صلاح نيازي: وقع بين يديّ ديوان صغير لشاعر فلسطيني مشهور معاصر. ممّا يثير الآنتباه وكذلك الدهشة في هذا الديوان، محوران أساسيّان تدور حولهما معظم القصائد، وهما الريح والظلام، لا على أساس أنّهما ظاهرتان فنّيتان، تَوَسَّعَ الشاعر في إغنائهما بالرموز والدلالات، ولا على أساس أنهما ظاهرتان طبيعيّتان تضخّمان بتوقيتهما، الصورَ الشعرية، ولكنّهما لازمتان يرتدّ إليهما الشاعر كلّما ضاق تعبيراً وفكرة. الريح هنا ليستْ باردة، ولا حارّة ولا حتى فاترة. ليستْ ترحالية، وليستْ مستوطنة تدور بلا هدف. لا تسفع ولا تثلج. لكنّها تصيب القصيدة بالدوخة والقارئ بالنفرة. ما من سبيل لإكمال قراءة قصيدة من هذا النوع إلاّ إذا أردتَ آختبار صبرك.
الظلام في هذه القصيدة خالٍ من الطعم والرائحة والصوت. خالٍ حتى من الظلام!
لا ريب، حتى تكون الريح ذات تأثيرٍ فنّي أشدّ، فلا بدّ من مسرحتها. لا بدّ من تعيين موقعها وقوّتها وآتجاهها وغايتها، بحيث يبدو لأضعف الرياح مفعول الأعاصير والزوابع. تماماً مثل ريح صغيرة جدّاً ناتجة عن حركة يدٍ أوثوبٍ أو تأوّه، وتهدّد ضوء شمعة في طريق غير مأمونة، أو ريح تخاتل مدخّناً آستعرتْ فيه شهوة التدخين، ولا يمتلك إلاّ عودَ ثقابٍ واحداً في عرض الشارع.
بالتالي هل تقيس القشّة التي قصمتْ ظهر البعير بوزنها أمْ بطولها أم بعرضها؟ أم أنّك تقيسها بترتيبها الحسابي وتوقيتها الزمني؟ الشعر الجيّد، لا ريب، ترتيب وتوقيت، سواء أقديماً كان أمْ حديثاً.
كانت الريح منذ كلكامش، قوّة غيبية تقتلع مدناً برمّتها مرّة، أو تُجير عدلاً مهضوماً. فهي بهذا المعنى قوّة واعية، أو مدفوعة بقوّة واعية. لا تهبّ إلاّ في الملمّات الكبرى، أوحين يبلغ السيل الزبى. لكنْ مع خفوت الأساطير والآستيطان في المدن، لم تَعُدْ للريح تلك السلطة الفيضانية الجائحة. بيد أنّ الآحتدامات السياسية وركود الحياة في العالم العربي في الثلث الأوّل من القرن الماضي، أعادت للرياح بعض هيبة في الشعر، وإنْ كانت هيبة رومانسية، فباتت رمزاً لقُوى غاشمة يتحدّاها الشاعر، أو هي طاقات مخزونة في الشاعر يفجّرها بوجه السدود والحيلولات التي تقف في طريق تقدّمه.
من هنا أخذت الرياح، سواء ببعدها الغيبي، أم ببعدها السياسي، ثقلاً نوعيّاً وأهميّةً متفوقة ولو على درجات. وهي بهذه المثابة لا تختلف عن أيّة مادةٍ خام، تكمن أهميّتها في آستعمالاتها المصنّعة بالدرجة الأولى. فالذهب ذهب، له قيمة مادية متعارف عليها، ولكنّ صنع قلادةٍ منه، فنّ تفوق قيمته التأريخية والجمالية آلاف المرّات قيمته الأصلية.
للأسف لم يلتفتْ بعض الشعراء إلى البعد الثاني أو الثالث للريح، فدخلت في القصائد وخرجت دون أنْ تترك أثراً، لأنها مهدورة فالتة تدور بغير هدى. أي أنّها ريح غير ممسرحة،لا تتفاعل مع بقية العناصر الدرامية في القصيدة.
غثياناً في النفس ما تخلّف، وصدعاً في الرأس ما تورث.
قلنا لا بدّ للمادة الخام من صياغة وصناعة. لا بدّ لها من تمسرح. لو أخذنا على سبيل المثال مسرحية quot;بروموثيوس طليقاًquot;، لرأينا كيف مسْرَحَ اسخيلوس بحذقٍ، الريحَ، وكيف رسم لها أبعادها الفنّية.
في هذه المسرحية يُقاد بروموثيوس quot;إلى أبعد منطقةٍ على الأرضquot; إلى quot;برّية ليس فيها أثر لِقَدَمquot; حيث يمسمر على صخورِ قمّةٍ جبليّة بسلاسل قوية.
في تلك القمّة المعزولة، لا يَسْمع بروموثيوسُ صوتاً ولا يرى شكلاً إنسانيّاً. أشعّة الشمس المحرقة تسفعه. وفي كلّ ساعة تتغيّر، تجلب معها ألماً جديداً يعصر جسده. دخول الريح في موقفٍ كهذا يكون له دورٌ آستثنائي، فهي سافعة مع الشمس، ومجمّدة صرصر في الليل. الأنكى أنّ بروموثيوس مشدود لا يقوى على أية حركة لتفادي أيٍّ منهما.
لم يجدْ أسخيلوس ضرورة إلى تكرار الشمس أو الريح، لأنّهما متواصلان على الضحيّة العاجزة عن الآنفلات. هكذا يطلع بروموثيوس في هذا الجحيم وحيداً يناشد quot;السماء والريح السريعة الأجنحة والجداول المتواثبةquot; أنْ تهبّ إلى نجدته. ربّما لأنّ الجداول والأنهار تعني منذ القدم جريان الزمان. لا يخفى أخذتْ هذه المناشدة ثلاثة أبعاد:السماء والأرض وما بينهما، للتدليل على سعة المصيبة وضخامتها.
تتجسّد هذه الأبعاد بأكثر تفصيلاً بعد ذلك مباشرة:

