اعترافات قسرية
هادي ياسين من كندا: نحن في بغداد... ذات ضحًى من العام 1979 quot;ساقوناquot; من كليتنا quot;أكاديمية الفنون الجميلةquot; في مسيرة أوعزوا الينا أن نهتف فيها بحياة الرئيس الجديد للعراق quot;صدام حسينquot;. ساقوناإلى كلية الطب / جامعة بغداد. وفي قاعتها الكبيرة كان قد تجمع الطلبة من الكلية ذاتها، ثم التحق طلبة آخرون من كليات الهندسة والعلوموالآداب والتربية وغيرها. في ذلك الوقت كان همس كثير يدور في الشارع بأن صدام حسين قد نحّى الرئيسَ أحمد حسن البكر عنوة، بإجباره على تقديم استقالته بذريعة المرض، وحلّ هو محله. كانت الغاية من سَوْقنا الى قاعة كلية الطب هي مشاهدة فيلم عُرض أمامنا على شاشة كبيرة، عن مؤتمر طارئ استثنائي لحزب البعث، ترأسه صدام. قدم فيه متّهمون quot;اعترافاتquot; بتآمرهم على البكر وصدام والحزب معًا... بتحريض ودعم من سوريا. وبيّن الفيلم كيف أن quot;الرفيق صدامquot; قد أمر، بحزم وصرامة، كلَ من يُتلى اسمه بأن يغادر القاعة فورًا. وبطبيعة الحال، فإن رجال المخابرات، بقيادة برزان التكريتي quot;أخ صدام غير الشقيقquot;، كانوا جاهزين لسحب مَن يُتلى اسمه وأخذه الى المجهول... و لم يبيّن الفيلم ما الذي قد حل بالمتهمين، ولكن الحقيقة تسربت الى الناس، بأن محكمة صورية برئاسة القيادي quot;نعيم حدادquot; قد انتهت بإدانتهم والحكم عليهم بالإعدام... وعرف الناس أيضًا أن quot;الرفيق صدامquot; كان قد أمر رفاقًا في قيادة الحزب أن ينفذوا عملية اعدام رفاقهم quot;المتآمرينquot; بأنفسهم، وواضح أن الهدف من ذلك هو أن يرعب قلوب هؤلاء quot;الرفاقquot; و يمحو من أذهانهم، كليًا، أي نوايا في التآمر quot;عليهquot; مستقبلاً. و عرف الناس أيضًا أن فعلة الغيلة والغدر، تلك، التي هزت العراق كله آنذاك، جرفت معها أيضًا عبدالخالق السامرائي، القيادي في الحزب وأبرز منظّريه، والسجين منذ سنوات ـ في عهد البكر ـ بأمر من صدام، الذي انتهز فرصة تمثيلية quot;المؤامرةquot; إياها ليعدمه في حفلة الموت ذاتها .. فتخلص في طريقه من أحد ألد رفاقه المنافسين له في قيادة الحزب، والذي يُشاع عنه أنه كان ينطوي على ثقافة سياسية عالية وعلى روح قيادية مرنة.
الفيلم الذي شاهدناه في قاعة كلية الطب قدم قراءة واضحة لما ستؤول اليه حال العراق في ظل حاكم افتتح عهده بهذه القسوة. و الآن بات هذا الفيلم الوثائقي أحد الركائز التي اعتمدها فيلم quot;بيت صدامquot; المطروح حاليًا على أقراص الـ quot;دي في ديquot; و الذي أنتجته محطة الـ quot;بي بي سيquot; و شركة quot;أج بي أوquot; و عرضته المحطة على شكل مسلسل في أربع حلقات، في شهر آب quot;أغسطسquot; من العام الماضي 2008. و الواقع أن الفيلم ينطوي على جميع مواصفات quot;السينماquot;، غير أن انتاجه من قبل جهة تلفزيونية وعرضه على الشاشة الفضية، بحلقات، شوّش عنوانه السينمائي. هذا العمل أخرجه quot;جيم هانلونquot; و quot;أليكس هولمزquot; الذي أسهم في كتابة السيناريو أيضًا، وهو كان قد علق بالقول لصحيفة quot;مانشستر ايفننغ نيوزquot; أن فيلم quot;بيت صدامquot; لم يحتج الى مبالغة أو تضخيم، ذلك أن quot;الأحداث و الشخصيات، نفسها، تنطوي على عناصر درامية كافيةquot;، مضيفًا: أن قصة حياة صدام شبيهة بما تعرضه أفلام العصابات.
