فاضل سوداني: من اجل أن تصبح الاستعارة رؤية بصرية حياتية للإنسان تؤثر على خطابه الفكري والإنساني وحساسيته الحياتية، بعيدا عن محدودية وظائفها المعروفة في مجال اللفظ واللغة والخطاب الأدبي، يكون من الضروري وضع السؤال التالي : ما هي الوسائل والأنساق التي تساعد على أن تكون الاستعارة وبالذات المرئية ـ البصرية منها جزء من خطاب بصري مؤسس على فنون تعبيرية بصرية كالمسرح والفن التشكيلي والصورة السينمائية أو الفوتغرافية؟.
إن عصرنا هو عصر الصورة، لذا فان الاستعارة البصرية هي رؤية للعالم الموضوعي والمتخيل و تساعد الإنسان على فهم الكثير من جوانب الحياة وغموض لغته وموتها في الكثير من الأحيان. ولهذا إانها تتحكم بالخطاب الإنساني كلغة وفكر وتصور وتخيل.
فإذا كان الأمر على هذه الحال،وإذا كانت الاستعارة الأدبية إحدى مجالات البلاغة، فان علم البيان مرتبط بها ويدرسها كإحدى محسنات علم البديع وبالذات محسنات الأسلوب اللغوي وإحدى أهم الوسائل لإبراز المعنى الأدبي وتوضيحه.
ولكن ماذا عن المحيط الذي يسكنه الإنسان ككائن معقد حي؟ إذ أن ( الاستعارة من الأدوات المهمة جدا في محاولة الفهم الجزئي لما لا يمكن فهمه كلية : أحاسيسنا وتجاربنا الجمالية وسلوكنا الأخلاقي ووعينا الروحي، و مجهودات الخيال هذه لا تخلو من بعد عقلي، فهي تستعمل الاستعارة، وتستخدم ما هو عقلي أيضا.)
إذن هل يمكن القول بإمكانية تأسيس حقل آخر تحت عنوان بصريات الاستعارة أو الاستعارة البصرية ـ المرئية؟. فبالإضافة إلى دور الصورة كلغة فرضتها التكنولوجيا المعاصرة والطموح اللامتناهي للإنسان وشمولية تفكيره، وتعلمه الشك في كل شئ من خلال مفاهيم وفلسفات كل من ماركس وفرويد ونيتشه، فان الإمكانيات التأويلية للاستعارة في وقتنا الحاضر، لابد أن تكون كبيرة. حاضرة في الحياة لأننا نعيش في غابة من الاستعارات و الرموز. (فإذا ساعدتنا نظرية الاستعارة بوصفها تحليلا تمهيديا يفضي إلى نظرية الرمز، فان نظرية الرمز في المقابل، ستتيح لنا توسيع نظرية الدلالة، بإتاحتها لنا أن نضمن فيها ليس المعنى اللفظي المزدوج فقط، بل المعنى ألا لفظي المزدوج أيضا.) ( كما يؤكد بول ريكور في كتابه نظرية التأويل ).
وبما أن الاستعارة البصرية مرتبطة بالأسلبة أي الاختزال والتكثيف في الرؤية والفكر التعبيري واللغة وإمكانية مسك الجوهر في الظاهرة أو الشيء، فان هذا يساعدنا على أن نتوصل إلى غنى الكثير من المعاني والصور بأدوات قليلة.. فكرية ولفضية. ويمكننا أن نطبق هذا المفهوم على الفنون البصرية من خلال الأمثلة التي ستصبح براهين لتثبيته،كما نطمح في هذه الدراسة.
وهذا يحتم دراسة بعض الأبعاد التأويلية للاستعارة كوسيلة لغنى اللغة التعبيرية في الفنون البصرية المختلفة وبالذات في المسرح و التشكيل من اجل أن نتعرف على إمكانيات الاستعارة البصرية ليس فقط كوسيلة تغني النص الأدبي وإنما البصري أيضا استناداً إلى قدرتها التأويلية.
