رثاء زوجات الشعراء (4)
كم عجيب هو الوجع، حين يضرب اعماق القلب ويجعلها تتدفق مشاعر مفعمة بالعذوبة، كم هو عذب ذلك البكاء اعترافا بخطأ، واحتراقا بعذاب هائل، وكم هو

الأولى

الثانية

الثالثة

مؤلم الندم بعد فوات الاوان، نحن الان على مشارف وجع طاغ لشاعر مرهف، اينما نلتفت نراه متخما بالحزن والهم والندم، ونتساءل: هل يمتك الشاعر سورة الغضب العارمة التي تعمي بصره وبصيرته وتوصله الى حافة الجنون ليرتكب جريمة؟، وضد من؟ ضد من ضمر لها حبا وعشقا لا يوصفان، لقد فعل هذا عبد السلام بن رغبان، الشهير بكنية (ديك الجن)، الشاعر الذي حلقت اشعاره في الافاق ورددها الناس بأعجاب حتى قيل (انه فاق شعراء عصره) و(ان الناس كانوا يبذلون المال من اجل الحصول على مقطوعة شعرية منه).
هو عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب، أبو محمد، الكلبي، أصله من (سلمية) قرب حماة، ومولده ووفاته بحمص، في سورية، ولد عام (161 هجرية / 777 ميلادية) وتوفي عن (75) عاما في عام (235 هجرية / 849 ميلادية) قيل انه لم يفارق بلاد الشام ولم ينتفع بشعره، اما كنيته (ديك الجن) فهناك رأيان فيها، الاول: لان عينيه كانتا خضراوين، والثاني: لكثرة تنقله بين بساتين الشام، او ربما لقوله:
(وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ
ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ
( ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ
إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمىً أَشِبِ)
وقال ابن شهراشوب في كتابه (شعراء أهل البيت): افتتن بشعره الناس في العراق وهو في الشام حتى أنه أعطى أبا تمام قطعة من شعره، فقال له: يا فتى اكتسب بهذا، واستعن به على قولك منفعة في العلم والمعاش، فيما ذكره ابن خلكان في اخباره قائلا عنه: أن أبا نواس قصده لما مر بالشام وعاتبه على تخوفه من مقارعة فحول الشعراء وقال له: اخرج فلقد فتنت أهل العراق.
عن ديك الجن قيل الكثير ووصف بالمجون وقد(انكب على اللذات انكباباً مطلقاً فأدمن معاقرة الخمر ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جرياً وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة)، لكن وسط هذا العالم المادي الذي عاش فيه وجد نفسه تهتز امام مرأى فتاة، كانت الفتاة النصرانية (ورد) قد فتنته وجعلته في لحظة ينفض عنه كل ماكان عليه، ملأ الحب الذي لم يعرفه.. قلبه، وتعالى في نفسه، وهو القائل فيها:
لا ومكانِ الصَّليبِ في النَّحْرِ مِنْكِ
ومجْرى الزُّنارِ في الخَصْرِ
والخالِ في الخَدِّ إذْ أشَبِّهُهُ
وردة َ مسكٍ على ثرى تبرِ
وحاجِبٍ مَدَّ خَطَّهُ قلَمُ
الحُسْنِ بِحِبْرِ البهاءِ لا الحِبْرِ
وأُقحوانٍ بفيكِ مُنتَظِمٍ
على سبيهِ الغديرِ من خمرِ
ما أَصْبَرَ الشَّوق بي فأصْبرُنا
من حسُنتْ فيه قلَّة ُ الصَّبرِ
ونشأ الحب فيما بينهما وكبر وازداد اتساعا، وراح لهيبه يحرق الهوامش في حياته والشوائب التي افرزتها تقلباته وترهاته، صارت علاقة الحب تجيش بالعاطفة الخالصة، حتى ان (ورد) اسلمت على يديه وتزوجها، وعاش (ديك الجن) حياته معه سعيدا الى ان جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي انتزع الحب من قلبه، ودفع بدلا عنه غيرة عمياء مستعرة انتهت بالمأساة التي ما زال صراخها يملأ اكوان العشاق والشعراء واثار الدماء تلطخ رؤوس القوافي، وقد احترقت يداه بسحر الانتقام.
تقول الحكاية: ان ابن عم لـ (ديك الجن) يسمى (ابو الطيب) دبر مكيدة على إثرِ صدِّ (ورد) له بعد العديد من المراودات والعروض التي قدمها لها لينال من نفسها، بعد ان قام ديك الجن برحلة بعيداً عن حمص طلباً للمالِ كي يردَّ بعض ديونه المستحقة,وعندما لاحَ خبر عودته قام ابن عمه أبو الطيبِ بالإيقاع بينه وبين زوجته فقام بإعلامها أن ديك الجن قد قتل على الطريق فسيطر عليها الحزن والكمد وملأها الهم والحسرة، وفي ذات الوقت قام (أبو الطيب) بإعلامِ صديقِ لـ(ديك الجنِّ) اسمه (بكر) وأعلمه بذات الخبر وطلب منه الذهاب إلى بيت صديقه كي يهدِّئَ من روع زوجته (ورد)، وذهب (بكر) إلى بيت صديقه وشارك ورداً في همها وكمدها وحزنها على زوجها (الراحل) ,وشرع بمواساتها وتهدئتها،ومع وصول ديك الجنِّ (سالماً) إلى حمصَ، أسرع إليه ابن عمه أبو الطيب وأخبره بوجود صديقه في بيت زوجته أثناء غيابه وأنه كان يتردد إليها باستمرار،فاستبد الغضب بديك الجن ومضى هائجا إلى بيته,وعندما تحقق من صحة مارواه أبو الطيب شهر سلاحه وقتل زوجته وصديقه بسيفه)، ثم راح يرتجل اشهر قصائده البكائية:

يا طَلْعَة ً طَلَعَ الحِمامُ عليها
وجنى لها ثَمَرَ الرَّدى بيدَيها
رويُت من دمِها الثَّرى ولطالماُ
رَوَّى الهوى شَفَتيَّ من شَفَتيْها
قد باتَ سيفي في مجالِ وشاحِهاُ
ومدامعي تَجْري على خَدَّيْها
فوحقِّ نعليها وما وطيء الحصى ُ
شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها
ماكانَ قتليها لأنّي لم أكنُْ
أَبْكِي إذا سَقَطَ الغُبارُ عليها
لكن ضَنَنْتُ على العُيُونِ بِحُسْنها
وأَنِفْتُ من نَظَرِ الحَسودِ إلَيها
وبعد حين.. وبعد ان تكشفت له الحقيقة، شعر بالندم الكبير، ذلك الندم الذي يمزق اوصال القلب ويحرق اشلاء الروح، فلم يجد غير الدمع والبكاء والوجع والندم ندمانا له، يعبر عنهم بالشعر رثاء ساخنا على زوجته الحبيبة التي اقترفت يداه بحقها تلك الجريمة المذهلة وعلى صديقه الصدوق بعد ان ارسل في طلبه ابن عمه (ابو الطيب) وهو يحتضر ليبلغه بحقيقة المكيدة التي صاغها، فكان ألمه اكبر من كل التصورات فراح يرثيها ويقلب مواجعه على نيران التذكر التي وقودها الندم، يذكرها ويسكب الدمع والوجع مدرارا.
تلك القصيدة رسم فيها متناقضات ما هو عليه من حب عظيم لها ومن صور الحادثة الاليمة، وكثف فيها انثيالاته النفسية، حيث يصف حالته حين عاد من السفر، حيث ان رؤيته لزوجته الحبيبة طلع الموت واثبا عليها وهي تستقبله بذراعين مفتوحتين، لكن هاتين اليدين لم تقطفا غير ثمر الموت وتكتص رحيقه القاتل، وبعد ان نشعر بمديات عذابه، نراه يستصرخ بالعزف على اوتار الكلمات، يضع انثيالاته ومفارقاته على سيماء ابياته، فيرسم وصفه بألون محنته، فيعترف انه (روى) الارض من دمها، ويستدرك مع كلمة (روى) حيث الهوى روى شفتيه من شفتيها، واي فارق بين الاثنين، بين الحالتين، وتتصاعد في نفسه المشاعر لتبلغ ذروتها عنده حين يقسم بـ (نعليها)، ولم تكن هذه القصيدة الا واحدة من اخريات، يمرد قلبه ليضعه حروفا ملطخة بدماء المأساة ويظل يبكي موجوعا وغارقا في همومه التي تتراكم ويتلو قصائده الحزينة ويترجم فيها حاله ومعاناته بعد الفقد وصولا الى ما يقوله الاخرون من عتاب ولوم وتوبيخ له على فعلته ولا يجد بدا من الرد بما تفرزه نفسه من لواعج تنتهي بالبكاء كما يتضح من صور النهاية البائسة التي تؤكد انه شرب اليأس كله، ومن ثم وصل به الوهن الى اخريات ايام حياته المليئة بالاحزان والهموم التي تتقاطر ندما.
ومن الطريف ان الشاعر نزار قباني كتب قصيدة حملت عنوان (ديك الجن) باسلوبه المعاصرشرح فيها المأساة وعبر عنها بشكل جميل، بدأها بقول:
إني قتلتك واسترحت
يا ارخص امرأة عرفت
وانهاها بقول:
حسناء.. لم أقتلك أنت
وإنما.. نفسي قتلت
ومن قصائد ديك الجن في ورد:
أساكنَ حفرة ٍ وقرارِ لحدِ
مفارِقَ خُلَّة ٍ من بَعْدِ عَهْدِ
أجبني إنْ قدرتَ على جوابي
بحَقِّ الودِّ كَيْفَ ظَلَلتَ بَعْدِي؟
وأينَ حللتَ بعدَ حلولِ قلبي
وأحشائي وأضلاعي وكبدي؟
أما واللهِ لو عاينتَ وجدي
إذا اسْتَعْبَرْتُ في الظَّلْماءِ وَحْدي
وَجَدَّ تَنَفُّسِي وعَلا زَفيري
وفاضَتْ عَبْرَتي في صَحْنِ خَدِّي
إذنْ لعلمتَ أنِّي عن قريبٍ
ستحفرُ حفرتي ويشقُّ لحدي
ويعذلُني السفيهُ على بُكائي
كأنِّي مبتلى ً بالحزنِ وحدي
يقول: قتلتها سفَها وجهلاً
وتبْكيها بكاءً ليس يُجْدي
كصَّيادِ الطُّيورِ له انتحابٌ
عليها وهو يذبحُها بحدِّ
و هذه القصيدة:
ليتني لم أكن لعطفك نلتُ
وإلى ذَلك الوِصالِ وَصَلْتُ
فالَّذِي مِنِّيَ کشْتَمَلْتِ عَليه
ألعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ
قال ذو الجهْلِ قد حَلُمْتَ ولا
أَعْلَمُ أَنِّي حَلُمتُ حَتَّى جَهِلْتُ
لائمٌ لي بِجَهْلِهِ ولماذا
أَنا وَحْدِي أَحْبَبْتُ ثُمَّ قَتَلْتُ
سَوْفَ آسى طولَ الحَياة ِ وَأَبْكِيـ
ـكِ على ما فَعَلْتِ لا ما فَعَلْتُ