سينما خالصة
من هنا، قد يذكّرنا هذا الفيلم ـ كما أوحى بذلك بعض النقاد ـ بفيلم quot;العرّابquot; الذي أخرجه فرنسيس فورد كوبولا في العام 1972. و من الممكن القول: أن فيلمquot;بيت صدامquot; قد يكون مستفيدًا من ذلك الفيلم الشهير، كتجربة سينمائية رائدة وفذة، ولكنه لا يتطابق معه، فالأول اعتمد على رواية بالإسم ذاته quot;العرّابquot; للكاتب ماريو بوزو ويتناول واقع حياة عصابات المافيا الإيطالية، فيما اعتمد فيلم quot;بيت صدامquot; وقائعَ حقيقـية شهد عليها شعب كامل هو ضحية هذه الوقائع أيضًا. صحيح أن حياة وسلوك صدام، و رهطه كذلك، بدت في الفيلم ـ كما كانت في الواقع ـ شبيهة بحياة وسلوك عصابات المافيا لكن معالجة فيلم quot;بيت صدامquot; السينمائية للأحداث لمختلفة جدًا، كونها لم تخرج عن القصة الحقيقية، ما يجعله متخلفًا عن الضربات الفنية الكبيرة في فيلم quot;العرابquot; الذي عولج من خلال سيناريو غير مسبوق، خابطًا رواية quot;بوزوquot; خبطًا، بهدف تسليط الضوء quot;من خلال سينما خالصةquot; على شريحة اجتماعية تتصرف وفق قانون القوة و المال، أما فيلم quot;بيت صدامquot; فقد بقي أسير الحكاية الواقعية، بسبب هدفه quot;السياسيquot; السابق على أي هدفٍ سواه. على الرغم من أن quot;صدامًاquot; و رهطه لم يختلفوا عن quot;العرابquot; و رجاله في التصرف وفق القانون المافيوي .. و كلهم كانوا quot;موضوعًاquot; حكائيًا للسينما كما للكتابة الروائية.
بيت صدام الحقيقي لم يكن غير وكر عصابة. هذه العصابة لم تتصارع مع عصابات أخرى تنافسها، بل أن صراعها كان صراعًا سياسيًا، ولكن من طرف واحد، و ضد طرف مفترض اختلقته العصابة إياها هو الشعب بأكمله، تحسبًا من انتزاعه السلطة منها. و قد اعتمدت هذه العصابة مبدأ quot;الدفاع عن طريق الهجومquot;، الهجوم بقسوة، و انتزاع الحياة حتى من المواطن البسيط الذي يرى في منامه ما لا يروق لهذه العصابة.
حَلُم بالثورة فأُعدِم
quot;هناك قصة واقعية بطلها معلم متقاعد، حكى لبعض أصدقائه في المقهى، ذات يوم، أنه حلم في الليلة الماضية بأن ثورة قد حدثت في العراق، فسمعه أحد المخبرين الذين كانوا يتواجدون في المقاهي، مثلما في أماكن عامة أخرى، فطرق بابه زوار الليل بعد ساعات، لينال المسكين ـ بعد ذلك ـ حكمًا بالسجن لمدةسبع سنوات، و برر القاضي التهمة َ على الرجل بإسقاطٍ سايكولوجي، على اعتبار أنه لو لم يكن يفكر بالثورة طوال الوقت ـ و هو صاح ٍ ـ لَما تراكمت أفكاره لتأتيه في منامه على شكل أحلام .. و حكى لي صديق، هو سيناريست عراقي معروف و استاذ جامعي أيضًا، أنه كان حاضرًا أثناء نطق quot;القاضيquot; بهذا الحكم، لأنه هو نفسه كان متهمًا بتهمة quot;الإستهزاء و الإستهجانquot; عندما كان قد تم اختيار quot;محمد عايشquot; عضوًا للقيادة القطرية لحزب البعث، و كان صاحبي قد تساءل ببساطة: ألم يجدوا غير هذا الحمار ليختاروه قياديًا؟ فسمعه أحد طلابه فكتب عنه تقريرًا قاده الى الحبس، فالمحاكمة، فالسجن ... و بالمناسبة، فأن quot;الرفيق صدامquot; وضع محمد عايش، فيما بعد، على رأس قائمة quot;المتآمرينquot; الذين بطش بهم في حفلة الموت المعروفة تلك .. و يقال أنه قد قُطع لسانه قبل أن يُعدمquot;. و على أية حال، فأن العصابة قد توسعت وكبرت، و توسعت معها رقعة صراعها لتصبح رقعة دولية سقطت فيها سقطتها الأبدية فيما بعد كما هو معروف. و من هذه النقطة يبدأ فيلم quot;بيت صدامquot; .. حيث يظهر الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش موجهًا رسالة تلفزيونية، مترجمة، الى العراقيين موضحًا فيها أن يوم quot;تحريرهمquot; قد بات قريبًا و أن quot;كل سنوات الخداع و الوحشية قد وصلت الى نهايتهاquot;، معلنًا عن العد التنازلي لوجوب مغادرة صدام و نجليه العراق في غضون ثمانٍ و أربعين ساعة .. وأثناء ذلك يظهر النجلان: عدي quot;فيليب آرديتيquot; و قصي quot;منير مرغومquot; و معهما طارق عزيز quot;مكرم خوريquot; و هم يتابعون الخطاب بارتياب. ثم يأتي صدام quot;إيغال ناعورquot; لينظم اليهم، و ليتأكد من أن الأمر قد بات جادًا حقًا و خارج حساباته السياسية الغبية. أثناء ذلك يظهر الإرتباك و الرعب في quot;البيتquot; من جهة زوجة صدام و بناته. لتظهر ـ بعد ذلك ـ لقطة يوصي فيها صدام quot;بزيه العسكريquot; نجليه بالتأكد من حصولهن على المال الكافي و مغادرة البلاد .. خاتمًا توصيته لهما بالقول:quot;لكننا لن نغادر العراقquot; مؤكدًا على نجله الأصغر quot;قصيquot; الإعتناءَ بشقيقه الأكبر quot;عديquot; .. وفي ذلك اشارة مبطنة الى تهور و رعونة الأخير.
تلك المشاهد، التي كانت تمثل quot;نهاية العهدquot;، جاءت بمثابة توطئة للفيلم، الذي ستنطلق أحداثه من نقطة quot;بداية العهدquot;، ابتداءً من ليلة احتفال quot;البيتquot; بعيد ميلاد طفلة صدام الصغرى المدللة quot;حلاquot; في صيف العام 1979 في تلك الليلة كان التلفزيون يعرض مشاهد ابتهاج الإيرانيين بعودة الخميني الى ايران، و الذين كانوا يرددون شعارات: الموت لـ quot;أميركاquot; و لـ quot;صدامquot;. وأثناء ذلك كان المجتمعون quot;عدنان خير الله، علي حسن المجيد، طارق عزيز، عدنان الحمداني. . quot; يتابعون التلفزيون، بانتظار وصول الرئيس البكر، القادم بحسن نية للمشاركة بعيد ميلاد quot;حلاquot;، والذي بوصوله يبدأ quot;العهد الجديدquot;، حين يشرح له صدام ما معناه: أنه quot;أي البكرquot; لم يعد صالحًا لمعالجة المتغيرات الحاصلة في المنطقة بعد نجاح ثورة الخميني، و أن على البكر أن يعتبر مسألة quot;الوحدة مع سورياquot; ـ التي ابتهج بها العراقيون و السوريون آنذاك ـ مسألة منتهية يجب غلق ملفها، فهو لن يسمح بها. و يطلب من البكر اعلان استقالته بسبب quot;وضعه الصحيquot; و ترشيحه هو quot;صدامquot; للرئاسة، باعتباره quot;نائبًاquot;. وهكذا تأخذ التمثيلية مجراها ... فتُدعى quot;القيادةquot; الى إجتماع اشتنائي، ليفاجئ فيه البكرُ المجتمعين بإعلان استقالته و تسليمه الحكم لصدام. هنا يحتد القيادي محيي المشهداني الذي يرى في ذلك خروجًا على النظام الداخلي للحزب وعلى الأعراف و أن الأمر يجب أن يتم عن طريق الأنتخاب، فيرد صدام، بأعصاب باردة، أن لا اعتراض على ذلك و أن الأنتخاب سيتم. هنا يبدأ مقتل المشهداني وجميع من أيدوا طرحه في ذلك الإجتماع .. لتنتهي التمثيلية بالمشهد الذي عُرض علينا في قاعة كلية الطب، مثلما عُرض ـ بالتأكيد ـ على قطاعات ثقافية و سياسية و اجتماعية و مهنية مختلفة.
