كانت تقبع في زاويتها التي لا تتغير. لم تمتد إليها يد غير يدك. كنا نتأملها بتقزز في الصيف والشتاء، وطوال الأيام والأشهر والسنوات. لم تمتد إليها يدنا قط. حكمنا عليها بالعزلة والوحدة. شفاهنا لم تلامسها أبدا، لسبب واحد لم يتغير هو: لأنها كانت الطاسة النحاسية التي كنت تشرب منها الماء ياأبي!
كانت أمي تشمئز منها لأنك كنت تسعل كثيرا. وكانت نوبات سعالك سرعان ماكانت تنتهي بالقشع (البلغم). وقد ورثنا الاشمئزاز نفسه من أمي. كنا نغمض أعيننا اشمئزازا في تلك اللحظة. عندما كنت تنهل الماء من الطاسة بعد كل نوبة سعال، كنا نقف بعيدا عنك وعن طاستك.
عندما كنت تسأم من جو البيت (وهذا نادرا ماكان يحدث). كنت تنطلق بدراجتك العتيقة إلى مقهى (أحمد جاسم)، دون أن تفكر يوما في الذهاب إلى مقهى آخر. وكأنه لم يكن في كركوك غير هذا المقهى المظلل بتعريشة العنب، والذي كان يستند على جدران حمام (علي بك). وكأن كل منهما يسند الآخر أمام غدر الزمان، ويمنعه من السقوط حتى لو كان ذلك لأجل محدود.
في كل مساء كنت تجلس في غرفة الضيوف وحيدا مثل مومياء منسي. تستمع من الراديو إلى نشرات الأخبار فقط. وكنت تحفظ أوقاتها في كل إذاعة، فكنت تنتقل من واحدة إلى أخرى رغم انها جميعا كانت تذيع نفس الأخبار تقريبا.
ماالذي كان يهمك من أخبار العالم إلى هذه الدرجة في عزلتك القاتمة التي أقامت جدرانها في أعماقك منذ سنوات لا أدركها؟.. عن ماذا كنت تبحث ياأبي وسط أكوام من نشرات الأخبار التي كانت تنقل إليك من دول وعواصم ربما لم تكن تستطيع حتى تلفظ أسماءها بشكل صحيح؟. لم أستطع أن افهم المغزى من كل ذلك. كنت وحيدا في الحياة أيضا مثل طاستك النحاسية. أجل كنت وحيدا بلا أخ أو أخت. ولم أدر ما الحكمة الإلهية في ذلك يا أبي؟.
كانت ذاكرتك تحتفظ بإصرار بمشهد وحيد ويتيم يأبى أن يغادرها. في لحظات نادرة من التجلي كنت تستعيده، وتحكيه لنا مرات ومرات في تلك اللحظات القليلة التي كانت تجمعنا في ساعات العصر ونحن جالسين في حوش الدار لتناول الشاي. كنت تشرب الشاب بهدوء دون أن تعلم بأن أمي قد وضعت إشارات على قدحك وملعقتك لكي لا يستعملها أحد غيرك في البيت.
كان المشهد متجذرا في ذاكرتك. وكنت تشعر بنوع غريب من نشوة قصيرة العمر، كلما أعدت علينا ذلك المشهد الذي كان مغرقا في الأسى في رائي. لم تكن يا أبي تملك ماتحكيه لنا غير حكاية المشهد النابض في أعماق ذاكرتك السحيقة.
لم يكن المساء قد حل تماما في ذلك اليوم من زمن الـ (سفربرلك)* كنت في الرابعة أو الخامسة من عمرك، تودع برفقة أمك،جدي، أي والدك الجندي العثماني المتوجه إلى جبهة القتال في (جناقلعة) **. كانت كفك الأيمن مستسلمة باطمئنان لكفه الأيسر.
كنت تنظر إليه بإلحاح طفولي يصعب تفسيره. بينما كانت أمك غارقة في دموعها. كنت مشدودا إلى أبيك. تتطلع إلى قامته الطويلة وهو يرفعك ويحتويك بين ذراعيه بحنان، ويغمر وجهك الصغير بالقبلات وأنت تنظر إليه لتكتشف عينيه الزرقاوين وشعره الأشقر. بينما أنت قصير القامة، اسمر الوجه. وكان البعض يعتبرك أسود البشرة.
كنت تقول وأنت في لحظات التجلي النادرة هذه وأنت ترتشف الشاي:
ـ إنني أشبه أمي.. فقد كانت قصيرة وذات سمرة غامقة.
أحيانا كانت ثمة أحلام وأوهام جنونية تقودك رغما عنك إلى دهاليزها السرية، وتدفعك للبدء في رحلة البحث والسفر إلى ( جناقلعة) للبحث عن قبر جدي. لكنها كانت تظل دائما قصيرة العمر.
سرعان ماكنت تتبين استحالة هذا الحلم المستحيل، فتعود لتمسح الفكرة المجنونة من ذهنك أو هكذا كنت أتصور وأعتقد. من يدري حجم الأعاصير التي كانت تجتاح ذاتك؟ بصراحة لم يكن يهمني ذلك إطلاقا لأن عاصفة الحب الأول آنذاك، كانت تقتلع كل من اهتماماتي ماعدا هيامي ببنت الجيران.
أنا الآن ياأبي في نفس عمرك الذي تركتك فيه وحيدا مع نشرات أخبار الراديو. رُزقت بأولاد منذ زمن طويل. أبيضّ شعري كشعرك تماما. رغم ذلك لا تزال لي أحلامي وعواطفي وأمنياتي.
من يدري كم من أمنيات وأحلام جالت في ضفاف روحك، ورست في فسحتها التي لاتحدها حدود؟!... الآن أفهم ذلك يا أبي. أما في سنوات صبوتي وشبابي فقد كنت أعمى البصر والبصيرة فلم أر قساوة عزلتك وجدران قلعتها العالية. الآن تطفو بحيرات من الندم في كل ذرة من كياني. كيف سلمناك للوحدة والعزلة، لتسمع أخبار العالم الذي عشت دائما على رصيفه وحيدا يا أبي؟!.
ليتني شاركتك الجلوس في غرفة الضيوف قرب المذياع، لأستمع معك إلى نشرات الأخبار.. ليتني لعبت معك النرد الذي كنت تعشقه لأكون أنيسا لوحدتك. ليتني منعت أمي من وضع إشاراتها الكريهة على ماكنت تستعمله في البيت من أطباق وملاعق وأقداح. ليتني استمعت باهتمام أكثر الى حكاية مشهد الوداع الوحيد النابض المتبقي في ذاكرتك عن جدي وهو في طريقة إلى الموت قائلا:
ـ أجل ياأبي العزيز ثم ماذا حصل بعد ذلك؟
* * *
منتصف الليل. أنهض من النوم لشدة شعوري بالظمأ. أذهب إلى المطبخ. أشاهد ابني الصغير وهو يشرب بنهم قدحا من الماء. أخاطبه بحنو:
ـ هل أنت عطشان يا حبيبي؟
يرد وهو يدعك عينيه اللتين تسلطن عليهما النوم:
ـ نعم يا أبي.
أنا أيضا أشرب الماء، أشربه بنهم، من طاستك التي احتفظ بها منذ سنوات طويلة ياأبي!
* سفربرلك: النفير العام في العهد العثماني.
** جناقلعة: مدينة في تركيا تقع على بحر مرمرة. اشتهرت بالمعركة الحربية التي خاضتها الدولة العثمانية ضد الأسطولين البريطاني والفرنسي عام 1915.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سفربرلك: (النفير العام) في العهد العثماني
.