الاستعارة وتأويل لغة المسرح البصري
يدفعنا غنى الإمكانيات التأويلية للاستعارة البصرية في الفنون عموما، إلى التأكيد بأنها تهتم بالبعد ألزماني وليس المكاني فقط، لان الاستعارة أساسا تأويل زماني.فالعرض المسرحي البصري المعاصر مثلا يمنحنا إمكانية استخدام الاستعارة البصرية كوسيلة لتأويل الفضاء المسرحي وذلك من خلال وسائل غير لغوية و غير أدبية، وإنما من خلال مكونات الخطاب والصور البصرية، إضافة إلى مفردات لغة بصرية خاصة مثل التي أعمل على تحقيقها وأدعوها في المسرح: بلغة الذاكرة البصرية المطلقة لجسد الممثل في الفضاء ( أي توضيح العلاقة والغنى التبادلي بين الاستعارة التأويلية والذاكرة البصرية للجسد ). ولا يمكن إغفال الاستخدامات التعبيرية للون( في الفنون ) كذاكرة بصرية استعارية، وكذلك الصوت و الإيقاع في الفضاء المسرحي الذي يعمق ويخلق التأويل الإيقاعي الإستعاري، إضافة إلى الأنساق الأخرى التي تكون العميلة الإبداعية.
ومجموع هذه الوسائل أو الأنساق تشكل وجودا بصريا للغة إبداعية، وتكون كذلك استعارة تخلق مفردات لغة تأويلية بصرية لا تعتمد على الكلمة فقط، وإنما تعتمد على لغة بصرية في الفضاء التي لا تسمع فقط وإنما ترى وهي التي ندعوها بالبعد الرابع الذي هو تأويل ولغة بصرية تعتمد على ميتافيزيقيا الصورة البصرية أو الهذيان الإبداعي البصري، إن البعد الرابع في المسرح او الفنون البصرية عموما هو رؤيا تكتب بلغة الصورة والتداعي الحر وتأثير الاستعارة البصرية التي تساهم بشكل كبير في غنى تأويل الخطاب اللغوي الأدبي أو البصري.فيخلق لنا حالة من الانبهار يحدث نوعا من ظاهراتية الروح.
وبالتأكيد فان هذا سيستخدم كمكونات وعناصر بلاغية واستعارية لغنى تأويل اللغة البصرية و سيساعد على الوصول الى بلاغة وغنى الاستعارة في النص أو العرض المسرحي البصري أو في لغة الفن التشكيلي أو السينمائي أو فن الصورة سواء كانت فوتغرافية أو سينمائية. لذلك فان بلاغة الاستعارة البصرية واستخدامها في خلق تنوع الأساليب وغنى المتن الواحد، وسيخلق هذا وجودا بصريا للغة والخطاب الإبداعي،و سيمنحنا أيضا إمكانية تعبيرية جديدة، مما سيساعد القارئ أو المشاهد على ان يكون متفاعلا مع ما يقرأ أو يشاهد.
وتأكيداً على فكرتنا هذه سنورد أمثلة مختلفة للعروض المسرحية و للوحات التشكيلية. ان المناهج التي أكدها واكتشفها أساتذة المسرح أسلبت العمل الفني وجعلت من حركة الجسد استعارة وذاكرة بصرية غنية بدون اللجوء إلى الشرح اللفظي،أو إنها ملئت فضاء العمل الفني بالرموز والدلالات.
