قرأت وأنا وتلميذ في مرحلة الدراسة المتوسطة كتابا للأديب اللبناني الراحل فؤاد سليمان عنوانه (درب القمر) كتب مقدمته الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة وكانت عن عجيبة الحرف كيف أن الحروف تترابط مع بعضها وتشكل الكلمة وكيف أن الكلمات تتآلف فيما بينها فتشكل الجملة وكيف تقوم الجمل بنقل الصور المادية والحسية الى القارئ وما تخلفه في نفسيته من اثر، وقد قادتني المقدمة والكتاب إلى الشاعر نزار قباني وديوانه (الرسم بالكلمات) وقادني ديوانه الرسم بالكلمات الى رواية (موسم الهجرة الى الشمال) والى اللغة التي كتب بها الطيب صالح روايته ورسم فيها البيئة والشخصيات بدقة مبدعة ونفذ بها الى الدواخل والحالات النفسية لتلك الشخصيات ببراعة فائقة فكأني به يمتطي فرسا عربية أصيلة يمسك زمامها بيده يسيرها حيث يشاء ويوقفها أين أراد كأنه أبو الطيب المتنبي راكبا حصانه في شعب بوان أو في صحراء الأرزن مع عضد الدولة واصفا الصيد ومنشدا أرجوزته اللامية المشهورة التي مطلعها:
ما أجدر الأيام والليالي بان تقول ما له وما لي
تذكرت ذلك واسترجعته حين انتهيت من قراءة ما كتبه الاستاذ صلاح نيازي عن رواية (موسم الهجرة الى الشمال) على صفحات ثقافات إيلاف وعلى صفحات ينابيع العراق الثقافية بعد أكثر من أربعين عاما على نشرها أول مرة والذي ضمن ما كتبه حسب اعتقاده حقيقتان وملاحظات قاربت السبع صفحات من القطع الكبير.
إن معلوماتي عن الطيب صالح انه درس العلوم في بلده السودان ومارس التدريس فيه بعد تخرجه قبل أن ينتقل إلى بريطانيا ويدرس في إحدى جامعاتها ويحصل على درجة علمية أخرى اعتقد أنها كانت في فن القيادة أو الإدارة أو التنظيم ويعمل في الإذاعة البريطانية، كما أني أرى أن الرواية لم تتخذ الأجواء السودانية المحلية ذريعة لان أحداثا هامة منها قد جرت في تلك البيئة، وأصحح أن من كان يلقب مصطفى سعيد (الانجليزي الأسود) زملاءه في الفصل الدراسي إعجابا به وحقدا عليه وليس أهل القرية. اما ان الرواية مشحونة بالثقافة الاوروبية ولا سيما المسرحيات الشكسبيرية فاريد ان اوضح شيئا واقول :ان التوربينات المولدة للطاقة الكهربائية تدار بقوة الشلالات أو بقوة مياه السدود المبنية على الأنهار، وهى امتداد متطور لدواليب الماء والطواحين المائية التي كانت تدار بقوة المياه في الزمن القديم، وان العجلة الموجودة الآن في السيارات والقطارات والطائرات هي امتداد متطور أيضا للعجلة الآشورية، وأن في الحياة بديهية معروفة مفادها (ليس هنالك شيئا وجد من العدم)، وان هذه البديهية تنطبق على العلوم مثلما تنطبق على الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الانسانية الاخرى، وقد سمعت معنى هذا وان غلام صغير يردده احد المذيعين حين كان يقدم برنامجا ثقافيا من احدى الاذاعات مرافقا للّحن المميز للبرنامج بكلام موزون ومقفى قائلا :
يا صاحبي تعجبا لملابس قد حاكها من لم يمد لها يدا
كل الثياب يحول لون صباغها وصباغ هذا حين طال تجددا