نقل الحقائق
الى حدٍ ما، كان فيلم quot;بيت صدامquot; أمينًا في نقل الحقائق عن ذلك الفيلم الوثائقي، و هو ما يتفق مع المرويات لدى العراقيين، ولكنه يختصر ـ لاحقًا ـ صراع سلطة صدام على العراق، بتكريس شخصية quot;آل المجيدquot; الذين ينحدر منهم quot;أبوهquot; مقابل اضعاف quot;آل الحسنquot; الذين ينحدر منهم ابراهيم، والد اخوانه ـ غير الأشقاء ـ quot;برزان و و طبان و سبعاويquot;. و يبدو أن عقدة صدام الإجتماعية quot;في الفيلم .. و في الواقع، كما ينظر اليها العراقيونquot; قد تكثفت في البحث عن دور لأبيه في حياته، خصوصًا و أنه ما من أحد يعرف عنه شيئًا على الإطلاق، ربما أمه quot;صبحةquot; فقط و عدد قليل جدًا من أقاربه، بل أن أمه نفسها تقول له و هي على فراش الموت:quot;من الجيد أنك لم تعرف والدك أبدًا .. لقد كان دمه فاسدًاquot; و هذه ضربة في صميم صدام، لأن قولاً كهذا، و من الأم ذاتها، انما يفسر ما تلوكه الألسن، فيرد عليها صدام بالقول حانقًا :quot;وأنتِ لم تعطني شيئًاquot; ولكن الفيلم يظهره ـ اثناء ذلك ـ و هو يقوم بحركة غامضة و كأنه قد خنقها، حيث تظهر الأم و قد توفيت، و يمكن القول إن الكاميرا كانت ملغومة في هذه اللقطة. و ربما كان عدم معرفة أحد لقبر والده quot;حسين المجيدquot; يشكل بدوره جانبًا من عقدة صدام، و إلاّ لجعل منه ضريحًا و مزارًا بالتأكيد، و لأطلق عليه لقب quot;أب المناضلينquot; كما أطلق على والدته لقب quot;أم المناضلينquot;، في محاكاة مفضوحة للقب السيدة عائشة quot;أم المؤمنينquot; في الإسلام ، فيما كان العراقيون يصروّن على تسميتها باسمها فقط quot;صبحةquot;، مجردًا من أي تفخيم أو لقب رسمي، ربما كشكل من اشكال الإنتقام المبطن ممن أنجبت إبنًا كهذا الذي أذاقهم الويل و قاد بلادهم الى الخراب و الفقر و هي من أغنى بلدان الأرض، و أذلّها أمام من لا تاريخ لهم و هي الأعز بحضورها التاريخي. لقد حاولت الأم ـ التي كانت تمثل الطرف القيادي الثاني من صراع صدام العائلي ـ أن تلوي عنان ابنها باتجاه اخوته بتزويج ابنته الكبرى quot;رغدquot; من حفيدها quot;محمدquot; إبن برزان quot;الحسنquot;. ولكن صدامًا راح يـَعِد .. و دائمًا يعد، غير أنه كان يسوّف وعدَه. وعقدة صدام هذه، هي، التي تدفعه الى تقريب ابن عمه علي حسن quot;المجيدquot;، و بالتالي: حسين و صدام كامل quot;المجيدquot;، اللذين زوجهما ابنتيه. و تتضح هذه العُقدة على لسان quot;عُديquot; بصورة جلية في الطريق الى الأردن ـ للتفاوض حول عودة الأخيرين اللذين هربا اليها مع الزوجتين ـ حين يخاطب علي حسن المجيد بالقول، و هو يقصد حسين كامل:quot;لقد جلب الخزي لآل المجيد .. و وضع كل آل المجيد في خطرquot;، و بهذا المعنى فإن عقدة النسب الشخصي باتت فوق كل اعتبار وطني، و لم تعد الدولة ـ التي حمل حسين كامل أسرارها وراح يتباهى أمام زوجته بأنه سيسلمها الى رئيس المفتشين الدوليين ـ مهمة إلا في حدود هذه العقدة التي كانت جلية أمام العراقيين.
