صعد الى المترو، يتقدمه زميلان له، كانا لا يزالان يحتفظان بأذيال صحوهما، وتوازنهما، أمّا هو فقد جرع عدة قنانٍ من الجعة العالية الكحول والاّ لما ارتجفت قدماه، ولما إزدحمت حنجرته بالكلام، أيّ كلام، ولا بدّ أن يتكلم، يقول شيئاً: هذراً صاخباً غير منسق. رمى كيسه البلاستك الى جواره بعد أن تهالك على مفعد قريب من الباب، تحرّك القطارُ، وتفاقمت عليه عشرات العيون ترنو إليه، وحدَه كان يتكلم بصوتٍ عالٍ، فيما لاذ صديقاه بالصمت وما زالا يحتفظان بتوازنهما، ربّما لم يشربا سوى علبةٍ واحدة من الجعة. رنا الى يمينه ورأى السماء والشجر والعمائروالأفضية متحركة تأتي وتغدومسرعة عصيّة على التركيز، تأتي صورٌ وتغادر، صورةٌ إثر صورة. النهارُ صحوٌ يعروه دفْ وجفاف، بينما لا تزال حنجرته ترمي كلاماً، مرةً يحدّث نفسه، وتارةً يوجّه كلامه الى صديقيه اللذين جلسا بعيدين عنه. أحسّ الجالسون على مقربة منه برائحة الكحول الحادة، كانت أنفاسه المخمورة ترتطم بوجوههم، إضطرت عجوز تجلس قبالته الى أن تضع صحيفة المتروعلى أنفها وتقطع قراءتها، فيما نهضت فتاةٌ شابة كانت تجلس الى جانبه من مكانها لتجلس على مقعد آخر بعيداً عنه. دفعت ساقيه بإحتدام صامت، العربة غشيها هدوءٌ وقور قبل أن يصعد اليها هذا المخمور وصديقاه، بعضهم كانوا يقرؤون صحفاً أو كتباً حملوها معهم، وآخرون يرنون الى فضاء العربة أو يتطلّعون الى الخارج عبر النوافذ. كان لايزال يهذي ويثرثريخاطب زميليه البعيدين عن مقعده، كنتُ إبانئذٍ أجلس على مقعد أُقابله وبيننا ممرّ السابلة، عدّل من جلسته حيثُ صار ظهره تجاه النافذة ووجهه تجاهنا، وكان يجلس قبالتنا، أنا وزوجتي، رجلٌ في الثلاثينيات يحتضن طفلة في الثالثة، الطفلةُ صامتة تتطلّع ببراءة الينا والى وجوه الركاب، وأبوها يحدّثها بين الفينة والفينة بصوت هامس، وهي تكركر بهدود. أحسستُ أن الأبَ ضجرٌ مستاء من تصرف الرجل المخمور، ومن رائحة الكحول التي يرميها في وجوهنا. قرّب السكير رأسه من الطفلة وهمّ بالحديث معها، نطق ببضع كلمات من أجل مداعبتها، لكنها لم تُعره أيّ إهتمام،بل إلتصقت بصدر أبيها، فيما إستمر الرجلُ يطرحُ عليها أسئلةً من دون أن يتلقى جواباً، ما اسمكِ ايتها الحلوةُ، الى أين تذهبين، أنه يومٌ رائق، اُنظري اليّ ألا أشبه جدكِ؟؟.الطفلةُ غير آبهةٍ به، والأبُ كظم غيظه، فرائحة فمه لا تُطاق. وعندما مدّ الرجلُ يده يُريد مداعبتها أبعدها الأبُ بحركةٍ غاضبة، شعر المخمور بشيءٍ من الخجل أمام أنظار الركاب، غيّر الأبُ مكان الطفلة، حملها من فوق فخذه اليمنى الى الفخذ اليسرى. كانت العيون ترصد بحذر هذا المشهد، الا أن الرجل الفاقد توازنه أحسّ بالحرج، لكنه ظلّ يُخاطب الطفلة التي أعطته ظهرها وظلّت تنظر الى النافذة على يميننا. لم تكن تُطيق النظر الى أيّ أحد، لعلّها كانت تُصيخُ السمع الى ضجيج عجلات القاطرة وهي تدور بسرعة هائلة فوق القضبان الفولاذية. في المحطة الثالثة توقف القطار، نزل الرجل المخمورحاملاً كيسه البلاستك، تبعه زميلاه، وعلى الرصيف جلس ثلاثتهم فوق إحدى المصاطب، قبالة باب عربة القطار المفتوح، كانت رائحة الكحول لا تزال تملأ العربة، ومن خلال النافذة رنوتُ اليه، كان يناهز الخامسة والخمسين من عمره، انحنى على الكيس،أخرج علبة جعة زرقاء، فتح حلقها، كرع جرعات منها، وأتى على نصفها، ثمّ أشعل لفافة تبغ، كان يتحدّث وتتخبط يده اليمنى يمنةً ويسرة، تحرّك القظارواختفى المشهدُ برمته. إختفى مرأى السكارى الثلاثة، ساعتي تشير الى الواحدة ظهراً، كنتُ أشعر بالجوع، أثناء ذلك إنحنى أبو البنت الصغيرة على حقيبة سوداء الى جواره، فأخرج كتاباً من كتب الأطفال، وبسرعة إختطفته أصابع الطفلة من يده، وخاطبت أباها هامسة: إقرأ لي هذه القصة، هزّ الأبُ رأسه وبدأ يقرأ لها والكتاب في حضنها، وكانت مصغية اليه بكلّ جوارحها. بين لحظة