ترجمة: صالح كاظم


1
في زمان بعيد جدا بعد أن شاخت الأرض وأصبحت مزدحمة بالبشر ظهرت فجأة إمراة لا أحد يعرف من أين أتت. كان البشر قد أصبحوا أغنياء ومتخمين. يجلس أحدهم قرب الآخر على ما يمتلكه، لكل منهم أربعة أمتار مربعة من الأرض. وكانت كل البحار قد جفت ولم تعد فيها قطرة من الماء، أما الجبال فقد تآكلت وسقطت في البحار. إلا أنها لم تتمكن من تغطية كل البحار، مما جعل ألارض اكثر إنخفاضا مما كان يسمى سابقا سطح البحر. وساهمت في هذا العمل التسطيحي الذي يفتخر به البشر الذين أصابتهم السمنة مئات القرون التي مضت. كانوا يعيشون في ضيق مذهل وقد أصبحت بشرتهم مسطحة مثل الأرض. مع إحتلال البحار تنامى عدد البشر، فأصبحوا يتحركون بصعوبة كبيرة، وأزداد عددهم حتى لم يعد بالإمكان تعداد نفوسهم كالرمل الذي زال عن سطح الأرض. ولم تعد هناك ريح يمكن أن تحركهم من مواقعهم كما أنقطعت العواصف القادمة من جهة البحار القديمة وأصبح من العبث البحث عن التلال.
في هذا الزمن السجين العاجز عن الحركة والتغيير أصبحت حركة البشر محدودة: خطوتان الى تلك الجهة وخطوتان الى هذه الجهة. هذا اقصى ما يستطيعون. حتى هذا كان يصعب عليهم أحيانا. وكانوا يتحدثون مع بعضهم عبر الأسوار المنخفضة التي تفصلهم عن بعضهم: quot;كيف حالك؟ هل مشيت اليوم؟quot;، quot;لا مع الأسف! يجب أن أمشي اليوم. لقد أصابني اليأس.quot;، quot;مسكين أنت! أما أنا فقد أنتهيت من ذلك.quot;، quot;حقا كم أحسدك..quot;، quot;في العادة أمشي بعد أن تنتهي أنت من المشي. كيف صحتك؟ هل أنت مريض؟ ربما أصابتك وعكة بسيطة؟quot;، quot;لا أعرف. أشعر بالتعب في الساقين. أعتقد أنهما ستسببان لي مشاكل كثيرة. quot;، quot;أنسى الموضوع اليوم. يحق لك أن تترك المشي لمدة يوم واحد. ما الضرر من ذلك؟quot;، quot;هذا رأيك.quot;، quot;هل تظن أن ذلك سيؤثر سلبا على طريقة جلوسك؟quot;، quot;لا أدري. أما أنت فقد مشيت.quot;، quot;لا أنكر ذلك. فقد أخبرتك بنفسي عما فعلته.quot;، quot;أما أنا فيجب ألا أمشي.quot;، quot;أذا كنت تشعر بالمرض.quot;، quot;لم أقل شيئا من هذا القبيل.quot;، quot;هذا ما فهمته من كلامك.quot;، quot;يبدو أنك تريد أن تسيء فهمي بشكل متقصد.quot;، quot;بالعكس. لم أعد أفهمك الآن مطلقا.quot;، quot;عفوا!quot;، quot;عفواquot;.
بعد حوار من هذا النوع يدير أحدهم ظهره للآخر وهو مستاء. من حسن الحظ لم يكن المرء بحاجة الى هذا الجار بالذات، فبسبب التشابه الكبير بين الجيران كانت أحاديثهم لا تختلف عن بعضها. يترك هذا الحوار وراءه شعورا عميقا بعدم الرضا لا يمكن التخلص منه إلا عن طريق الحركة. خطوتان الى تلك الجهة وخطوتان الى هذه الجهة ويتم تكرار ذلك لمدة خمس دقائق، حتى يسقط الواحد منهم على الأرض بسبب الإجهاد. (ثم يطعن نفسه بالسكين فيسقط ميتا).