توجسات صدام
ومن الواضح أن نظرية الفيلم تدين صدامًا بصورة قاطعة، و هذا هو الهدف السياسي الذي يطبع هوية الفيلم، إذًا فلا غرابة مثلاً أن يطرح رأيَ صدام بالخميني من زاوية طائفية، يرى من خلالها أن هذا الأخير يريد الزحف على العراق وتصدير ثورته اعتمادًا على quot;الشيعةquot; الذين يشكلون نسبة عالية من سكان البلاد. لكننا، اذا ما أردنا الحقيقة، فإن الرجل كان على حق في توجسه من تطلعات خميني، لا من جهة طائفية، بل من جهة وطنية quot;سواء أكنا معادين لصدام أم لاquot;، فصدام ـ و الحق يجب أن يقال ـ قد منع قبل ثلاثين عامًا حصول ما يحصل، اليوم، من احتلال ايراني للعراق. أوَلم يَعُد عنوان quot;الإحتلال الإيرانيquot; متقدمًا اليوم على عنوان quot;الإحتلال الأمريكيquot;؟ لقد أندفعت جيوش الرئيس الأمريكي بوش quot;أغبى رئيس في العالمquot;، بهياج، لإسقاط نظام صدام دون برنامج عمل واقعي يحمي البلاد من التخريب بعد إسقاطه. اندفاع الأمريكان هذا، قادهم مباشرة الى سطح بيت العراق، غافلين تمامًا عن الدهاء و المكر المعروفيَن عن الإيرانيين الذين تسللوا الى quot;داخلquot; البيت فاحتلوه وراحوا يتحكمون بالبيت والسطح معًا، و هذا ما تنبه اليه صدام مبكرًا فمنعه، لكن حماقاته و جرائمه غطت على أي فعل كان من الممكن أن يُسجل لصالحه. هذا ليس تمجيدًا لصدام الذي أنا في الضد منه، ولكن علينا أن نشير ـ بحيادية ـ الى ما يجب إدراجه في سجل الحقائق التاريخية .... مهما كان الثمن. وهذه الحقيقة تغافلت عنها الجهة المنتجة لفيلم quot;بيت صدامquot;، على الرغم من أنه انتج في العام 2008، أي بعد أن توضحت حقيقة تمكن الإيرانيين من احتلال العراق، و باعتراف العراقيين و الأميركيين و البريطانيين انفسهم جميعًا. و هذه نقطة تسجل لغير صالح الفيلم، لأنه كان مخلصًا لهدفه السياسي فقط .. و لم يكن حياديًا.
أخطاء عديدة
يشد الفيلم مشاهده على ثلاثة مستويات: مستوى المشاهد العام .. عاديًا كان أم مثقفًا، المشاهد العادي العراقي، و المشاهد العراقي المتسلح بوعي ثقافي و سينمائي، وهو المعني الأول بموضوع الفيلم الذي يؤرخ لخراب بلاده، والذي يستطيع أن يشخص اخطاء عديدة وقع فيها الفيلم على الرغم من أن العاصمة البريطانية ـ التي اُنتج فيها ـ تزخر بوجود عدد كبير جدًا من المثقفين و السياسيين العراقيين، الذين يبدو أن الجهة المنتجة لم تستعن بهم لتلافي الوقوع في مثل هذه الأخطاء.
