حسن ناصر: يشير الشاعر والكاتب الأرجنتيني بورخيس (1899-1986) في مقطع من قصيدته (شطرنج) الى علاقة شعرية بين لوني مربعات الشطرنج ونهاراتنا وليالينا على هذه الأرض ساندا هذه الصورة الى رباعيات الشاعر النيسابوري عمر الخيام (ت 1132). حقيقة الأمر على أية حال هي أن هذه الصورة أو هذه العلاقة الرمزية المعقودة بين آلات الشطرنج (البشر) والرقعة (ليل- نهار) من بنات ترجمة الشاعر الأنجليزي أدوارد فيتزجرالد التي يبدو أن بورخيس أعتمدها، إذ تخلو الرباعيات الفارسية من هذه الأشارة صراحة. لتوضيح الأمر لابد من ألقاء نظرة على الرباعيات الفارسية. يقول الخيام:
ما لعبتكانيم وفلك لعبة بازأز روي حقيقت نه أز روي مجاز
بازيجة همي كنيم بر نطع وجود رفتيم بصندوق عدم يك يك باز
وترجمتها الأقرب الى الأصل كما يمكن أن نقترحها هنا:
نحن ألعاب والقدر هو اللاعب هذه حقيقة وليست من قبيل المجاز
كلنا نلعب على نطع الوجود وعدنا الى صندوق العدم واحدا واحدا.
ويترجمها الشاعر الصافي النجفي كالتالي:
عدونا لذي الأفلاك ألعاب لاعب أقول مقالا لست فيه بكاذب
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا وعدنا لصندوق الفنا بالتعاقب
أما سكوت فيتزجيرالد فيقول في ترجمته الأنكليزية
lsquo;Tis all a Chequer-board of Nights and Days
Where Destiny with Men for Pieces plays
Hither and thither moves and mates, and slays,
And one by one back in the Closet lays.
إن هي الا رقعة لعب من الليالي والنهارات
حيث يلعب القدر بالبشر كما لو أنهم آلات
هنا وهناك ينقّلهم ويباري بهم ويطيحهم
ثم يودعهم في الصندوق واحدا واحدا
من الواضح أن فيتزجرالد أراد أن يظل وفيا بطريقة ما الى الرسالة أو الحكمة التي تحملها الرباعية على الرغم من تحويره الواضح حين نقارن بين الأصل والترجمة. ولكن الشاعر المترجم يضطر في الوقت نفسه، لفروقات لغوية وثقافية لا تخفى،الى الأنزياح عن الأصل. فالعلاقة اللفظية والصرفية، على سبيل المثال، بين أدوات اللعبة (لعبة-كان) ولاعب اللعبة (لعبة-باز) هي من صميم النسيج الشعري في الأصل الفارسي حيث تشكل اللعبة محورا لفظيا نكون نحن (ما) والقدر(فلك) طرفيها. اجترح فيتزجرالد في ترجمته تناظرا بين رقعة اللعبة(المنسوجة من سواد الليالي وبياض النهارات) ونحن (البشر) والقدر (Destiny) ليعوض، على الأرجح، الضياع المحتوم لتلك العلاقة اللفظية ndash; الصورية واستحالة نقلها كما هي في الأصل الفارسي الى الترجمة الأنجليزية.
من الواضح أيضا أن فيتزجرالد نجح في معالجته البارعة وصورته الخيامية بحيث تمكن من ايهام شاعر وكاتب ومترجم كبير مثل بورخيس بأن تلك هي كلمات الخيام حقا. تشير هذه المفارقة الى حقل واسع من التباسات مشابهة سببها الأول ادغام الترجمة بالأصل أو بمعنى أدق حذف المترجم باعتباره ليس بأكثر من ناسخ. حاشا أن أريد الإدعاء هنا بأن بورخيس المترجم - الذي نقل وقدّم الى الاسبانية أعمالا ساهمت في تغيير آدابها كان ممن يرون أن الترجمة نسخا، ولكن التقاليد الأدبية والثقافية- حتى النصف الأخير من القرن الماضي، على الأقل، كانت تميل عموما وفي أغلب الثقافات الى النظر الى المترجم كوسيط يتولى مهمة ادنى من انتاج نص (أصلي) و لاغرابة في أن يكون ذلك التجاهل التقليدي للمترجم قد طال المترجمين أنفسهم ودفعهم الى تجاهل بعضهم البعض كما في رقعة فيتزجرالد المشار اليها.
