شاشي ثـارور منافـس بــان كي مون عـلـى رئـاسـة الأمــم الـمـتـحدة


بقلم رلى راشد

أكثر من ضربة نرد وموازين قوى وأقل من تعمّد، أقعدا بان كي مون في كرسي الأمانة العامة للأمم المتحدة مكان منافسه شاشي ثارور. في أروقة المنظمة الدولية النيويوركية تحلقت حفنة أصوات انتخابية حول خيار سلب الديبلوماسية أميناً عاماً جديداً من سلالة أدبية، وجنّبت في الوقت عينه الرواية والبحث والقصة فقدان شاشي ثارور المترحل منذ عقود بين التأنق والغنائية، والمصغي الى نزوات الهند وخيالها الجامح ومواطن وهنها.
في quot;شذا الهندquot;، حكى المخرج والكاتب والشاعر بيار باولو بازوليني حيزا جغرافيا تتنازعه الأهواء والمفارقات، فتراءت له الهند في صورة لغز يهيم المرء في دهاليزه ولا يصل الى اختراقه إلاّ متسلحا بالصبر. بازوليني الايطالي قارب بلاد غاندي من منظار غرائبي، أما شاشي ثارور، مساعد كوفي أنان الأسبق لشؤون الاعلام، فوثّق صداقته بالهوية من باب التهكم السخي. أيقظ ذاكرة أسلافه المتلاشية، وانحنى على القصائد الهندوسية الأسطورية مستمداً من قدسيتها قدرة على تبديل وظيفتها لتضحي مساحة مقاومة لمعايير الاستهلاك السلطوية البازغة. تمسك الديبلوماسي بذائقة الكاتب ليستكشف زخم وطن قديم - حديث وماضيه الحيوي وصلته بالمستقبل من باب التخييل والتوثيق وكتابة المقال السياسي في الصحف والمجلات.
الهند الأدبية هي الحدث منذ أشهر. فبعدما أضاء معرضا باريس وفرانكفورت للكتاب على صنّاع أدب هندي محلي بلغة مالايالام وغيرها، quot;نفحتquot; مسألة منح الكاتب سلمان رشدي لقب لورد بريطاني الحياة في استياء عمره سنوات، أعاد الهند الى إشكاليّة أدبها المكتوب بالانكليزية واستجابته الظروف الخارجية. الواقع ان ثارور التحق بقافلة أسماء تضم فيكرام سيث واميتاف غوش، استلهمت التبدل من المساحة الفاصلة بين الحكاية الألفية والحاضر المقطّب الوجه.
في أحدث إصداراته quot;محروم من كتابquot; (اركاد)، يفي ثارور بقدره الاستفزازي، وهو الكاتب المتدفق والقادر وأحد أبرز أصوات جيله، بحسب quot;نيويورك تايمز بوك ريفيوquot;. هذه المجموعة من الأبحاث المترنحة بين السيرة والنقد الأدبي، هي خلاصة رحلة قام بها الى بغداد المتفجعة على نفسها قبل تسعة أعوام، في إطار مهماته في الامم المتحدة. أوغل في الرواية الشخصية من دون إغفال اللجوء الى التحليل والتحقيق. رصد ما يعانيه العراقيون من الأهوال في أرضهم المطوقة، وكيف بات بيع الكتب المسلوخة من مكتباتهم، السبيل الوحيد لتأمين خبزهم المادي، بعدما أمسى الخبز الفكري ترفاً لا يناسبهم. يستحوذ مشهد الكتب المنحورة أرضاً على ثارور خلال بحثه عن تمثال شهرزاد، القائم على ضفة النهر. يكتب: quot;أخبرني أصدقاء لي يعرفون العالم العربي جيداً ان في بغداد وحدها يمكن ايجاد تمثال امرأة ذائعة الصيت لأسباب غير إسلامية. تغدق شهرزاد سحرها على تمثال زوجها شهريار القائم قبالتها. عيناها واسعتان وثوبها مرفرف وقسماتها متواضعة لكنها تسيطر على المشهد، سيدة تسخّر سلطة التخييل للاستحصال على خلاصها الذاتيquot;. يفتقر التمثال الى لوحة تحمل إشارة تعريفية الى حقبة نحته أو اسم صاحبته. من خلال شهرزاد المحرومة هويتها، يطلق ثارور طقس الرثاء للعراقيين الذي فقدوا أسماءهم وكلماتهم وكتبهم. باتت مدينة الرشيد مدينة مخيلتنا الأدبية التي تهمل حكاياتها. وإزاء واقعها المرير، لم يعد حتى في وسعها ان تجد تعزية لها في سحر أساطيرها. من خلال قراءة quot;محروم من كتابquot; نعكف على ذكريات ثارور وعلى نشأته برفقة الكتب، ونستكشف الجوانب المختلفة لما يعنيه أن يكون المرء كاتباً أو قارئاً أو مشاركاً في المغامرة الأدبية. في قسم quot;اعادة الاعتبارquot;، يعود الكتاب الى تعلق الهند بكيبلينغ وبوشكين وجون لوكاريه ونيرودا. يستعيد سطوة الشعر في حقبات الأزمات من خلال قول أثير للشاعر التشيلياني وهو مشرف على الموت، بعدما وصله خبر تهديم بيته. قال نيرودا: quot;في بيتي، ثمة شيء وحيد خطر بالنسبة اليكم (مؤيدو انقلاب بينوشيه العسكري)، إنه شعريquot;. يتجرأ ثارور، مستلهما جرأة نيرودا المسنّنة ربما، فيبدي رأيه الفجّ في أسماء أدبية مكرّسة، ولا سيما في. أس. نايبول وأر. كاي. نارايان. يتهكم بالتبرير الذي قدّمه نارايان حول خيار الكتابة بلغة مستعمريه، معتبراً الانكليزية إحدى اللغات الهندية. يكتب ثارور: quot;لسخرية القدر، يقرأ نثر نارايان وكأنه ترجمة!quot;.