فوجود الممثل في الفضاء في علاقة إبداعية ـ ديناميكية مع قرينه الممثل الآخر أو المادة أو الشيء هو من اجل إنتاج معنى محدد وصورة هي في الأساس استعارة بصرية. ويمتلك جسد الممثل وذاكرته طاقة إبداعية سرية يمكن تحقيقها من خلال مساعدة واستيعاب عملي لمفاهيم ستانسلافسكي ( خاصة في الفعل الفيزيقي ) واكتشاف برتولد برشت المهم في تأثير التغريب. وكذلك انتونين آرتو في افكاره حول (مسرح القسوة ) وغروتوفسكي في مفهوم ( المسرح الفقير والممثل المقدس ) ومايرهولد (في البيوميكانيكا و معنى الافعال الفيزيكية في الفضاء) وروبرت ولسن( والصورة او التشكيل ومسرح مابعد الحداثة ) و مفاهيم كل من كانتور وجوزيف شاينا (في الصورة والآفاق التشكيلية في المسرح ) وما نطمح له في تكثيف الفضاء الإبداعي من خلال كتابة النص البصري و استخدام حركة الجسد وطقوس الوجد الصوفي في مفهومنا حول البعد الرابع.
الاستعارة وذاكرة الأشياء المطلقة.
وفيما يخص الأشياء واستخدامها كإستعارة بصرية في الفنون فان هذا يفرض سؤالا مهما وهو :
هل يمكن ان تساهم البلاغة و الاستعارة في منح الاشياء التي تستخدم في الفضاء الفني تاويلا بصريا يجعلها غير ساكنة كما هي عليه في الواقع، بل حية وديناميكية ومعبرة؟ ومنحها بعدا إستعاريا جديدا، من خلال استخدامها كإستعارة بصرية؟. وكمثال تطبيقي على هذا يمكن اعتبار نص مسرحية الكراسي ليوجين يونسكو نصا بصريا ينطبق عليه مفهومنا عن ذاكرة الأشياء المطلقة كاستعارة بصرية في المسرح. فالكراسي في هذه المسرحية والتي يمتلأ بها فضاء المسرح،خلقت هذيانها الوجودي وذاكرتها البصرية عندما منحها المؤلف بعدا استعاريا آخر بعيدا عن وظيفتها الحياتية. مما أعطى للممثل امكانية التعامل معها بشكل ومعنى مختلفين أدى الى ان تحقق وجودها الميتافيزيقي الجديد ( وليس الواقعي )، بحيث بدت وكأنها مجموعة من الناس الذين دعاهم الزوجان ( بطلا المسرحية ). وعندما حضر الضيوف غير المرئيين إلا من قبل الزوجيين للاستماع إلى وصيتهما التي يعلنان فيها كيفية إنقاذ العالم، تحولت الكراسي إلى ضيوف و جمهور للمستمعين، ولأجل خلق الكوميديا السوداء فان المؤلف جعل الزوج صاحب الوصية أحراسا أطرشا.
وبهذا فان الكراسي ( الضيوف ) خلقت وجودها المكثف او حضورها الصرف على خشبة المسرح، وكذلك امتلكت وجودا آخر يوحي بالوجود البشري عندما تعامل معها الممثل بدلالات اخرى. وفي ذات الوقت أوحت بغياب الآخر ( ألإنسان )غيابا ملحاً واحتلت دوره التعبيري تقريبا واصبحت هي البشرعندما بدت و كانها استعارة بصرية عن الخواء الانساني والعدم،وهذا مايؤكد عليه يونسكو ذاته. ( المهم هو ان الكراسي الفارغة ترمز الى غياب الناس والامبراطور والمادة وتهافت الحقيقة والفراغ المطلق ).
وللتدليل على استخدام الرؤيا الفنية التي تحيل الى دلالات ورموز واستعارات جديدة نجده في ( الارستقراطيون ) أحد عروض المخرج الروسي أوخلوبكوف التي عبر فيها عن عاصفة ثلجية :( أن المسرح يمتلك أدوات صوتية عديدة للإيحاء بالعاصفة )، ولكن في عرض للمخرج أوخلوبكوف هذا كان مجاز العاصفة قد عبر عنه بغزو من قبل مهرجي كرنفال، فتيان وفتيات quot;ممثلون في مآزر زرقاء quot;يتراشقون بقصاصات ورق صغيرة وهم يقفزون محدثين ضجيجاً. هذا الكرنفال الذي يبدو كالزوبعة ـ كان إشارة واستعارة لعاصفة عنيفة) اذن الكرنفال البشري بألوانه أصبح استعارة مجازية عن العاصفة وحل محلها.