quot;يا أيّها الضحك الذي لا يُحصى لأمواج البحر
يا أيتها الأرضُ أمَّ الحياة
إليكِ وإلى دائرة الشمس التي لا يخفى عليها شئ أتضرّعquot;.

بلغ الخوف ببروموثيوس كلّ مبلغ حين سمع صوتاً وشمّ هواء الأرجاء. سمع الصوت يقترب منه أكثر. سمع حفيفاً هل هو حفيف طيور؟ لم يثفكّر في البشر ما داموا غير قادرين على الآرتقاء إلى تلك القمّة المنعزلة. مع ذلك يقول:quot; أيّاً كان القادم فإنّه يجلب الخوفquot; ورغم طمأنة الكورس له، فإنّه يصيح:quot;لقد أصبحتُ ألعوبة تعسة بيد كلّ ريحquot;.
في آخر المسرحية، حين تأخذ التهديدات دور الفعل والتطبيق، يصرخ بروموثيوس:

quot;الغبار يرقص في نافورة مدوّمة
هبوبات الرياح الأربع تتهاوش معاً
تنتظم في صفوف للمعركةquot;.

هكذا بدا بروموثيوس هدفاً مستهدفاً تغزوه المصائب من كلّ جانب.
المحور الثاني الذي دار عليه جلّ هذا الديوان، هو الظلام والليل.
رغم تكررّهما، بقيا في عزلة لا يتفاعلان مع عناصر الديوان الاخرى، ووجودهما أقرب إلى الإلحاح واللجاجة. وهي هنا مثل وجود أدوية كثيرة لا تدللّ على صحة جيدة، كذلك الصراف على كثرة ما تمرّ بين يديه من صكوك وتحويلات عملة ونقود لا يمكن آعتباره غنيّاً أو خبيراً بالآقتصاد.
من الصعب إحصاء الليل والنهار، وما إليهما في الشعر العربي، ولكنْ على العموم يعتبر الليل مجلبة للهمّ والأرق، وإثارة لذكريات لم تُفْطَمْ بعد. يخطر على البال في هذا الباب: الليل الذي شاع في شعر المهلهل التغلبي:

quot;وصار الليل مشتملاً علينا
كأنّ الليلَ ليس له نهارُquot;
على الرغم من تعدد صيغ الليل في شعر المهلهل في مراثيه لأخيه كليْب، فإنّه لم يتعدّدْ، ولم يتفاعل مع ملاهي الشاعر السابقة، ولا مع معتقداته أو قناعاته. إنّه أشبه بستارة أُسْدلت على ما مضى. ليل أنجبه الموتُ فآصطبغت به كلّ الأشياء التي تحيط بالشاعر. بكلمات أخرى أصبح الشاعر أكثر فقراً فأجدب، بهذا الموت ndash; الليل، خاصة وأنّه لا يصبّ إلاّ في قناة واحدة واضحة هي الثأر.
يمكن القول، إنّ الليل كمفهوم فنّي لم يتطوّر إلاّ في شعر أبي نواس، وإلياس أبي شبكة. الأوّل جعل الظلام مشعّاً، وكأنّه سرّ مكتوم يتجدد في كتمانه ويغمض ويعمق. الأشياء في نظر أبي نواس لا تُفصح عن جوهرها إلاّ إذا تعتّقتْ في ظلامها، ونورها داخلي ينبع من ذاتها، فلا عجب إنْ كان يبتعد عن الصباح والضوء الخارجي. ديك الصباح إذا بوّقَ، نهاية كلّ لذّةٍ.
إلياس ابو شبكة، كما يبدو، أوّل شاعر عربي أضفى على الليل هموماً وجودية حيّة، ودلالاتٍ روحية حتى في أكثر أشعاره حسّية وتجسيداً. تشتعل فيه الشهوات، وتتلوّى الكلمات بألم مخاض، ألوانه آزّةٌ بحمرةٍ وحمّى، وديجوره مكتظّ باللهاث والتلامسات. (لا بدّ من العودة لليل أبي نواس وإلياس أبي شبكة في مناسبة أخرى).
لكنْ يمكن آعتبار جيمس جويس أخطر مَنْ عالجوا الظلام كنهاية حتمية للموجودات. يبدو الأمر بديهياً ولكنْ.
قابل جويس في قصّته القصيرة:quot;عربيquot;، بين قوّة الظلام والقوّة الكهربائية التي ترمز إلى قدرة الإنسان. الأطفال الصغار يلعبون، وفي الظلّ يختفون عن أنظار الكبار، ولكنّ الظلام المنحدر إليهم حتى قبل العشاء في الشتاء، سيسوقهم إلى بيوتهم، ويرقد هو بكلّ جبروت وآسترخاء. أما الظلام الذي ران على الغرفة المتروكة التي مات فيها القُسّ الخيّر فهو ظلام متعفّن راكد تسري رائحته الخمجة إلى الغرف الأخرى. هذه القصة بسيطة كأيّ عمل متقن كبير. تقرأها فتندهش، لا تكاد تعثر على أيّ شئ يميّزها، ولكنّها كالجرح في الشجرة يكبر ويكبر يوماً بعد يوم.
أخطر الظلامات المتعفنة، هي التي لا يتحدّث عنها المؤلّف، ولكنّه يريك ما هو ضدّها، وعليك أنْ تقيس العطش بالطريقة التي يكرع بها العطشان الماء أي بمعادلها الموضوعي، فالسجن في أوبرا quot;فيدليوquot; لم يُصوَّرْه بيتهوفن من الداخل، ولكنّك تقيسه بالطريقة التي يخرج بها السجناء لدقائق لاستنشاق الهواء النقي في الباحة، وبأيديهم التي يضعونها على عيونهم لأنهم لا يقوون على رؤية النور. يعتبر هذا الكورس، اعظم ما كُتِبَ للكورسات في تأريخ الموسيقى.
جماعةً إثر جماعةٍ يخرج السجناء بخطوات متصدّئة من كثرة الخمول. الفئة الأولى تنشد، ثمّ يتراكم فوقها إنشاد الفئة الثانية، ثمّ يعلو فوقهما إنشاد الفئة الثالثة، وهكذا يولد امام عينيك تلاطم بحر. بحر من الأصوات والأوتار الموسيقية، ممتلئة بالأفراح التي أنهكتها الأحزان السابقة وتعتعها الآنتظار والآنكسار.
تسمع هذا الكورس، وكأنّ الحياة وُلِدَتْ من جديد.