فمثلا ظهر اسم المشهداني، و قد نودي عليه في قاعة المحاكمة الحزبية بإسم quot;مشهديquot;، و اسمه الحقيقي هو محيي عبدالحسين المشهداني و ليس quot;مشهديquot; الذي يوحي بالإنتماء الى مدينة quot;مشهدquot; الإيرانية. خصوصًا و ان اللقب الإيراني يأتي عادة من دون quot;ألquot; التعريف، كذلك يُلفظ لقب عدنان الحمداني في الفيلم مجردًا من هذه الألف أيضًا و على الطريقة الإيرانية ذاتها quot;حمدانيquot;، كما نودي على محمد عايش في قاعة الإتهام بإسم محمد quot;عياشquot;، وهو اسم يستخدم عادة في المغرب العربي.
و في أحد المشاهد يظهر صدام منكبًا على معاينة quot;شجرة العائلةquot; باهتمام بالغ quot;و في ذلك تلميح الى عقدة صدام في البحث عن نسبه .. وهي عقدة حقيقية، ربما تبرر الأقاويل عن حقيقة أبيهquot; لكن ما مبرر المخرج في جعل quot;الشجرةquot; متوّجة بالبسملة باللغة العربية، في حين أن الأنساب مكتوبة باللغة الإنجليزية؟ لماذا بالإنجليزية؟
و عندما يظهر صدام وهو يمارس إحدى فذلكاته، حين يستنسخ القرآن بـ quot;دمهquot;، كانت الموسيقى المصاحبة للمشهد موسيقًى ايرانية خالصة. فما معنى ذلك؟
و في اجتماع لصدام مع كبار ضباطه لإخبارهم بمقتل وزير دفاعه عدنان خيرالله quot;و هو ابن خاله و شقيق زوجته ساجدةquot; و لجس نبضهم أيضًا، يظهر أحد الضباط بلحية بيضاء كثة، وهذا مخالف تمامًا للتقاليد العسكرية في الجيش العراقي منذ تأسيسه في السادس من يناير quot;كانون الثانيquot; من العام 1921. فكيف حشر المخرج ملتحيًا بين صفوف الجيش العراقي، و برتبة لواء ركن .. وفوق هذا في اجتماع مهم مع صدام القائد العام لهذا الجيش؟
و بعد مشهد التفجيرات في بغداد التي اتهم بها حزب الدعوة الإسلامي، و التي سبقت الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980، تعلن المذيعة في التلفزيون العراقي المُفترَض في الفيلم، quot;أن رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز قد أدان هذه الهجماتquot;. و هذا خطأ معلوماتي كبير. فطارق عزيز كان في ذلك الوقت مستشارًا مقربًا من صدام حسين الذي كان هو نفسه رئيسًا للوزراء، اضافة الى كونه quot;رئيسًاquot;، و لم يصل طارق عزيز الى منصب رئيس الوزراء مطلقًا. فقد ابتدأ مناصبه الوزارية وزيرًا للخارجية عام 1983، و أصبح نائبًا لرئيس الوزراء 1999ـ2003.
و في أحد المشاهد العسكرية المتعلقة بحرب قوات التحالف الدولي التي طردت قوات صدام من الكويت عام1991 يظهر ضابط اتصالات من داخل غرف عمليات الجيش العراقي يقوم بالاتصال بطرف قيادي في الميدان، كما يبدو، و هو يتحدث بلكنة مصرية. فاذا كان صدام يشك بضباطه العراقيين quot;و في مقدمتهم أقربهم اليه: عدنان خيراللهquot; فهل يعقل أن يأتمن عسكريًا مصريًا في هذا المفصل العسكري الهام في حين تشارك قوات بلاده quot;مصرquot; قوات التحالف في الحرب على قوات صدام في الكويت؟
و هذا الخطأ بخصوص اللهجة ذاته قد تكرر مع مساعدي صدام الذين القيَ القبض عليهم في المشاهد الأخيرة قبل دقائق من كشف الحفرة التي كان يختبئ فيها ، فقد راحوا يرددون عبارات الاستعطاف بلهجة هي أقرب الى البدوية الأردنية التي لا علاقة لها باللهجة العراقية.