2
إذا توفرت لنا امكانية مراقبة مشهد معين من ثلاثة جوانب فسنزداد فهما لعمل الممثل: يدخل شخص الى غرفة يجلس في إحدى زواياها عاشقان كما يبدو للوهلة الأولى. لخلو المكان من غيرهما يقرر الجلوس على طاولة بالقرب منهما. من خلال المرايا الموزعة على جدران المحل يكتشف أنه على خطأ. فإلى جانب الشخصين الحقيقين في الزاوية هناك إثنان آخران في المرآة الموضوعة يسارا وهناك غيرهما في المرآة الموضوعة أمامه. وهكذا فأنه يراهما من الجانب وبالمواجهة وفي الواقع ويمكنه بسهولة أن يسمع ما يدور بينهما من حوار. هي شابة صغيرة، نحيفة وقصيرة، غير أن وجهها المزوق يجعلها تبدو أكبر بمرتين مما هي عليه. على جانبى الأنف وحتى موقع الفم هناك شقان عميقان. و عيناها عبارة عن حفرتين يحيط بها ظل أسود غامق، يخفي ما يدور حقا في ذهنها. حين تضحك يشعر المرء بقناعة بأنها تبكي. وحين تتطلع بهدوء الى الأمام يشعر المرء بالخوف، إذ يبدو وجهها محفوفا بالألم. أما شعرها الأصفر المعقود على شكل ضفائر جميلة منفصلة عن بعضها فيلوح للمشاهد كما لو كان ذكرى لزمن مضى. إنها لا تكاد أن تتجاوز السادسة عشرة من العمر. ملامحها ذات الألوان الفاقعة تثير الرجل ذا البشرة السوداء الذي يشاركها صفتي النحافة والقصر. وهويغني الألمانية بلكنة رومانية أو بولونية. و يعوض عما يفتقر له من مشاعر بحركات اليد طالبا منها أن تأتي اليه ليريها ما يفرحها: بيانو وبساط جميل. غير أن ذلك لا يثير فضولها. فيستمر بالغناء متجاهلا رفضها له. أثناء هذا يختلق قصة عن فتاة طردها لكي يتفرغ لها. فتقول له أنه يجب أن يكون أكثر حذرا وإنها لن تذهب معه فالفتيات لسن دمى يتصرف بها كما يشاء. في مجرى هذا الحوار تزداد ملامحها قسوة، وهذا يعني أنها فرحة بما يرويه لها. الآن يمسك ذقنها بأصابعه النحيفة وينظر في عينيها بتصميم غير إنها تفلت منه معبرة عن إحتقارها له ، فيمسك بيدها ويلعق أصابعها واحدا بعد الآخر دون أن يثير أهتمامها، بل بالعكس من ذلك نجدها تقطب جبينها كما لو كانت تتطلع الى صورة لا وجود له فيها. بعد ذلك ترفع نظرها وتنظر الى رقبته لترى فيما إذا كانت ياقة قميصه نظيفة. وهاهو الآن يواصل ترديد اغنيته بصوت منخفض ومستمر، في حين تجهش الفتاة بالبكاء أي بالضحك ساخرة منه. لماذا لا يفهم ذلك رغم ذكائه؟ فهو على ما يبدو طبيب للأمراض النفسية. يجب عليه أن ينتظر ويتحلى بالصبر. انه يغني طيلة الوقت بصوت دافئ. بينما يبدو صوتها للمستمع شديد البرود، إذ أنها لا تمتلك نوايا تجاهه ، وهومليء بها.
تغادر المكان لتسأل عن الوقت بعد أن تكتشف انه لا يملك ساعة مما يزيد من إحتقارها له. أثناء خروجها أنظر الى وجهه في المرآة متوقعا أن أرى أبتسامة وسخة على وجهه مثل تلك التي تبرز على وجوه الرجال الذين لا يعرف بعضهم بعضا عند الحديث عن أمراةغريبة أثناء غيابها. إلا أنه لا يبتسم بل ينظر نحوي بملامح جدية تعبر عن حزن عميق في دواخله.
