رثاء زوجات الشعراء (2): مسلم بن الوليد quot;صريع الغوانيquot;

على اطراف الدولة العباسية، نقف.. لنتطلع قليلا الى وجوه الرجال هناك، حيث الذاكرة ملآى بتراكمات الوجد الغامض والخوف من البوح بما يضمره القلب للزوجة بسبب التقاليد

الحلقة الأولى
والعادات، لان عيون الناس تتحرك لوما وعتابا وربما استهزاء بتلك الاحاسيس الانسانية الفياضة، بينما تشعرها تستمع بالنسيب على الجواري والتغزل والتشبب بهن كل على الحلقة الأولى
طريقته وحكايات العشق والغرام ومجالس الخمر وبمديح الامراء واصحاب التيجان، لكن القلب لايجد الا ان يطيع ويطأطأ راسه وجلا ووجعا حينما يصل الامر الى رثاء الزوجة وان كانت حبيبة وبذل المشاعر لها والدموع والتأوهات، فالدموع اما ان تظل حبيسة المآقي او متقهقرة داخل الجسد او ان تنهمر في الخفاء، بين جدران صماء ولايسمع النشيج سواه، حيث اكثرهم يخشى ان ينتبه الى بكائه الاخرون ويضحكون من مشاعره البالية.
ومن بين الوجوه ارى وجه (مسلم بن الوليد)، اراه هناك معفرا بالوجع، اقرأ ملامحه التي احاط بها الوجد حزنا على زوجته التي ماتت، فلم يجد الا ان يكتم ويحاول ان يتشبث بقسوة القلب لكنه لم يستطع الى ذلك سبيلا فتفجرت روحه عن مقطوعة عفوية سجلته كواحد من فئة قليلة من الشعراء الذين رثوا زوجاتهم ولم يستطيعوا مهادنة انفسهم، كان انينه خفيا وقد اعتزل الناس واكفهرت روحه، لكنه مع كل عذاباته التي يشعر بها لم تتفجر داخله قصيدة لرثاء الراحلة،وان كان قد كتب اكثر من مئتي قصيدة، الا تلك القصيدة القصيرة الموجزة التي قوامها خمسة ابيات فقط ارادها ان تعبر عن كل ما يجيش في نفسه من حب لها وعناء بعدها، وجاء في مطلعها:
(بكاء وكأس كيف يتفقان ِ
سبيلاهما في القلب مختلفان ِ)
انه (صريع الغواني) أبو الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري، المولود في الكوفة في سنة مجهولة لدى المؤرخين ونشأ نشأته الاولى فيها ونطق بالشعر وهو صبي، جاء الى بغداد فاتصل بالخليفة هارون الرشيد وأنشده، هذا الفتى الذي حمل اللقب الذي يضج بالبوح الاستئنائي لشكل صاحبه، واشتتهر به حتى غطى على اسمه الحقيقي بسبب بيت شعر قاله هو:
(وما العيش إلا أن تروح مع الصبا
وتغدو صريع الكأس والعين النجل)
والذي كان ان سئل عن هذا اللقب الذي حمله لايجد احراجا في ان يشرح احواله بصراحة وربما يزدهي ويزهو فيه كونه يمتلك المؤهلات التي تصرع الغواني وتجعلهن مأسورات بما يقوله، او بوسامته او جاذبيته، ويقول:

(أنا ورد الخدود والحدق النجل
وما في الثغور من اقحوان
واعوجاج الأصداغ في ظاهر الخد
وما في الصدور من رمان
تركتني بين الغواني صريعا
فلهذا أدعى صريع الغواني)

هذا الذي يحمل هذه الصفة، والذي حياته ارتبطت بمظاهر الترف، وطار صيته عنوانا واضحا للمتشبب بالنساء والمعاقر للخمرة والمتبختر، ويرسم الصور الجميلة المعبرة عن ذاته اللاهية كما يشاء، ولاسيما انه ارتبط بالقادة اللذي اغدقوا عليه ما يمنحه اسباب الترف، وكما جاء في كتب السيرة انه (انقطع إلى يزيد بن مزيد الشيباني قائد هارون الرشيد الذي اتصل به فيما بعد ومدحه ومدح البرامكة وحسن رأيهم فيه، ولما أصبح الحل و العقد بيد ذي الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته، قربه وأدناه وولاه أعمالا بجرجان، ثم الضياع بأصبهان، واكتسب من عمله الجديد مئات الألوف وأنفقها في لذاته وشهواته، ولما قتل الفضل لزم منزله ونسك ولم يمدح أحدا حتى مات بجرجان سنة 208 هـ).
وهو الذي قيل انه ذات مرة (شرب مع الفضل بن يحيى البرمكي، وكانت على رأسه جارية تسقيه كأنها لؤلؤة، فلمح الفضل مسلم بن الوليد ينظر إليها، فقال الفضل له: قد، وحياتي، يا أبا الوليد، أعجبتك، فقل فيها أبياتا، فأنشد:
(إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني
كأسا ألذ بها من فيك تشفيني
عيناك راحي وريحاني حديثك لي
ولون خديك لون الورد يكفيني
إذا نهانيَ عن شرب الطِلا حرج
فخمر عينيك يغنيني ويجزيني)
فقال له الفضل: خذها بورك الله لك فيها!!.
هذا الشاعر.. بكل ما يمتلك من صفات، وجد نفسه امام رحيل زوجته كائنا اخر، اخذه الجزع الشديد، ورماه في غياهب الحزن الذي استسلم له وادى به الى اعتزال الناس والمكوث في داره، وقد ترك كل اللهو وملذاته خلفه، عازما على التنسك، كأنما اراد تلك الايام ان تذهب بلا عودة وان يظل على احزانه وفاء للراحلة، وبين سوء يضرب حياته وبين حين طال به الامد، عاوده اصدقاؤه يبحثون عن مخرج لاعادته الى حالته الاولى وتلك الحياة التي جبل عليها، ومع رفضه اقسم عليه اصدقاؤه ان يزورهم، ولم يجد بدا من الزيارة، فزارهم صديقهم الغائب، فكانوا اثنين هو ثالثهم، فحضرالاكل فأكل، وحين قدموا له الشراب رفض، امتنع ان يرتشف الخمرة، كانما وهجها سيؤثر في ثلم مشاعره تجاه الغائبة عن عيونه، وحين الحوا رغبة منه في تسليته وعسى ان ينسيه الخمر بعضا من احزانه، ارتعدت نفسه، نظر الى الكأس وقد سالت دموعه واختلجت مشاعره فقال:

(بكاء وكأس كيف يتفقان ِ
سبيلاهما في القلب مختلفان ِ)
الصورة للقاريء تبدو هادئة، اي انه لفظ كلماته بهدوء غريب تضطرب فيه خلجات نفسه، انه اخبار موجع وتساؤلي لا اجابة له، فقد وجد ان بكاءه وانهمار الدموع من عينيه نقيضان لايمكن لهما ان يلتقيا، فالباكي بحزن لايمكنه ان يعب مافي الكأس من نشوة، وان لهما في القلب مكانان مختلفان احدهما يحرق والاخر يبرد، احدهما ينهمر من الداخل والاخر ينسكب الى الداخل، وانه بما هو فيه لايحس بتلك البهجة التي كان يحسها وهو سعيد منشرح الصدر، فتزيده بهجة، فالبكاء سد عليه النوافذ ولم يبق لديه الا نافذة تنسكب منها دموعه حيث هو يرى مالا يرى اصحابه من اللوعة، ويمضي مستطردا في قصيدته الارتجالية العفوية المكثفة، ليستذكر المكان الذي صارت فيه الزوجة الحبيبة:
(غدت والثرى اولى بها في وليّها
الى منزل ناء ٍ لعينك دان ِ)
فهو يخبر صديقيه ومعهما الكأس الذي ينتصب امامه، ان التي اضرمت هذا الحزن فيه قد صارت تحت الارض التي صارت اولى به منه هو الولي لها، في مكان بعيد لكنه لم يفارق العين وقريب منه، ويتصاعد في ادائه التراجيدي وكأنه يصرخ من لوعة الفراق مشحونا بغصة مزقت روحه وهو يقول:
(فلا حزن حتى تذرف العين ماءها
وتعترف الاحشاء للخفقان ِ)
انه الصراخ المدوي الذي تسمعه كل قطعة في جسده والذي يتصاعد ليضج بالتساؤل الذي تتلاطم فيه امواج الجزع على امواج اليأس وتضطرب من خلاله النفس لاتدري كيف يمكن لها ان تلم شمل شتاتها، فيرمي بكل ما لديه في فورة عاصفة تنتهي بقوله:
(وكيف بدفع اليأس للوجد بعدها
وسهماهما في القلب يعتلجان ِ)
وانفض المجلس، بعد ان نزع كل ما في نفسه من شغف مريع بتلك التي كانت تشاركه حياته بعيدا عن الغواني اللواتي يلهو معهن في مغامراته وشؤونه الحياتية، ولكن هل ان مسلم الوليد اكتفى بهذه الابيات للرثاء؟، لا اظن ذلك واعتقد ان من يقرأ ديوانه الشعري سيجد اشارات الى ذلك الحزن الذي ظلت ترسباته تساوره دائما، فمن يقصد بقوله:
(واني لاخلو مذ فقدتك دائبا / فأنقش تمثالا لوجهك في الترب
فأسقيه من عيني وأشكو تضرعا / اليه بما القاه من شدة الكرب)
او هذه الابيات:
(شغلي عن الدار ابكيها وارثيها / اذا خلت من حبيب لي مغانيها
ان كان فيها الذي اهوى اقكت بها / وان عداها فمالي لا أعديها)
وهنالك غيرها مما يجدر بالمتأمل ان يجد لمحات في قصائده اراد ان يخفيها من الاعين ولا يضع نفسه بين فكي التقاليد يراها تثير عليه غبار السخرية.

القصيدة:
بكاء وكأس كيف يتفقان
سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني وافراط البكاء، فأنني
ارى اليوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها
الى منزل ناء، لعينك دان
فلا حزن حتى تذرف العين ماءها
وتعترف الاحشاء للخفقان
وكيف بدفع اليأس للوجد بعدها
وسهاهما في القلب يعتلجان