بالطبع، لا يصح ذلك على ثارور الذي انتقى هو الآخر الانكليزية لغةً كتابية. فقد ولد ابن كيرالا الهندية في مدينة الضباب ثم عاد الى الهند ومنها الى الولايات المتحدة حيث انجز اطروحة دكتوراه. التحق بعدها بالأمم المتحدة، وبدءا من باكورته quot;الرواية الهندية العظيمةquot;، سيحصد جائزة الكومونولث لأفضل كتب العام في منطقة أوراسيا. يجب الاّ يخدعنا عنوان الكتاب، فهو لا ينم عن جنون عظمة مستتر، بل يحيي مصدر الهامه، وهي قصيدة quot;ماهابهاراتاquot; الأسطورية القديمة، وتعني بالسنسيكريتية quot;الهند العظيمةquot;. من خلال شخصية فيد فيياس الحساس والغضوب وعميد الشرطة الهندية المتقاعد الذي يملي على نسّاخه مذكراته الغريبة، يستلهم ثارور نص ملحمة quot;ماهابهاراتاquot;، التي تنطوي على نحو مئتي ألف بيت شعري في ثمانية عشر كتابا، لينجز محاكاة ساخرة في ثمانية عشر فصلاً، هي محاولة لرؤية الهند الحديثة، والاستقلال والمخاض العسير والدموي للاتحاد الهندي ولباكستان. طعّم ثارور شجرة quot;ماهاباراتاquot; العائلية بصلات قربى مع شخصيات التاريخ المعاصر. نتعرف إليهم جميعاً وإن quot;ارتدوا قفازاتquot;: هناك غانغادجي (أي غاندي) ودهيتاراشترا الأعمى المتكئ على عصاه البيضاء (نهرو) والشاب كاما صاحب الوجه الذهبي (محمد علي جناح)، خصم المستقبل ومؤسس كارنستان، اليوتوبيا الاسلامية النائية، ناهيك ببريا دوريوداني (انديرا غاندي) التي تكمل البورتريه العائلي. يعيد الكاتب خطّ مسار تطور الهند الحديثة خلال القرن الماضي من خروم الملحمة الأصلية وكتابة متخفّفة من الثقل ونبرة وثيقة الصلة بعصرها.
يعتمد ثارور هذه الخصيصة الاسلوبية، بمنحاها التعليمي المتأبط شكل الترفيه المموه، في quot;عالم الاستعراضquot; تحت وطأة أضواء سينما بوليوود. quot;عالم الاستعراضquot; رواية ما بعد حداثية تعيد ابتكار عالم الاستوديوات وتسرد حكاية نجم على نحو مسلّ يستثير التفكير العميق في شأن صناعة الحلم والقصص التي ترويها عن نفسها وعن الهند. تسمح للقارىء بالنظر وعلى نحو مستحدث، الى مسار تقديس الشخصيات العامة المتفشي في الهند والمرتبط بلاعبي الكريكيت ونجوم الفن السابع، بعدما فقد السياسيون هذا الترف. بدءا من quot;بوليوودquot;، يصل ثارور الى حاضنتها مدينة بومباي التي تفتحت فيها طفولته. فتنت بابل العصر عدداً من الكتاب الهنود، عاينها بعضهم واستمعوا الى نبضات قلبها ومغالاتها. بومباي جنيّة بلباس عسكري. هي أشبه بباحة الهند الداخلية، باحة تعجّ بالأعاجيب. مفرطة وجذابة ومنفّرة، نراها في quot;عالم الاستعراضquot; ملاذاً لأبطال كئيبين، هائمة في ضوضائها الداخلية، وممزقة داخلها تجرنا الى رحلة في الحر والغبار والدوي وضراوة الحال. في مدينة انتحارية، بواليعها مفتوحة على الهواء الطلق ومكتظة داخل بيوت الصفائح التنكية، نرتطم بشائعة بومباي المريعة التي يسوقها كاتب هندي آخر هو التاف تيريوالا. تحمل بومباي سمات الجنة والجحيم والمطهر لدى دانتي في آن واحد، ويكتب تيريوالا quot;في جحيم مماثلة، يجب على الله الصراخ لكي نلاحظهquot;.