يرى والتر بنجامين في مقاله المهم (مهمة المترجم) أن الترجمة (الأدبية تحديدا) هي اطلاق حياة جديدة للنص وقد تجاوز هذا القول حدود الرؤية النقدية السائدة في بداية القرن الماضي لعمل المترجم وتمحورها حينذاك حول الثنائية المظللة (الترجمة الحرفية مقابل الترجمة بتصرّف). أقول مظللة لأنها أختزلت اشكاليات الترجمة الى أضيق الحدود وظلت تتقصّى ستراتيجية شكلية في النقل بين لغتين. لكن شعرية قول بنجامين لم توفرمن الجهة الأخرى رؤية منهجية لعمل المترجم وأن كانت تستشرف أهميته وحيويته وتنطلق من أسئلة جوهرية فيما يخص العمل الأدبي بشكل عام. كان النقاش حول الثنائية المذكورة سيصل مداه على يد يوجين نايدا الذي استثمر طروحات مجايله تشومسكي في اللغة والنحو و تقحّم بها دراسات الترجمة في النصف الثاني من القرن الماضي مميزا بين المقابل الساكن والمقابل الديناميكي. غير أن هذا النقاش ظل في حدود المفردة والجملة ولم يتوسع الى الملامح النصية والاختلاف الثقافي. إن الترجمة أولا واخيرا عمل بين ثقافتين (البيئة الثقافية للأصل والبيئة الثقافية للنص المترجم) فالمعالجة اللغوية لنص تنطوي بالضرورة على معالجات ثقافية ضمنية متواصلة لكل مكونات النص وبهذا يكون عمل المترجم شاملا ولا يمكن أن يوصف بأقل من إعادة خلق النص الأصل و أبتكار المعادلات التي تتبني نقل (رسالة) مكتوبة بلغة وثقافة معينة الى لغة وثقافة أخرى. يذهب الأكاديمي البارز في دراسات الترجمة لورنس فينوتي الى مناقشة أصالة التأليف (Authorship) في دحضه لدونية الترجمة التي تفترضها الرؤية التقليدية لعمل المترجم والقائمة أصلا على اعتبار الترجمة مجرد ظل لنص اصيل. ينطلق فينوتي من السؤال الحري عن مدى استقلال نص ما عما سبقه من النصوص. إذا تواضعنا على أن النص هو عملية تناص مفتوحة مع عدد لايحصى من النصوص فلماذا هذا الحرون عند العلاقة الملتبسة بين الأصل والترجمة خاصة حين يتوافر النص المترجم على وحدته وديناميكيته كنص أدبي في اللغة المترجم اليها؟
يدعونا هذا الى النظر في الاجحاف الذي لحق بالمترجمين العرب الذين اغفلهم النقد الأدبي كليا على الرغم من التأثير الهائل الذي أحدثته ترجماتهم في الأدب العربي. وكأن مترجمينا لم يكونوا سوى بغال حملت الى عكاظنا البضائع. كأنها لم تكن كلماتهم وكأن قريحاتهم لم تكن هي التي حبلت بالأصل وأعادت انجابه.
كان بورخيس المترجم سيتلافى كبوته في قصيدته المذكورة بعد سنوات حين يكتب عن أحجية إدوارد فيتزجيرالد والخيام. يقول:
quot; استعار فيتزجيرالد رباعيات الخيام حوالى1854..... ترجم بعضها الى اللاتينية ولاحت له امكانية ضمها في كتاب موحد ومتناسق يبدأ بصور الصباح: الوردة والعندليب، ثم ينتهي بصورة ليل وقبر. كرّس فيتز جيرالد من أجل هذه المهمة الصعبة بل المستحيلة حياته (كذا). نشر في عام 1859 النسخة الأولى من الرباعيات تلتها نسخ أخرى غنية بالتنوع والتشذيب. هنا تحدث المعجزة فمن اللقاء المبارك الذي جمع بين فلكي فارسي يتنازل ليكتب الشعر وانكليزي غريب الأطوار يطارد الكتب الشرقية والاسبانية، دون أن يفهمها تماما على الأرجح، يبزغ شاعر مذهل لايشبه أيا منهما. يكتب سوينبورن أن فيتزجيرالد quot; اعطى عمر الخيّام مكانا خالدا بين شعراء الإنكليزية الكبار quot; ويلاحظ تشسترتون المأخوذ برومانسية وكلاسيّة مواد هذا الكتاب المدهش أنه يجمع quot; الموسيقى الخلابة والحكمة الباقية quot;. ويعتقد بعض النقاد بأن خيّام فيتزجيرالد هو في حقيقة الأمر قصيدة انكليزية بخيال فارسي (كذا). كل الشراكات غامضة ولعل تلك التي جمعت الأنكليزي بالفارسي أكثرها غموضا، ذلك لأنهما مختلفان الى حد بعيد ولعلهما لم يكونا ليصبحا صديقين في الحياة، لكن الموت والتحولات والزمن قاد أحدهم الى معرفة الآخر ليجمعهما في شاعر واحد quot;
اذا استعرنا هذه الرؤية فسنرى شعراء وكتابا عربا عميقي التأثير طمرهم التجاهل والنسيان. سنرى على سبيل المثال لا الحصر شكسبير أو فوكنر جبرا وديستويفسكي الدروبي ويسنين حسب الشيخ جعفر.