مايرهولد والاستعارة البصرية
يستطيع الممثل أن ينتج معنى ودلالات واستعارات جديدة إذا تعامل مع المكان ومكوناته تعاملا استعاريا طبعا. وحسب الذاكرة الجسدية للممثل والرؤيا البصرية للمخرج فان خشبة المسرح الفارغة من أي معنى يمكن أن تصبح مكانا وفضاءا مملوءا بالرموز و تتحول إلى ساحة معركة أو بحر، سجن.. الخ
إذن الحديث عن عمل الممثل يدفعنا إلى التأكيد على أهمية الاستعارة البصرية في الزمان والمكان الابداعي وكذلك عن رمزية الإشارة وما خلف الإيماءة التي تشكل جوهر عمله أيضا في إنتاج المعنى. لهذا فان اكتشافات المخرج مايرهولد وأفكاره حول مفهوم التركيبية ونظريته التي أطلق عليها البيوميكانيكا، تصب في مفاهيم السميولوجيا المعاصرة وألاستعارة البصرية. حيث عمل ميرهولد على اكتشاف معاني ودلالات بعيدة عن معانيها في الواقع من خلال علاقة الممثل بالمكان والزمان والاشياء وذلك من خلال تاكيد الغني التاويلي للاستعارة البصرية.
فالوعي الفني المستقبلي لمايرهولد آنذاك حتم عليه استخدام التركيبية بدون أدوات ديكورية، وحل الممثل محلها. فتعامله معها هو الذي يحدد المكان ويوضح المهمات. فالممثل هو الذي يخلق بعدا استعاريا جديدا للأدوات والأشياء من خلا ل كون الحركة دلالة إستعارية في الفضاء.
وكان مايرهولد يتميز بقدرته العالية في كيفية استخدام طاقات الممثل سميولوجيا. ففي مسرحية ( موت تاريلكين نشاهد الممثل يغدو جيئة وذهابا كالسجين، لكنه ليس في سجن، وانما في بناء خشبي أسطواني لا يشبه السجن في أي حال، لكن من خلال حركة الممثل وتعامله مع المكان ندرك ان وظيفة هذا البناء هوquot; زنزانة quot; ).
وبالتأكيد فان الاستخدام الصائب للمفهوم السميولوجي ـ الدلالي وفهم المسرح على انه فضاء لتعدد المعنى من خلال الاستعارات البصرية. كل هذا سيمنح آفاقا جديدة لتشكيل اللغة التعبيرية للممثل والمخرج والمؤلف، إضافة إلى تأشير الإمكانيات في اكتشاف فضاء آت أخرى لتشكيل مفاهيم نقدية جديدة.
الاستعارة التشكيلية البصرية
يمنحنا الفن التشكيلي الكثير من المفردات والوسائل التي تجعل من الاستعارة وسيلة غنية تدفعنا لدراسة مكونات اللوحة وذاكرة اللون وأسرار اللغة البصرية التعبيرية. فمثلا عمد فان كوخ استخدام الاشياء بمفهوم استعاري قلما نصادفه فهو حاول ان يحول الكراسي او الاحذية التي رسمها كاستعارات بصرية للتدليل على وجود الكائن الانساني، وكذلك محتويات المقاهي الليلية التي يبدو الانسان متظرا في احدى زواياها كمن يكون تائها او فاقدا لذاكرته لكن مفروض عليه ان ينتظر المجهول وقد يكون انتظاره ابديا.
في لوحته مقهى ليلي وهي احدى المقاهي التي تعمل حتى الصباح في فرنسا و يلجأ لها الغرباء التائهون ينتظرون بلا هدف بسكونية غريبة فيشعرون بالوحشة في مدينة غريبة لدرجة يترى لنا بان الإنسان يتحطم ويتمزق في هذا المكان. وبمعنى اخر ان الانسان الذي بلا هدف هو تائه حاتما فينتظر العدم في الزمان الذي لايرحم والمكان الغريب.