ربما هو موسيقي ، وإلا لما تحدث عن البيانو بإعجاب شديد، في الوقت الذي بدا فيه حديثه عن البساط محاولة لإرضائها، معتقدا بوجود ميل كبير لكافة أنواع الطنافس لدى النساء، بحيث يمكن شراء أية عاهرة ببساط. إنه لا يعرف البشر. ولا يلاحظ انه لن يتمكن من جذب إهتمامها حتى لو أعطاها النقود رغم حاجتها اليها. بعد عودتها من الخارج وهي تقول: quot;Half past threequot; ndash; هذا كل ما تستطيع قوله بألإنجليزية، وتكرره بأستمرار بسبب إعتدادها بنفسها ndash;، يعدها بجبال جديدة جلها من الذهب. مع ذلك لا تبدي أي إهتمام بوعوده فهي تعرف كل شيء. إذ ذاك يسعى للإمساك بها من أي مكان وبشكل ساذج رغم كونه تدرب على كل حركة من حركاته مسبقا، إلا أنها لا تكترث له، فهي تمتلك كنزا من التجارب يزيد كثيرا عن تجاربه، علما بأنها لا تعرف شيئا. حتى اللغة الإنجليزية لا تعرفها. كذلك تجهل كل مايتعلق بالموسيقى وعلم النفس. مع هذا فأنها تدرك كل ما يريده منها وكل حركة يقوم بها. وحتى لوكانت لا تعرف كلمة واحدة فإنها قادرة على أن تكتب كتابا. إنها تعرف مدلول كل حركة ولا تكترث بأي منها. فهي العالمة النفسية والباحثة : أهداف ما زال يسعى لتحقيقها. إنها تغفل عن كل ما هو خصوصي. وتهتم بكل ماهو نمطي. تعرف انه يرتدي سروالا..وهي محدودة الذهن، مما يجعلها تظهر أكبر بكثير مما هي عليه. الرجال يدفعون مبالغ طائلة لإرضاء غرورهم. أما حاجاتهم العامة فيمكن إرضاءها بسهولة.

3
شعر بألم شديد بسبب الريح الحادة التي عصفت بأذنيه العاريتين. وبدا له كما لو كانت كافة دعامات البيت تزعق بصوت مرتفع معلنة عن وجودها. راحت طيور السنونو التي كانت قد أستغرقت في النوم عند سقف البيت تستيقظ تاركة أعشاشها بشكل مفاجئ لتحلق بسرعة كبيرة صعودا ونزولا. وأشتد ظلام الليل أضعاف ما كان عليه. الى جانب الأصوات الصادرة عن الريح العاصفة كان هناك ضجيج ناتج عن إرتطام زجاجات فارغة ببعضها. أين هذه الزجاجات؟ ومن شربها؟ في الغابة راحت الأشجار الأكثر قدما من البيت تتساقط متناثرة قطعا قطعا. وتسربت الطيور المذعورة -ليس بسبب سقوطها من أعشاشها بل بسبب هدير الريح- إلى البيت من خلال نوافذه التي هشمتها العاصفة.. من جهة السقف يأتي أنين مئات الرضع المتروكين لوحدهم. ربما تداعى سقف البيت بسبب العاصفة، ولم يعد هناك أي سقف آخر ما عدا سقف هذه الغرفة، مما دفع الطيور للجوء اليها. ترفع الريح السرير ليسقط بقوة على الأرض مهدما. الخشب، البيت، الشبابيك، طيور الليل، البشر: الجميع في إنتظار الصاعقة الأولى. تحلق الطيور في ظلام الغرفة متناسية غريزة الصيد، بينما تطير الفراشات بحرية كبيرة وبأعداد لا تحصى ضاربة أجنحتها بالوجوه والأنوف. الهواء مثقل بالكائنات الصغيرة، لا يوجد من يفترسها. فكل الكائنات تريد الهرب، في الوقت الذي تتحول فيه العاصفة الى سيول جارفة.