اخفاقات السيناريو
و على الرغم من أن الممثل quot;أوري غافرييلquot; كان بارعًا في أدائه، إلا أن المخرج قد أخفق في اختياره لتمثيل شخصية quot;علي حسن المجيدquot;، ربما لأن السيناريو نفسه قد أخفق في رسم هذه الشخصية، فالمجيد لم يكن أصلعَ ولا غليظ الملامح و لا مرحًا خفيف الدم، كما هي حال الممثل غافرييل. المجيد مايزال حتى هذه اللحظة quot;و هو في الثامنة و الستين من العمر .. وبانتظار تنفيذ حكم الإعدام فيهquot; ما يزال كث الشعر، محتفظًا بما تبقى من وسامة كان عليها فعلاً، ولكنه كان جافًا غليظ القلب، و ليس غليظ الملامح، و لم يُعرف عنه المرح و لا خفة الدم، فمن أين جاء الفيلم بهذه الصفات المتقاطعة تمامًا مع حقيقته التي قُلبت رأسًا على عقب .. شكلا و مضمونا؟.
و في احتفال للنظام بإحدى انتصاراته المزيفة، و الذي يبث التلفزيون خبرًا عنه، نسمع صوت مذيعة عراقية وهي تعلن أن الرئيس سيلقي خطابه من quot;قصر الفاوquot; و سيحضر الحفل 300 فرد من العائلة. و هذا اعلان مجافٍ للحقيقة. فصدام كان حازمًا و يشدد بصرامة على عدم ذكر quot;العائلةquot; اعلاميًا بما يثير حفيظة الناس، مع أنها استولت على العراق من أقصاه الى أقصاه و بأشد الوسائل و الأساليب بطشًا و رعبًا و أنها صاحبة الحضور الفعلي في مثل هذه المناسبات بصفة مسؤولين أو أفراد حراسة أو عيون مراقبة على تحركات الآخرين ممن هم من غير quot;العائلةquot; .. فكيف يسمح صدام بإعلان كهذا في خبر تلفزيوني واضح في حين أن أي خبر quot;عراقيquot; ما كان ليُبث أو يُنشر إلاّ بعد مروره بـ quot;مصفاةquot; اعلامية مرتبطة مباشرة بديوان الرئاسة؟.
و في مشهد غير مبرر، تظهر لقطة مقززة لحصان ميت منفوخ، على طرف أحد الجسور وسط بغداد، ربما في إشارة الى نتائج الحصار الدولي على العراق، أو الى اهمال الحكومة، و هي اشارة ساذجة و سخيفة و لا معنى لها و لا تملك أجابة مقنعة للسؤال عن وجود هذا الحصان في هذا المكان المعرّض لمرور أي مسؤول في بلدية المدينة، إن لم نقل لمرور قيادي بارز في الدولة قد يكون صدام نفسه. و هذا المشهد يسئ الى المواطنين العراقيين ـ الذين ينفرون في أشد الظروف بؤسًا من منظر كهذا ـ قبل أن يسئ الى نظام صدام الفاسد.
و ثمة مشهد آخر لم يكن مقنعًا، فعلى الرغم من الظرف الحساس جدًا الذي يحيط بحسين كامل أثناء وجوده في الأردن، هاربًا، فأن رجل وكالة المخابرات الأمريكية المكلف بمقابلته، يصر على أن تكون المقابلة في مقهى عادي في شارع عام، وسط استغراب حسين كامل الذي ينبهه الى خطورة و عدم منطقية اللقاء في مكان كهذا، و بعد أن يعلن له الرجل عن تخلي الأمريكان عن حمايته، ويغادر المكان، يترك هو المكان أيضًا و يركض في الشوارع متلفتًا و بطريقة مثيرة لإستهجان المشاهد الذي يتساءل عن مبرر هذا المشهد أصلا.
و يمكن القول إن الجزء الأخير الذي يصور مشاهد مابعد سقوط نظام صدام و مطاردته شخصيًا، قد وقع في شكلية رتيبة صار الفيلم يشبه فيها عشرات الأفلام التافهة، فلو أن الفيلم انتهى عند مقتل حسين وصدام كامل ـ في اشارة الى تفكيك quot;بيت صدامquot; ـ لكان قد حافظ على عناصر القوة التي راح يفقدها بوضوح في هذا الجزء الذي يبدو أن مشاهده الأخيرة قد طُبخت على عجل.
