quot;يا ليت رأسي فيض مياه، وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهارا وليلاhellip;quot; العهد القديم ndash;كتاب إرميا

فرك عينيه بعنف ثم قطب حاجبيه قليلا.. قلبه يخفق وفق إيقاع موسيقي تذكره دون سبب.. يردد اللحن الموسيقي بصمت ربما كي لا يثير أحدا..
حقيبته الصغيرة على ظهره ذكرته بالعودة من المدرسة والفرحة المصاحبة لها.. السنوات البعيدة تهمز أعصابه لكنه يحاول في كل مرة تحاشي الأمر وتوجيه فكره إلى ما هو آت..
سحب يده على ذقنه ورأى من اللائق أن يحلقه قبل التفكير في الوجهة المنتظرة.
الساعة متأخرة بعض الشيء، وكل صالونات الحلاقة مقفلة
-لا بأس.. لا بأس ذقني ليس بالكثافة التي تستدعي ذلك (ردد في أعماقه).
الظلام والنقص الكبير في الإنارة العمومية لم يمنعاه من القيام بجولة في أنحاء المدينة الصغيرة التي يرى أنها تغيرت كثيرا.. منابع الطاقة تبعث في عروقه النشوة وكأنه يستعد للطيرانhellip; يتنقل من شارع إلى آخر وكل زاوية تبعث في أعماقه الفرحة المبهمة.
عندما تقدم من البيت الذي احتل حيزا كبيرا من تفكيره أصبحت دقات قلبه تتزايد.. شعر بقوة تحاول لجم حركته.. لكنه تغلب على الأمر بإصرار لم يعهده في شخصيته من قبل..
رفع يده ثم خفضها.. عاود الأمر بقوة أفزعت على ما يبدو من كان بالبيت.
عندما فتحت سيدة الباب احتضنها بقوة وهو يبكي.. لم تستوعب المرأة الموقف فصرخت بكل قوتها.. حدث لها شيء كالصدمة.. أشعلت الأضواء فجأة وجاء الناس من كل مكان.. الكل يسأل عما حدث دون أن يظفر بجواب..
المرأة غادرها الوعي تماما فتحلق البعض وطلب ما كان في البيت من زجاجات عطر.. وقال البعض بوجوب استدعاء سيارة الإسعاف لنقلها إلى قسم استعجالات المستشفى.
وشيئا فشيئا اتجهت الأنظار إلى الرجل الذي طرق الباب.
ترددت من بعض الجهات أصوات:
-انه هو.. هذا الذي حاول اقتحام البيت، ثم لما انكشف أمره أراد قتل المرأة.
الدهشة ألجمت لسانه والأيدي والأرجل والرؤوس تتهاوى على جسده.. سال الدم بغزارة من أنفه ومن رأسه.. ثم علا صوت أوقف حركة الجميع:
-اتركوه إنه يكاد يموت تحت أقدامكم.. لا تلطخوا أيديكم بدم كلب متشرد.
طرح جسده أمام الجميع والدماء تغطي وجهه وتبلل ثيابه.. خشي الجمع أن يموت في تلك اللحظة ويتحول من متهم إلى ضحية.
-هل نأخذه إلى الشرطة أولا أم إلى المستشفى؟.
-إنه يستحق الموت لكننا سنكون أكثر رحمة كعادتنا دائما.
عندما أفاق وجد نفسه في المستشفى.. أنبوب المصل يربطه بالسرير ورأسه ملفوف والجبس في ذراعه ورجله.. لم يستوعب المكان تماما عندما فوجئ بسؤال:
-هل لك شركاء في تلك العملية الدنيئة؟
-عن آية عملية تتحدث؟
-هل نسيت أيها الدنيء؟.. عملية الاعتداء على منازل الناس والاعتداء على شرف سيدة يشهد لها الجميع بالاحترام؟.
-كنت أهم بدخول بيتي.. أما السيدة المحترمة فهي زوجتي.
-هل لك ما يثبت قولك؟.. أين هي بطاقة هويتك؟
-كانت معي عند عودتي إلى بيتي.. لا أعرف أين ذهبت..
الرجل كان يتكلم بصعوبة.. شعر بألم مفاجئ فأسرع الممرضون لمساعدته.. انسحب موكب المحققين من الغرفة وتركوه مع غيبوبته.
بعدما تأكد الطبيب من تحسن حالة الرجل الصحية سمح للمحققين بأخذه إلى مكتبهم.. سيق مكبل الأيدي وهو لا يدري من سيقابل هناك؟..
نظر بشيء من العتاب إلى المرأة الجالسة هناك، ثم التفت إلى الرجل الذي يجالسها.. كلمه وهو يغالب الدموع:
-هذه هي الدنيا يا سي أحميدة؟.. هل تعلم ماذا فعلت بي أختك؟
-كيف عرفتني أيها المحتال؟.. لأول مرة أقابلك أيها المخلوق القذر.
ثم أراد النهوض والاعتداء عليه، لكن أخته منعته من ذلك وهي بين الذهول والارتباك.
-كيف فعلت ذلك مع زوجك العائد من الغربة؟.. سأحاسبك عندما نعود إلى البيت..
-hellip;hellip;hellip;
المرأة تقسم بأنها لم تره في حياتها وأخوها يؤيدها في ذلك وهو مستعد لجلب المدينة كاملة لتشهد معه..
التفت المحقق للرجل المكبل أمامه وقد رأى الدموع في عينيه إلى درجة يكاد يصدقه في دعواه، لكنه اصطنع الحزم:
-ما هو دليلك؟
-هل تجبرون كل رجل على الإتيان بدليل على أن زوجته هي زوجته؟.. دليلي هو العشرة الطويلة والذكريات بحلوها ومرها.. أنا مستعد لأن أذكرها بكل كبيرة وصغيرة في حياتها.. كل زوايا بيتنا بكل محتوياته.. بل كل العلامات الخصوصية في أدق تفاصيل جسدها..
كلمهم عن تفاصيل محيطهم بدقة أقعدت أحميدة وأخته.. أصبح أحميدة يشكك في خيانة أخته، لكنها كانت تقسم بكل مقدس أنها أبرأ من البراءة.. المرأة يعرفها كل الناس بتدينها وابتعادها عن الناس.. يعرفها الناس بأنها تجاوزت سن الثلاثين دون أن تتزوج.. فكيف عرف ذلك الغريب كل تلك التفاصيل يا ترى؟.. تقدم عدد كبير من سكان المدينة بشهادتهم وأجمعوا على براءة المرأة وأن الرجل لم يروه قبل الآن..
أما الرجل فكان يبكي ويقسم بأنه على حق.. لكنه لم يجد من يعضده.. قال استدعوا فلانا فأنا أعرفه منذ سنين طويلة وسوف ينصفه وعندما يجيء المطلوب يقسم بأنه لا ينطق إلا بالحق ثم ينفي معرفته بالرجل.
بدأ الرجل يفقد صوابه.. أراد تمزيق أنبوب الجبس الذي يحيط بذراعه ويتوعد الذين شهدوا ضده بالانتقام.. أسرع البعض لثنيه عما عزم عليه..
أمسك المحقق رأسه بقوة وطلب مهدئا، ثم قال لمعاونه بصوت خافت دون أن يلتفت إليه:
-اعطني رقم هاتف طبيب الأمراض العقلية؟.

الجزائر [email protected]