اما في لوحة مقهى في الليل فان اللون الاصفر يفرض وجوده وكثافته، فهو يشع لدرجة الربط بينه وبين النور لانه يقوم بتأكيد الوجود او مكونات الحياة والتركيز على الاشياء وإظهارها ليوجدها لذاتها، وبهذا فان النور (الذي يبدو هنا عدوا للزمن ) لا ينفصل لا عن الانسان ولا الحياة، انه يدخل معهما في فرضية الوجود على عكس الزمن الذي يفرض تآكل الموجودات والاشياء تدريجيا. من هذا المنطلق قام كوخ بتكثيف اللون الأصفر طامحا ان يأخذ سمات نور ملتهب كما هي المعرفة. وبالرغم من اكتظاظ فضاء اللوحة، إلا اننا نشعر بالخواء الروحي ليس في داخل الإنسان فحسب بل أيضا ذلك الخواء الذي يخلقه المكان ومكوناته، فالأبواب والنوافذ الخضراء مشرعة في ظلام أزرق مخضر شاحب. وما يؤكد هذا الخواء هو ان كراسي المقهى ومناضدها تشعرك بوحدتها وعزلتها وتشيئها كما في مقدمة اللوحة، وكأن جلاسها قد غادروها تواً للذهاب الى الفردوس او الى جحيم آخر.
اما البشر في اللوحة وبالرغم من حركتهم التي توحي بأنهم أحياء و يتكلمون فيما بينهم، الا انهم يبدون وكأن هنالك سرا او فاجعة ستشيع في المكان لذا فمن السهولة ان نشعر بسكونهم ووحدتهم وعزلتهم، مما يوحي وكأن هنالك قوة ما ستسلب وجودهم، ويؤكد هذا تلك العربة المنبثقة من ظلام البرزخ الكثيف في العمق، وكأنها عربة الموت التي لابد ان يطغي ضجيج حوافر خيلها على كل الأصوات الحية.
و بما أن الألوان لدى كوخ اصبح لها معادلها الاستعاري ورموزها التأويلية ـ الميتافيزيقية، لذا فان هذا السقف الازرق الموحش الذي يهيمن على عالم اللوحة يبدو كأنه سماء الأبدية، فليس النأي السديمي للنجوم هو الذي يتلألأ فيها بل تبدو وكأنها ألأمل وقد تحول الى ثريات بيضاء معلقة في سماء قد تبدو قريبة من الإنسان إلا انها نائية جدا عنه.و في عمق اللوحة المضئ بالازرق تتجه الفتاة ذات الرداء الاحمر نحو هوة الموت الجحيمي الذي يتكثف في ظلام دامس يعبر عن المجهول في ذاكرة الانسان. اذن اللوحة هي استعارة بصرية وكانها (ترتيلة حب حزينة لسكان المدينة والعالم ).
في لوحة نجوم الليل فوق رونه سينعكس ضوء النجوم التي تشبه الثريات على صفحة البحيرة الهادئة بشكل مشع وكأنها توهجات نار متوحشة تتلألأ خارجة من الماء ويلغي الفنان كل ملامح موجودات اللوحة ماعدا عجوزان(رجل وامرأة ) يسيران في مقدمة اللوحة باتجاه المشاهد وكأنهما تائهان او مغموران سعادة بعد ان تذكرا ماضيهما عندما وقفا على جرف البحيرة قبل لحظات.انها استعارة عن ثريات الماضي كمرايا تتلألأ في خريف هذين العجوزين. كذلك فان الاشياء كالاثاث ومزهريات عباد الشمس الوحشي والاحذية والكراسي و التي تبدو اشياء جامدة، كانت ذات علاقة حميمية واستعارة بصرية في فن فان كوخ. ومن خلال هذا يمنحها استقلاليتها فتمتلك حركتها وإيقاعها ومعناها الجديد.