اما ان الملاحظات ليست دراسة للرواية بقدر ما هي تتبع لابطال بعض الروايات الاغترابية وكيف تكيفواللعيش باوربا وكيف تفاعلوا مع بيئاتهم الاصلية، فاقول: ان قراءتي للملاحظات قد بينت انها لم تتمكن من تتبع ذلك، ولم تستطع الافصاح عنه وايضاحه، لان الاغتراب موقف من الحياة، وهو لا يعني التغرب، وقد يؤدي التغرب إلى الاغتراب في حياة بعض الناس، وقد لايؤدي التغرب الى الاغتراب في حياة البعض الآخر، وقد تكون حياة بعض الناس اغترابا وهم يعيشون في اوطانهم بين اهلهم وذويهم واصدقائهم، ومن أراد تتبع الشخصيات الاغترابية قام بدراسة منهجية نفسية لابطال تلك الروايات وحلل شخصياتها من الناحية النفسية وبين ما كانت تعانيه من امراض نفسية، أو ما كانت تشعر به من مركب نقص، كما فعل الراحل الدكتور علي كمال الاخصائي في الطب النفسي في دراسته القيمة (المتنبي والنفس) المنشورة في العدد الرابع من مجلة افاق عربية في كانون الثاني 1977، على الرغم مما بذله الدكتور كمال من جهود مضنية لاعداد الدراسة واكمالها، لانه قام بتحليل شخصية المتنبي من خلال قراءة ودراسة شعره، لعدم وجود سيرة ذاتية مكتوبة عن حياة المتنبي وللغموض الذي يحيط بحياته الخاصة، ولبعد الفترة الزمنية التي عاش فيها عن زمن اعداد الدراسة بما يزيد على الاف عام، بينما تفصح الرواية بشكل تام عن شخصياتها وتصف احوالهم النفسية بدقة وتوضح البيئةالسودانية المحلية والبيئة الانكليزية التي جرت احداث الرواية فيها، وان الرواية كتبت في فترة زمنية قريبة يمكن للدارس او المتخصص معرفتها والاحاطة بها جيدا والكتابة عنها، واني ادعو المتخصصين في الاداب وفي علم النفس وفي الطب النفسي لدراسة (التقابل والتعارض) في شخصيات رواية موسم الهجرة الى الشمال (مصطفى سعيد ndash;الراوية)، (جين مورس- حسنة بنت محمود)، (ام مصطفى سعيد--مسزز روبنسن)، (الشيخ احمد ndash;ود الريس) وغيرها من الشخصيات المتقابلة المتعارضة، كما ادعو لدراسة اجتماعية تتناول البيئة السودانية المحلية والبيئة الانكليزية، او بشكل اوضح دراسة العائلة السودانية والعائلة الانكليزية، وبكلمة ادق دراسة التماسك العائلي في المجتمع الزراعي السوداني ودراسة التفكك العائلي في المجتمع الصناعي الانكليزي، والقيم والعادات السائدة اجتماعيا في كلتا البيئتين وّّاّثارها على شخصيات الرواية، أي دراسة التقابل والتعارض في البيئتين، وساقدم هنا دراسة موجزة لشخصية مصطفى سعيد وشخصية الراوية، متخذا الخطوات التي اتبعها الدكتور علي كمال في دراسته لشخصية المتنبي منهجا اتبعه(على الرغم من اني لست اخصائيا نفسيا)، واقيس شخصية كلا منهما بمقياس ايزانك لقياس الشخصية، وابين الخصائص النفسية البارزة لكل من الشخصيتين مركزا على شخصية مصطفى سعيد وما كان يعاني من الناحية النفسية وموضحا اثر العوامل التي ادت الى تكوين شخصيته ومحللا ما كان يشعر به من مركب نقص وما عاناه في حياته من ازمات نفسية كان لها الاثر في تكوين شخصيته وسلوكه في حياته اللاحقة.
