زهير الهيتي من برلين: لا يمكن حصر كتابات الروائية عالية ممدوح ضمن ما يطلق عليه ب(الأدب النسائي) بأي حال من الأحوال، فعملها الأخير (التشهي) والصادر عن دار الآداب في بيروت عام 2007 ينفي هذا الاحتمال بل انه يرد وبقوة على محاولات الكثيرين من الكتاب العرب احتكار التكلم عن المرأة مستخدمين ضميرها كما في أدب أحسان عبد القدوس ويوسف السباعي على سبيل المثال.أن المتابع لأعمال ممدوح يرى بوضوح التغيير الكبير الذي طرأ على أسلوبها الأدبي الذي كان في بداياتها يطغي عليه أسلوب الكتابة الصحفية، والذي تحول مع السنين وتراكم الخبرة إلى شيء كثيف أشبه بكرة الرصاص الثقيلة التي لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال ولعل هذا هو الذي ساعدها على الفوز بجائزة نجيب محفوظ الأدبية. في عملها الأخير هذا الذي نحن بصده، تحوك عالية ممدوح الكلمات التي تشتغل عليها بدقة متناهية وتحولها إلى خيوط غرائبية، فهذا خيط من الخيبة وذاك من الحب، وآخر من الدم وواحد من الجنس.. لاشيء هناك متروك للصدفة أو الإهمال.. قد تبدو التفاصيل أحيانا قريبة إلى الملل الذي يؤكد حرص الكاتبة على عدم إهمال أي منحى مهما كان صغيرا.العنوان نفسه(التشهي) جاء غرائبيا ويحمل أكثر من مدلول، وهذا هو دأبها في اختيار عناوين أعمالها من كلمة واحدة مثل(المحبوبات) (الولع) (الغلامة).. الخ
(أن الشرق والغرب دمرا بلدك.. .. ربما البلد يغري بالتدمير أليس كذلك؟).. تحاول عالية أن تروي لنا قصة بلد دمر مستخدمة لغة الرموز بصيغة رائعة مبتعدة قدر الإمكان عن الابتذال والسقوط في فخ المباشرة.. تستخدم عالية في هذا العمل أدواتها اللغوية لخرق تابو كبير يخيم على أجواء الرواية العربية بشكل مبالغ به، ألا وهو الجنس.. وهي لا تفعل ذلك لمجرد تحقيق سبق أدبي، أو للإثارة، بل على العكس.. أنها تحاول أن تقول لنا.. كلكم تمارسون الجنس بشكل يومي، رجالا ونساء، فلماذا كل هذا الذعر عندما يخرج إلى العلن؟.. أما آن لنا أن نعيد بعض التوازن إلى مجتمعاتنا التي تعاني من انفصاد حاد في سلوكياتها بين ما هو معلن وما هو مخفي.. والمخفي كان أعظم!.. أما آن لنا أن نتكلم عن حياتنا الخاصة والتي هي بالضرورة تنعكس على العام منها، بدون أثارة رخيصة وبدون خوف من أصحاب الفتاوى المتشظية كالخلايا السرطانية والتي تحاصرنا ليل نهار، وان نرد الاعتبار إلى المرأة وقبلها الرجل في مجتمعاتنا!.. فكرة العمل مبتكرة وفريدة من نوعها وغارقة بالرمزية التي تحولها إلى أحجية ممتعة.. لقد اختفى العضو الذكري لسرمد برهان الدين، وكما هو معلوم أن هذا العضو يرمز في مجتمعاتنا إلى الفحولة المطلقة والفخر والاعتزاز والقائمة تطول، فماذا يحدث لو اختفى العضو الخاص بكل هذه القائمة؟..
كيف يمكن لإنسان عربي أن يعيش بدون عضوه الذكري، وهو مركز الدنيا بالنسبة له وحوله تدور الكرة الأرضية؟.. كارثة!