في quot;أعمال شغبquot;، يلقي ثارور نظرة ثاقبة على العنف الجماعي والشغف الانساني في الهند الراهنة، ومن دون تبرج. تأتينا بفورانها من خلال بريسيليا هارت، أميركية مثالية يحركها الاندفاع لتقصد زاليلغار الهندية ضمن بعثة انسانية. في المدينة التي تنهشها المواجهات الدينية، يتم اغتيال ابنة الرابعة والعشرين في ظروف غامضة خلال أعمال شغب. إنها الحكاية المؤثرة لعشرة أشهر سبقت الحادثة بعيون أشخاص عرفوا الشابة عن قرب أو عن بعد. يهمل ثارور التهكم الذي ميّز quot;الرواية الهندية العظيمةquot; وquot;عالم الاستعراضquot;، ويختار مقاربة القصة على نحو مشتت من طريق وجهات نظر يستل تفاصيلها من دفتر يوميات بريسيليا ومن الرسائل والمقالات الصحافية، كما للقول ان لا وجود لحقيقة مجردة. quot;أعمال شغبquot;، قصة حب مختلّ ومستحيل بين بريسيليا ولاكشمان الهندي، في فيسفساء متعددة اللسان واللون، مسكوبة في قالب الاعجاز، وهي أيضاً ملخص واقعي للمواجهات الدينية ولعنفها المقزز. ينسج ثارور شبكة سردية متماسكة يحكم التصرف بها. يصف مشاهد الحب والشغب بحس يكاد يكون بصرياً، ويرسم جدارية حية لزاليلغار على صورة الهند، ضحية النماذج الجاهزة الغربية، مدينة مجزأة بين الوعي للتقاليد والتوق الى العصرنة. ويستعيد قارئ quot;اعمال شغبquot; عفوياً، من خلال قدر بريسيليا التراجيدي، مسألة الاغتصاب الحقيقي - الوهمي للشخصية الرئيسية في رواية إي. أم. فورستر، quot;طريق الهندquot;.
عندما رغب ثارور في كتابة السيرة، لم ينتق الشكل النمطي المستفيض الذي يغزر في رفوف المكتبات، بل جنح نحو البحث الحيوي والمقتضب والشخصي المقرون بقصص أسطورية، ليطأ عالم رئيس الوزراء الهندي السابق نهرو في quot;نهرو: ابتكار الهندquot;. يشير ثارور الى سياسات نهرو التي قادت الى اللاإنصاف، من دون لومه مباشرة على الجور القانوني اللاحق بالمسلمين والمسيحيين. يعاين ثارور دعامات إرث نهرو الاربع: الديموقراطية والعلمنة وعدم الانحياز والاشتراكية، ليصل الى حكمه النهائي في شأنها: الديموقرطية ثابتة أما العلمنة فمحاصرة، واللاانحياز ووري في النسيان، والاشتراكية بالكاد لا تزال متماسكة. تتضمن هذه السيرة فصلاً بالغ الدلالة يقوّم تركة نهرو الذي احتفظ في مكتبه بتمثال غاندي النصفي وبسبيكة برونزية تتخذ شكل يد لينكولن. يكتب ثارور: quot;يعكس الغرضان مصدري إلهامه: واجه نهرو المشكلات مستعيناً بقلب غاندي ويد لينكولن. ربما بات زمن نهرو غابراً إذ ثمة تفصيل يقول شيئاً عن تقلّص إرثه الفكري، استقر التمثال واليد بعد موته في متحف ولم يحتفظ الورثة سوى بالمكتب!quot;.
لا تفوت ثارور العودة الى نشأته في quot;البسمة بخمسة دولارات وحكايات أخرىquot;، إذ يُخرج خمس عشرة قصة قصيرة من جعبته كمن يخرجها من صندوق باندورا. إنها نثار طفولته وquot;خربشات ولد صعب المراسquot; كما يقول، سكبها على الورق بين الخامسة عشرة والعشرين، لكنه عدّلها لتلائم عصرنا، محتفظاً بموضوع لا ينفك يؤرقه، أي معاناة الفقراء والهوة السحيقة من عسر الفهم بين الغرب والعالم الثالث.
ينتظر شاشي ثارور ركود الليل، بعد منتصفه تحديداً، ليكبّ على quot;محاباةquot; الحبر. يربط هذا الصوت الهندي التخييل بالسياسة والاسطورة بالواقع لينهض بحكاية من أعماق روحه، حكاية كاتب لا يزال يرى العالم بعيني مراهق بغية ابراز ضلاله على نحو أوضح.