في الشكل دائرتان صغيرة وكبيرة يقطع كل منهما في الوسط قطران متعامدان، ويقسم كل منهما الى اربعة اقسام، يضم كل قسم من الاقسام الاربعة في الدائرة الصغيرة مزاج من الامزجة الاربعة التي قال (جالينوس) انها تمثل امزجة الانسان، اما الدائرة الكبيرة فان كل قسم من اقسامها الاربعة يحتوي قسما من اقسام الدائرةالصغيرة اضافة الى خصائص ثمانية تتوافق مع طبيعة المزاج في الدائرة الصغيرة، ويقسم القطر الافقي الدائرة الكبيرة الى قسمين اعلى واسفل، يحتوي القسم الاعلى على خصائص الشخصية غير المتزنة كما يشير القطب الاعلى، ويضم القسم الاسفل إلى خصائص الشخصية المتزنة كما يشير القطب الاسفل، كذلك يقسم القطر العمودي الدائرة الكبيرة الى قسمين ايمن وايسر، يضم القسم الايمن خصائص الشخصية الانبساطية كما يشير القطر الافقي في نهايته اليمنى، ويضم القسم الايسرمن الدائرة الكبيرةخصائص الشخصية الانطوائية كما يشير القطر الافقي في نهايتها اليسرى، وعند القيام بقياس الشخصية تكون الخصائص الغالبة او الاكثر عددا هي التي تحدد شخصية الانسان وعند تطبيق ما في الرسم على شخصية مصطفى سعيد نجد ان 12 خصيصة اوسمة من مجموع 16 تميل الى عدم الاتزان (نشيط، اندفاعي، متقلب المزاج، عنيف، غير مستقر، هادئ، غير اجتماعي، كتوم، متشام، متصلب،، قلق، مزاجي)، في حين ان 7خصاص من مجموع 16 تميل الى الاتزان في النصف الاسفل من الدائرة (طموح،، متحدث، ذوحيوية، القابلية القيادية، سلبي، حذر، موثوق به) اما الصفات والخصائص التي ترجح انه ذو شخصية انطوائية فهي 1. خصائص من مجموع 16(مزاجي، قلق، متصلب، متشائم، كتوم، غير اجتماعي، سلبي، حذر، موثوق به، هادئ)، اما خصائص شخصيته الانبساطية فهي 9 خصائص من مجموع 16 (غير مستقر، عنيف، متقلب المزاج، اندفاعي، نشيط، طموح، متحدث، ذوحيوية، القابلية القيادية) وهي خصائص نجد انها لا تنقص الا خصيصة واحدة عن خصائص شخصيته الانطوائية. ومن ذلك يتبين ان مصطفى سعيد يجمع في شخصيته خصائص متعددة من الامزجة الاربعة وكلها ذات تاثير في نفسيته، الا ان الغلبة تكون للخصائص الاكثر عددا عند القياس، فهو يمتاز بشخصية غير متزنة انطوائية لكنه يجمع في شخصيته خصائص مهمة كثيرة من خصائص الشخصية الانبساطية وخصائص لا باس بها من خصائص الشخصية المتزنة، وعند تجميع وقائع من احداث الرواية تخص حياته للقيام يتحليل نفسي لشخصيته فاني اجد انه مقطوع من شجرة، عاش طفولة شقية خالية من العطف والحنان، مات ابوه قبل ان يولد، لم يكن له اخوة او اخوات، لم تكن علاقته بامه علاقة طبيعية كما وصفها هو شخصان التقيا صدفة وسار كل منهما في طريق، اختلافه عن اقرانه كما قال ايضا لا يتاثر بالعواطف مثل كرة المطاط، شعوره بالحرية وهو صغير وفرحه بها لعدم وجود رقيب يحاسبه، انعزاله عن زملائه في المدرسة وتعاليه عليهم رغم تقربهم منه لتفوقه ونبوغه في دروسه، ما قالته امه حين اخبرها بسفره الى القاهرة، هذه حياتك وانت حر بها ان شئت بقيت وان شئت سافرت، وداع امه له بلا عواطف، لا احضان، لا قبل لا دموع، استقبال مسزز روبنسن له في القاهرة، تقبيلها له، شم رائحتها، اشتهائه لهاجنسيا وهو ابن الثانية عشرة من العمر، كبت ذلك في نفسه، وصف مسزز روبنسن له انه خالي من المرح، ما قالته زميلة له اثناء دراسته في القاهرة كانت قد احبته، انك لم تعرف الحب في حياتك، انك الة صماء تالفه مع البحر اثناء سفره الى بريطانيا، شعوره بانه بالامكان وان البحر في تقلبه يشبه القناع الذي كان يغطي