نصر جميل شعث: عند التأمل، قليلاً، في الكتابة الشعرية المعاصرة واليومية التي تقدمها الشاعرات العربيات، لا سيما الشابات منهن، يصعب رجمهن جزافًا بتهمه الأمومة الشعرية لصالح شاعرة ما. لكنّ شاعرتين كالراحلة نازك الملائكة أو فدوى طوقان سيكون لهما دائمًا نصيب كبير من الاحتفاء النسوي من لدن شاعرات اليوم اللواتي يمارسن شرودهن الحرّ، تحديدًا، خارج بنية الرائدة المحافظة quot;الأمquot; نازك الملائكة.
في المقابل من ذلك، على الرغم من جماليات الشرود الحرّ الذي يمارسه الشعراء الشباب، الآن، بطاقاتهم الخلاقة والمختلفة والمنبعثة من وعي فردي بالقصيدة؛ إلا أننا نجد الإصرار الأكاديميّ، لدى بعضهم، على ربط الحبل الإلزامي بين الابن الشارد وquot;الوالدquot; وتعقيده، طبعًا بالتقعيد. ربما دلّ هذا على استفحال العجز في نقد أكاديمي لا يطيل الجهد ولا يعيش متعة الوصول لجماليات اللحظة الشعرية الشاردة الآن في جهاتها الست.

ومن هنا، فليس حريًّا بنقد مفرط في الذكورة الأكاديمية أن يختزل أفقَ اللحظة الشعرية التي يمثّلها الكثير من أصوات الشعراء والشاعرات الشاردة والمحلّقة والمغرّدة؛ في ميتافيزيقا quot;الأمومةquot; أو quot;الأبوةquot;. وتحديدًا الشاعرات، لا سيما أن رائدة كالملائكة قد انتهى بها المطاف إلى الارتداد وخلق القيود على نفسها، وعلى الآخر المنقّب في أسبقية كتابة quot;الشعر الحرquot; الذي اصطدمت معه ورفضته، بوصفه حرّا، حدّ الانقلاب والتعصب إلى الأشكال والكوابح الجامدة. وهو ما تناهضه المرأة الشاعرة، بالمعنى الاجتماعي، وتتخذه موضوعًا تخلق منه، الآن، قضاياها حيث تطالب الذكورة بالكف عن حرمانها من التمتع بقيم ومرونة التحرّر وبسيادة ثقافة الحوار وقبول الآخر واحترام موهبتها وعقلها.

لكن، ستجد الشاعرة الشابة في سيرة الشاعرة فدوى طوقان - بغض النظر عن صفتها كشاعرة الأرض المحتلة- ما يتلاقى مع رغباتها كإمراة ذات توق للتحرّر.. فطوقان كتبت، تحت ضغط المجتمع، بأسماء مستعارة كـquot;دنانيرquot; وquot;المطوقةquot;، ثم تجسّد ذرى تمرّدها في ديوان quot;أمام الباب المغلقquot;، حيث التعبير عن العاطفة الذاتية والإنسانية الكلية المحتجة والشجاعة. وكل ذلك حاضر وملموس بالتجربة في حياة طوقان التي باتت نموذجًا حيًّا لمضمون الحرية ورعاية واحترام ومنح الآخر (الأخ: كإبراهيم طوقان، مثلاً) جانب من هذه الحرية التي ترغب في نيلها شاعرة عربية، خليجية مثلاً، ممسوسة بالفن ومحبوسة في بيت العائلة. وما إهداء شاعرات بعض قصائدهن لفدوى طوقان؛ إلا استلهام القيم المعنوية الجمالية من التجربة أو الرحلة المعاشة الصعبة والغنية للشاعرة.

وأما ما ستقرأه الشابة، الممسوسة والمحبوسة، عن شكل الحرية الشعرية، فسيكون مدعاة لأن تضجّ وترغب عن نازك الملائكة كشاعرة، وأكثر من ذلك كنظرة، لا تصلح نموذجًا يحتذى أو يستلهم إلا داخل الجامعة ومن طالبات يَجدْنَ في ثقافة وعلم وبحث ودراسة الملائكة الواسعة والوفيرة في اللغة والعروض والتنظير الأكاديمي للشعر؛ محفّزًا للنجاح الورقي التقليدي؛ بعد التغاضي عن انقلاب وارتداد الملائكة الرائدة على ذاتها، وخسارتها المبكرة للشعر. حيث الوضع الذي وصلت إليه الملائكة، تلخصه فدوى طوقان، ببساطة وموضوعية، في أحد الحوارات المطولة التي أجرتها معها الروائية الفلسطينية ليانة بدر ونشرت في كتاب خاصّ بعنوان quot;فدوى طوقان.. ظلال الكلمات المحكيةquot;. فعندما سُئلت فدوى عن صديقاتها قالت حقيقة الملائكة بصراحة خالية من شبهة الطعن والنميمة والشماتة، بل مشيرة للفضل ومبللة بنبرة الحزن على مآل الصديقة: quot;الملائكة هي رائدة الشعر الحديث، وإن انتشاره يرجع إلى قوة شخصيتها. زارتني ضيفة في نابلس. بعد هزيمة حزيران حضرت مؤتمرًا أدبيّا، وارتدت عن حركة الشعر الحديث. انطفأ توهّجها في الخطوط الرجعية باتجاه التعصب. شمت فيها شعراء كثيرون، وصاروا قادرين على طعنها. خبا نجمها. حتى أنني أتذكر جبرا إبراهيم جبرا في جلسة في بغداد، وكان ينتقد شعرها. حثته سلمى خضرا الجيوسي على كتابة ذلك نقدًا وكتب بعدهاquot;.