أن عملية اخصاء البطل هو دلالة رمزية على عملية اخصاء شعب بأكمله، لقد حدث هذا في العراق إبان الحكم الذي انهار على يد الأمريكان ويحدث الآن في العراق أيضا، ولكن على يد الأجهزة الاستخباراتية والمليشيات الدينية والقوى المحتلة.. الكل يحاول أن يخصي الآخر ويلغيه!.. وكما هو معلوم، الاخصاء السياسي والهزيمة صنوان لا يفترقان، وهي تربط بينهما بخيط لا غير قابل للقطع.. سرمد برهان الدين الذي يعتنق الشيوعية، عكس أخيه الغامض المنتمي إلى جهاز المخابرات العراقي، وهذه أشارة واضحة إلى انقسام المجتمع العراقي في ستينيات القرن المنصرم بين الشيوعيين اليساريين والبعثيين اليمنيين وصراعهما الايدولوجي الذي جر البلاد إلى بحور من الدم والكراهية.. يتصارع الأخوان على (ألف) هذه الفتاة التي أحبها سرمد برومانسية خيالية غير واقعية والتي استولى أخيه عليها بمنتهى البساطة وهي رمز إلى السلطة التي ظل الشيوعيين العراقيين يحلمون بها ويغازلونها عن بعد، في حين أن البعث استولى عليها بمنتهى البساطة وباغتصاب سياسي مهد لعملية الاخصاء السياسي التي عمت العراق كله!.. وهناك جانب آخر مهم في هذه الرواية وهي العلاقة الغريبة التي تربط العراقي أو العربي عموما، بدول المهجر الأوربي والأمريكي، علاقة تمتزج بها وبمقادير متساوية من مشاعر الحب والكراهية!.. فنحن نطمح إلى تقليد نجاحهم ونعلق فشلنا عليهم، وهكذا فكل علاقة جنسية يقيمها سرمد برهان الدين مع واحدة من عشيقاته يمكن أن ترسل لنا عالية عبرها رسالة مشفرة!.. كما أن التطرف السياسي لم يغب في هذا العمل المهم، فشخصية(أبو مكسيم) الشيوعية، والذي هو قادر على (دحرجة رؤوسا كثيرة وفي أوقات قياسية وليس بيده وبدون شفقة تذكر.يبدو حقودا وحقده ذو طابع تأسيسي) وهي شخصية تزخر بها الحياة السياسية في تاريخ العراق الحديث، ما بعد الجمهوريات، ويمكن أن ينطبق هذا التوصيف الدقيق على أي سياسي ومهما كانت صبغته السياسية أو حتى الدينية، فهذا الاستعداد العالي نحو التطرف هو عامل الخلل الأكبر في الشخصية العراقية والذي ينتج العنف بصيغ وأشكال مختلفة!
تبلغ عالية ممدوح أقصى حالات اللوعة والمنلانكوليا عندما تقول (سرمد أنت دائما تعيش في مكان آخر وهو ألهناك) فكلنا يعيش في تلك المنطقة الغامضة الرمادية الملعونة التي تدعى (ألهناك.. ) كل منا يحمل وطنه والذي هو عبارة عن كومة من الذكريات المتهرئة ويعيش (هناك.. ).. غاب عن العمل الشخصية النسائية العراقية مع كثرة الأوربيات ومغربية واحدة، وإذا كان سرمد برهان الدين، بطل العمل، هو عينة نموذجية لأي عراقي، حيث يجد قدرا، بهذا الحجم أو ذاك، فيه.. فكم هو مقدار عالية ممدوح في بطلها.. وهل لهذا السبب غابت المرأة العراقية عن هذا العمل؟..
في النهاية لا يبقى لمن ينتهي من قراءة هذا العمل سوى طعم الفقدان في فمه، على الرغم من أسلوب السخرية السوداء الذي استخدمته بمهارة.. (فقدت بلدي إلى الآبد دون أن اكسب بلدا آخر- 144)