكانه الأول المهرجانات الدولية ومن ثم التلفزيون قطعيا... لإختلاف الهدف والمستهدف من غائية الإنتاج التسجيلي، الذي مع الزمن يصبح وثيقة إنسانية بعضها في غاية ألأهمية!، هذا ما يعني السينما بنوعيها وبخصوصيتها، أما الإنتاج التلفزيوني الدرامي أو ألإعلامي، فالكثير منه يطاله النسيان، لأن من طبيعة البث التلفزيوني ملء لساعات البث، وهو محرقة مشتعلة، هل من مزيد، مثل هذا الواقع من المستحيل أن يكون جميع إنتاجه توثيقا للذاكرة.

فرصة الانتشار والتأثير
4- صحيح ... التلفاز يمنح الفيلم الوثائقي فرصة الإنتشار والتأثير، ويمكّنه من تحقيق قدر أكبر من أهدافه، لحد أننا نجد هناك محطات فضائية متخصصة بالفيلم الوثائقي والريبورتاج، وهناك جمهور واسع يتابع هذا الفن من خلالها، بل أنك تجد من ينتج هذا النوع من الانتاج خصيصا لهذه المحطات، وخصوصا الفيلم العلمي، و أفلام عالم الطبيعة والحياة الطبيعية، وغيرها المتعلقة بالبيئة وظواهر الكون، والحياة الشعبية والموروث الشعبي ...الخ . هذا الميدان من الإنتاج والعرض، بات اليوم يشكل نمطا من التسويق والتوزيع المهم في عالم الصناعة الفنية والإقتصادية، لا جدال، على وفق التطور الحاصل والذي سيحصل لوسائل الإتصال.

بارقة أمل
5- نعود الى ذات السياق، وإلى ذات الألم في معرض الإجابة. أولا.. العراق الجديد، في كل مرة نسمع عن عراق جديد يلعن العراق الذي قبله!!!! ، بدءاً من تأسيس أول ثأر للدم السياسي، وبداية العهد الراديكالي، الى الثأر للدم السياسي في العهد الديمقراطي أو الينقراطي، والحال هو ذات الحال، لا أجد مرارة أكثر من تصوير صورة الأم العراقية التي تزور السجون والمقابر وتفترش الأرض التي تحتها خزائن النفط والغاز لتبيع ماتيسر، وهي تسكن وأيتامها الصفيح وسط المزابل بلا ماء أو أي مظهر من مظاهر الحياة الكريمة، ناهيك عن آلاف الشواهد المتردية في شتى ضروب الحياة تصرخ في وجه الظالمين، الذين لا ندري لماذا يأتون إلى حكم هذا البلد في كل مرة .. وهم لايعرفون ولايفقهون في الحكم غير الكلام. وكأن الحكم مهنة من لامهنة له!! واقع الحال دائما يحيلنا الى الأمور السياسية، وإلى الجهل والتطرف وعدم فهم الأولويات والثانويات!! ولا أدري ما علاقة النهضة الحضارية الشاملة في الأولويات والثانويات، وربما الثقافة والفن في قاموس السياسة والحكم في العراق هي من الثانويات!، لأن إدامة الحكم وتثبيت أركانه في كل عهد من الأولويات إلى أن يزول ويأتي الجديد وهكذا .. دواليك، الحسنة التي تشكل بارقة أمل اليوم، أننا نستطيع الكلام وحتى الصراخ ولكن دونما ضامن، فأما التجاهل وهو خير .. وإما أن تقع تحت طائلة من لا تعجبه!!، الأمل الذي تسأل عنه اليوم يكمن في السينما المستقلة، وفي منظمات المجتمع المدني المتخصصة، التي يجب أن تدرك معنى النشاط المدني وحجم المسؤولية الإنسانية والإجتماعية، و التي تقع عليها باعتبارها منظمات فاعلة في التغيير والنمو والتطور، كجهد طوعي إنساني يسمو بالذات البشرية إلى مصاف مقدسة، يكمن في نشاطها السعادة الذاتية والرفعة الإنسانية، وبالذات السينما أحد أعمدة الثقافة الناشطة والمؤثرة، أما الدولة فأن من واجبها أن تفي بكل جوانب الحياة، وتنهض في جميع مهامها بلا تفضيل، أو تقصير، وإلا سنرى مرة أخرى من يصدعنا بعراق جديد.