ففي لوحة كرسي بول غوغان الذي رسمه كوخ إكراما له وابتهاجا بحياتهما المشتركة التي عاشاهالفترة قصيرة في البيت الاصفر في مدينة آرلس جنوب فرنسا، يمكن ان نلاحظ في خطوطه وحركية الوانه، سمة من الاحتفالية والاستقرار الذي استشعره كوخ عند انتقال غوغان للعيش معه، وقد عبر الفنان عنه من خلال هارمونيا اللوحة وطغيان اللون الاخضر الذي يوحي بالامل. وغبطة الموضوع هذا تشعرك بحنين الفنان للصداقة التي تشع بنورها من شمعة معلقة في خلفية الفضاء الأخضر، ومضاعفة هذا التاكيد بشمعة اخرى على الكرسي وبجانبها كتابين، إنها المعرفة غير المحدودة والوعي المكثف اللذان يخلصان العقل من محدود يته وسكونيته وبؤسه ويخلصان الروح كذلك من سجن جسدها. ويكون هذا الامر اكثر تجليا عندما يوضعان على قاعدة كرسي خضراء توحي بأحلام تمناها فان كوخ كثيرا و أرادها ان تكون بمثابة الحصانة الداخلية ضد ضيقه وتذمره وقرفه من الحياة وخشونة الواقع انها استعارة بصرية عن حميمة الصداقة التي تشع بالمعرفة، انها نورالعقل والاكتشاف الذي يحمي الانسان.
ويمكن كذلك اكتشاف التعبير عن تشئ الإنسان من خلال التعبير عن حاجاته وتحولاتها كأستعارة بصرية، فالفنان يعبر عن الكائن البشري من خلال حذاءه ومزهرياته او حاجياته اليومية التي يستخدمها لكنه يمنحها بعدها الميتافيزيكي الذي يحررها من واقعيتها. ونظرة مقارنة للوحة كرسي فان كوخ الشهيرة ولوحة كرسي غوغان نكتشف الفروق السايكولوجية والاستعارية وايقاع التعامل مع الحياة والغموض والتعقيد من جانب، والبساطة والتفائل من جانب آخر.
اما لوحة (الحذاء ) الشهيرة ( والتي رسمها فان كوخ مرات و باوضاع مختلفة ) فان الفنان وضع فيها كل إمكانياته التقنية وتجاربه في اللون وتماسك الموضوع، فهو حذاء متفرد في خصوصيته وبعده الاستعاري، ففي الوقت الذي يعتبر استعارة عن بؤس الانسان، إلا انه مرسوم بإتقان وجمالية عالية لدرجة يمكن مقارنتها مع أية لوحة أخرى عن حياة جامدة رسمها فنان من عصر النهضة يتقن صنعته. لكن هذه اللوحةكانت تثير غضب طبقة المجتمع المسيطر لانهم يكرهون اتلك الاشياء التي تؤشر عن البؤس المصيري، فهم لم يتعودوا أن يعلقوا في صالوناتهم لوحة لحذاء بائس ( كطبيعة جامدة ) وكاستعارة عن بؤسهم الذاتي.
إضافة الى لوحة الكرسي ولوحة ( غرفة النوم ) الشهيرة وكذلك لوحاته الأخرى، اراد فان كوخ من خلالها التعبير استعاريا عن وجود الإنسان وتحولات أشياءه التي نعتبرها دائما اشياء تعكس الحالة الاجتماعية والنفسية للإنسان و في ذات الوقت تمتلك اسطوريتها ومثيولوجيتها المطلقة، وهذا مايفرض العلاقة الهذيانية والهمس الوجودي بين إمكانيات التاويل للشئ كإستعارة والفنان الذي يجعلها جزءا من وسائله الابداعية ليعبر من خلالها عن سمو وسقوط الانسان في مرحلة معينة. لكن يظل كرسي فان كوخ وسريره الخشبي يقلقاننا كوجود استعاري وكأشياء لها اسطوريتها المطقة في الفن البصري.
التعليقات