يمكن القول أيضًا أن الأحداث الحقيقية، ابتداء من ليلة ازاحة احمد حسن البكر و لغاية مقتل الشقيقين من quot;آل المجيدquot; كانت ضمن المُتخيّل لدى الجميع، و الإشارات عن هذا المتخيَّل كانت تتسرب الى المتلقي بسرية تامة و قد لا تصل إلا بعد مرور وقت على الأحداث السرية في بيت صدام الحقيقي، الأمر الذي كان يغلفها بالتشويق و التأويل و الإضافات ، فباتت المرويات حول هذه الأحداث شكلاً من أشكال ثقافة سرية لا يمكن المسك بخيوطها و لا تبيُّن ملامحها، لذلك فهي عندما حيكت في حبكة درامية لغاية مقتل حسين و صدام كامل فأن الفيلم حافظ على عناصر الشد مستمدًا قوته و توازنه من قيمة تلك الأحداث حسب. ولكن حين دخل السيناريو مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام فأنه دخل المنطقة المشاعة لدى الجميع، لأن أحداث مطاردة صدام نفسه قد فقدت قيمتها على أرض الواقع لأنها أصبحت في متناول الجميع، ذلك أن صدامًا نفسه لم يفقد قوته فقط بل فقد قيمته كليًا، و لم يعد أكثر من كونه أرنبًا مشاغبًا لا بد من اصطياده اليوم أو غدًا، خصوصًا و أن حقل تواجده قد كان مشخصًا قبل أن يلجأ اليه و فقدان هذه القيمة هو الذي غفل عنه كاتب سيناريو الفلم ففقد الجزء الأخير منه قيمته تبعًا لذلك.
تفيد المعلومات بأن الإعداد لفيلم quot;بيت صدامquot;، الذي صُوّر في تونس، قد استغرق مدة عامين، جمع خلالها القائمون عليه معلومات جمة من خلال الوثائق و الأشخاص و المعاينة، ولكن الملاحظات التي أشرنا اليها تفضح حقيقة انهم لم يستشيروا العراقيين الحياديين المعنيين حقًا بالشأن العراقي، سواء أكانوا مقيمين في بريطانيا أو في العراق و لم يتأكد هؤلاء القائمون من معلوماتهم بما يجنب الفيلم أخطاءه التي قد تبدو قليلة الأهمية لديهم، لكنها ليست كذلك لدى العراقي الذي يمثل المشاهد الأول له، و هو المعني .. الذي quot;يعرف كل شيءquot; قبل سواه.
الأداء المُتقن
أود أن أشير، أيضًا، الى أنه على الرغم من عدم التطابق التام لشكل الممثل quot;ايغال ناعورquot; مع شكل صدام، إلاّ من حيث القامة والبنية الجسدية، غير أنه كان ممثلاً فائق الموهبة في تمثيله للشخصية، من حيث التعابير وحركة العين والجسد واليد والإنفعال والمشي وحالات الغضب والحزم والشدة وبرودة الأعصاب، و كان تلفظه للهجة العراقية متقنًا جدًا، فيما جاءت التفاتة المخرج في ابراز مخارج الحروف في اللهجة العراقية التفاتة ذكية و موفقة. و هذا الممثل إسرائيلي من أصل عراقي، سبق و أن مثل عدة أدوار مختلفة، منها دوره في فيلم quot;ميونيخquot; للمخرج الشهير quot;ستيفن سبلبيرغquot;. و تفيد المعلومات أن اختيار الممثل لم يستغرق وقتًا، بل كان خاطفًا. يقول quot;ايغال ناعورquot; في مقابلة مع صحيفة quot;مانشستر ايفننغ نيوزquot; أنه عندما علم بأمر الأعداد لهذا الفيلم أعدّ عددًا من الصور لنفسه بشارب لاصق شبيه بشارب صدام، و ببدلات شبيهة بما كان يرتدي من أزياء مدنية و عسكرية، و أرسلها عبر البريد الألكترونيquot;فجاءني الجواب بعد ساعات: احضر لمقابلة المخرج في لندنquot;، و هكذا تم اختياره الموفق. ولا بد من الإشارة الى أن الإختيار كان موفقًا أيضًا حين وقع على الممثل quot;فيليب آرديتيquot; الذي مثل شخصية quot;عديquot; فأتقن دور البلاهة والطيش والرعونة واللامسؤولية ... التي كانت تلك الشخصية تنطوي عليهاجميعًاحقًا.
التعليقات