وجه امه في حديثها معه، شعوره بالفرق في حياته في بريطانيا بين المثل والمبادئ التي كانت تنادي بها وبين واقع استعمارها للشعوب ونهب خيراتها، أصابه بشرخ نفسي أي انه اصيب بانفصام فكري سببه ما درسه او تعلمه في الكتب والجامعة وبينما كان يجري في الواقع المعاش، فالف كتبا مناهضة لافكار الانكليز، اقتصاد الاستعمار، الاستعمار والاحتكار، الصليب والبارود، اغتصاب افريقيا، فهو لم يحب الانكليز كذلك الانكليز لم يحبوه، حديث ريتشارد عنه في الخرطوم انه شخصية غير موثوق بها علميا، التعويض بالجنس عما كان يشعر به نفسيا وما عاناه من كبت جنسي، رائحة ايزابلا سيمور تشبه رائحة مسزز روبنسن، عدم تالمه او شعوره بالحزن حين سمع بموت امه وهو يمارس الجنس مع امرأة، جين مورس، احتقارها له، اهناتها المتكررة له، مطاردته لها ثلاث سنوات، زواجه بها، عدم إعطاء نفسها له، تعذيبها له اهنتها له في رجولته، كما قال كنت صيادا فاصبحت فريسة، خيانتها له اقرارها بالخيانة الجنسية وتحديها له قائلة ما انت فاعل، قاضاها الثمن، قتله لها، الحكم عليه بالسجن ثمان سنوات، رجوعه الى السودان بعد انقضاء مدة الحكم، العيش في قرية والعمل في الزراعة، زواجه، انجابه استمرار شعوره بالاغتراب، انه ليس من اهل القرية، لا اقارب له فيها رغم زواجه، شعور اهل القرية انه غريب عنهم رغم مشاركته لهم في عاداتهم وتقاليدهم وعدم تخلفه عنهم، حديث الشيخ احمد عنه لحفيده (الراوية) حين ساله عنه، كره التجار له لتنظيمه المشروع وتوفير البضائع وخفض الاسعار وزيادة راس مال المشروع، حنينه الى الماضي، احساسه بالفرق بين المجتمع المنظم في بريطانيا و بين مجتمع القرية الخالي من النظام، شعوره بانه الاحسن والأجدر، كان يجمع في حديثه مع الراوية بين الضعف والقوة وظهور الطيف الساخر عند الكلام على درجة الدكتوراه التي حصل عليها الراوية، اختفاؤه متعمدا حين وجد من يعتمد عليه ةيقوم برعاية اسرته، وصيته وما جاء فيها عن ولديه مكررا، جنبهما السفر ما استطعت، من هذه الوقائع والاحداث نجد ان مصطفى سعيد كان يشعر بمركب نقص لكونه مقطوع من شجرة وانه لم ينل ما ناله غيره في صغره من الاطفال من حب وحنان في ظل اسرة كما لازمه منذ الصغر شعور بتضخم الانا لتفوقه ونبوغه دراسيا وعانى كبتا جنسيا في حياته واصيب بانفصام في بريطانيا، فاتخذ الجنس تعويضا لما يعاني منه نفسيا، وهذ ما يذكر بالدكتور هايكل وجيك الشخصية المزدوجة المعرفة بالسينما والذي كان يمارس المهنة الإنسانية الطب ويقوم بقتل النساء تعويضا عما عاناه من حرمان الحب والحنان في فترة من حياته، والحقيقة ان ما ذكرته جعل مصطفى سعيد شخصية لا تتمتع بالاستقرار لا في حياته في بريطانيا فحسب بل في السودان بعد رجوعه وتكوين اسرة مما جعله يتخذ قراره بالاختفاء.
اما شخصية الراوية، فعند قياسها بمقياس ايزانك نجد ان 1. خصائص من مجموع 16 تدل انه شخصية متزنة، و9خصائص من مجموع 16 توضح انه شخصية انبساطية، ولا اريد ان اتوسع بتحليل شخصيته كما فعلت مع مصطفى سعيد واترك ذلك لدارس غيري بتحليل شخصيته، لكني اكتفي بالقول انه عاش تغربا اثناء دراسته في بريطانيا، وكان يحن الى أهله وأصدقائه في بلاد تموت من البرد حيتانها، عاد اليهم بعد انهاء دراسته وحصوله على اعلى درجة علمية، مارس عمله بعد تعينه بصورة اعتيادية، ذو شخصية مستقرة، متوافق مع بيئته ومحيطه، لكن لا يمكن ان يكون خالي الهموم وانه خالي من الأمراض النفسية بشكل تام مثله مثل اي انسان موجود في الحياة.