وأُخرى تطرحُ سؤالاً، أو تستغرق في كركرة خفيفة، كنتً أُصغي إليهما، وأُجيل بصري داخل فضاء العربة، في الزاوية البعيدة كانت فتاةٌ شابة تضعُ رأسها على كتف صديقها الشاب مستغرقةً في سنة من النوم. كان رفيقها هادئاً صامتاً يحاولُ هو أيضاً أن يغفو، الا أنه كان بين الفينة والأُخرى يفتحُ عينيه ويرمي نظرات علينا، زوجتي تصغي بكلّ شوق الى الأب وهو لا يزال يقرأ فقرات من الكتاب والبنية تسمعُ اليه. لم يبقَ سوى محطة واحدة لنصل الى جبل يعقوب،حيث ننزل، ان مركز هذه المدينة الصغيرة يضجّ الآن بالناس وبالدفْ وضوء الشمس، كانت الساحة لمّا تزل تزدحم بأناسها جالسين على المصاطب أو مشاة، يتسوّقون أو يتناولون الطعام في المطاعم، عددٌ من الأطفال يلتمون حول الحوض المائي ويتراشقون بالماء. وكنتُ أفكّر بركاب عربة القطار: المرأة العجوز ما زالت تقرأ في الصحيفة، والأب ما فتيْ يتلو على ا لصغيرة بقية القصة، بينما ظلّتِ الفتاة الشابة حالمة، هائمة في سديم أحلامها الزنبقية تحظى من لدن صديقها بالدفء والأمان. يبدو أنهما متعبان، فقد أمضيا ليلة أمسهما في سهرة ماتعة. في الساحة المكتظة بالخلائق رجتني زوجتي أن نرتاح هنيهة فقد عراها التعب ونحن نقطع ممرّ النفق الطويل ونصعد الدرجات، كان السلم الكهربائي عاطلاً فقد أصابه العطبُ بسسب عبث المراهقين أثناء الليل. لا ادري لمَ أشعر بالسعد والفرح عندما أرمي بقامتي الى هنا بعد خروجي من النفق، ويترامى الى عيبيّ أحواض الورد ومرأى الأطفال وكشك الخضار وأكشاك الملابس الجاهزة، والمصاطب التي تُضيّف المتعبين من أمثالنا.كان بودّي لو أنغمس في هذا المهرجان، الا أننا، أنا وزوجتي، كنا متعبين وجائعين علينا أن نلحق بالباص في الواحدة والثلث، وخلال مرورنا بإتجاه بغيتنا كان عددٌ من المخمو رين يتكدّسون فوق مصطبة وحواليها، يحتسون الشراب ويدخنون ويثرثرون في زاوية حديقة صغيرة يقطعها طريقٌ نحيل نحو محطة الباص، أعرف أثنين منهم، ولطالما يجمعنا باص العجائز، فهما مسالمان لايرفعان صوتيهما داخل الباص ولا في السوق، الا أنهما ينضمّان الى ثلتهما هنا في هذه العزلة،يُفرغون جميعاً ما تكدّس فيهم من مشاعرمختمرة عبر هذه الثرثرات البريئة، انهم يعيشون وحدَهم في شقق يسودها هدوء قاتم ليلاً ونهاراً، وتمتليء صدورهم بكلّ ما تسبّبه لهم العزلة والوحدة طيلة ساعات النهار والليل، وما أنْ يصلوا الى السوق ويشتروا قناني الشراب حتى يخفوا الى هذا المكان، حيث لا تزعج تصرفاتهم أحداً، ضحكٌ هستيري، وحوار صارخ ساخن، وشتائم، وحين العودة الى بيوتهم تغشاهم سكينة غريبة، ربما من التعب، أو من السكر، ولا يراهم احد الا في اليوم التالي، حين مررنا الى جوارهم رفعتُ يدي أحيي صاحبيّ، الا أن الأيادي إرتفعت جميعاً تردُ على تحيتي. عندما تحرّك الباص تحرّكت معالم المنطقة بإتجاه معاكس، أخذت مكاني على مفعد لصق الباب يمينَ السائق حيث في مستطاعي رؤية معالم الطريق حتى نهايته، بينما جلست زوجتي خلفي قرب عجوز منغمسة في قراءة كتاب.وظلّ رأسي مسكوناً بالصور: قصر الثقافة، وقاعاته المكتظة بالأطفال وروّاد المسرح والمكتبة، والمطاعم الممتلئة بالناس، والساحة الواقعة امامنا ونحن نجلس في المكتبة على مقاعدنا المطلّة على فضاء ٍمكتظ بالخلائق، وأمامنا نافورة الماء العالية، وبشرٌ كثيرون يفترشرن الدرجات النازلة الى الساحة، والشوارع ُالمحيطة بها تزدحم واجهات ُمحالها بالبضاعة التي تغري وتفرّغ ما في الجيوب، لكن مرأى المخمورين الثلاثة والطفلة التي لا تزال تٌصغي لأبيها، والفتاة النائمة لصق صديقها ظلّ راسخاً في واعيتي، فالقطار الذي أعادنا الى جبل يعقوب هو نفسه أقلنا الىquot; تي سنترالينquot; وهو الذي سيكتب، جيئة وذهاباً، قصصَ ركابه، وتظل أقاصيصه محبوسة في خلده مقموعة فيه، الا إذا التقطها كاتب ورماها فوق السطور ليقرأها جيلٌ بعد جيل. <

السويد