عبد النبي ذاكر: مساء يوم خامس ماي 2008 اختتمت أشغال الملتقى الدولي الثالث حول: (الخطاب النقدي العربي المعاصر ـ النقد النفسي)، المنظم خلال أيام 3- 04 ـ 05 ماي من السنة الجارية، بمعهد الآداب واللغات التابع للمركز الجامعي خنشلة بدولة الجزائر.
وقد جاءت ثالثة الأثافي بعد انعقاد الملتقى الدولي الأول حول: (النقد الأدبي العربي المعاصر)، والملتقى الدولي الثاني حول: (النقد السوسيولوجي في العالم العربي). وسيكون الملتقى الرابع ـ كما أوصت بذلك لجنة التوصيات ـ في محور: (القراءة والتلقي في النقد الأدبي العربي المعاصر).
معلوم أن علاقة التحليل النفسي بالنقد الأدبي خضعت لتقلبات كثيرة في إطار الممارسة النقدية في بحر القرن الماضي. وانتقل الاهتمام النقدي بالمجال النفسي من البحث في نفسية المؤلف إلى الشخصية في العمل الأدبي، ومن ثم إلى نفسية القاريء، ومنها إلى العلاقات بين المؤلف والقاريء والنص واللغة. لقد بدأ التحليل النفسي يشتغل بوصفه علاجا يسعى إلى الكشف عن الجوهر المكبوت عن طريق اللغة من خلال الحوار بين المريض والمحلل، غير أنه انتقل إلى مجال الإبداع في محاولة للإمساك بمحورين مهمين هما: مبدأ اللذة ومبدأ الواقع.
ويتضح أن طبيعة النقد النفسي تسعى ـ بالأساس ـ إلى إيجاد قيم وقواعد جديدة، تقيم نظاما للنقد الأدبي المستفيد من الأبحاث النفسية، ليرد بذلك على أطروحات التحليل النفسي، التي تسخر العمل الأدبي لتجعله ميدانا لتطبيق النظريات النفسية. ومن هذا المنطلق يغدو التحليل النفسي مبحثا من مباحث الدراسة الأدبية، ويخضع لمقومات وخصوصيات الجمالية الأدبية، وتصبح الهيمنة للخطاب النقدي الأدبي على حساب الجانب المعرفي الإبستِمولوجي الدقيق المتصل بعلم النفس.
فالجهد الأساسي هو خلق منظور جديد يوحد بين التحليل النفسي والنقد الأدبي؛ فلا يقتصر على التحليل اللغوي الشكلي للنصوص، كما لا ينزع نزعة متطرفة تشوه حقيقة الأثر الأدبي. بل هو سعي للكشف عن الجوانب النفسية اللاشعورية من جهة، وشبكة الصور البلاغية من جهة أخرى، مثمنا كل ذلك وفق رؤية تناغم بين التحليل النفسي والنقد الأدبي.
ويشكل البحث المنهجي في مجال الدراسات النفسية مسارا حافلا بالتفاعلات القائمة بين النقد العربي، ومختلف المدارس النقدية الأوروبية. وإذا كانت عناصر التفاعل بين النقد العربي والنقد الغربي، قد كان للبحث النقدي جانب منها، فإن مجال الاختبار اتسم بتنويعات وفروقات واختلافات، سواء أكان في مجالات الأخذ من المصدر، أم في مستوى التطبيق والتأويل المنهجي. ولذلك كانت الدراسات النفسية في ميدان النقد الأدبي في العالم العربي تفاعلا متباينا مع الأصول التي استقى منها أدبياته. ومن ثمَّ، فإن الخطاب النقدي النفسي العربي ـ الذي عرف حقل الدراسات النفسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ـ لم تكن بداياته الجادة إلا منذ أربعينيات القرن العشرين، حيث ظهرت دراسات تتميز بوضوح في الرؤية ووعي أكبر بالمنهج، وبدأ التحليل يدرس نفسية الشاعر من خلال شعره.
ويمكن الحديث عن البعد الجدي العلمي للنقد النفسي مع صدور كتاب:(دراسات في علم النفس الأدبي) لحامد عبد القادر(1949)، وما تلاه من دراسات قام بها باحثون متعددون، على رأسهم محمد خاف الله الذي سعى إلى تأصيل علاقة الأدب بعلم النفس. وقد بقيت تلك الدراسات في مجملها تراوح بين التعريف بعلم النفس العام وبين المنهج النفسي التحليلي، أو تعمل على القيام بمحاولات لتطبيق التحليل النفسي، بما يتيح القراءة السريرية القائمة على استنساخ قيمة نقدية، تربط بين المفاهيم التي تسعى إلى البحث عن حقيقة الإبداع وعلاقته بالأمراض النفسية، أو على اعتبار أن المبدع هو المادة الأساسية للدراسة. كما أن كل اهتمامها تركز على النصوص الشعرية، وكل الخلاصات المتوصل إليها تصب في حقل الكشف عن نفسية الأديب والمبدع انطلاقا من إنتاجه، إلا أن ذلك كان بداية التحول النقدي الذي دشنه جورج طرابيشي، وبعض النقاد المعاصرين، إلا أن هذا التوجه الجديد لا يشكل حضورا قويا في الساحة النقدية العربية، ويعود ذلك لأسباب تبقى الإجابة عنها مطروحة أمام الباحثين والدارسين. وهذا ما سعى الملتقى إلى تحقيقه، من خلال جملة محاور أهمها:
1 ـ الأدب وعلم النفس بين النقد النفسي والتحليل النفسي.
2 ـ اتجاهات النقد النفسي ومدارسه:
- جاك لاكان بين اللغة واللاوعي
- جان بيلمان ـ نُويل ولا وعي النص
3 ـ الظاهراتية والنقد النفسي
- بين النقد النفسي والنقد الموضوعاتي.
4 ـ التلقي العربي للنقد النفسي
- الجهود العربية لتأصيل النقد النفسي
- حضور النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية
- الدراسات التطبيقية العربية في النقد النفسي
5 ـ دراسات تطبيقية
- تطبيقات على نصوص سردية وشعرية.
وكان الملتقى حلبة لدراسات ميدانية جادة أغنت القضايا المرتبطة عضويا بالمحاور المقترحة، كما أغنتها مختلف تخصصات المشاركين من جامعات جزائرية: (البويرة، قسنطينة، خنشلة، الطارف، تيزي وزو، تبسة، المسيلة، سعيدة، الجلفة، بسكرة، سوق أهراس، جيجل، البليدة، عنابة، سكيكدة، سطيف، وهران، المدية، باتنة ) وعربية: (المغرب، السعودية، سوريا)، أسعفت في فتح نوافذ على رؤى منهجية دقيقة حول قضايا النقد النفسي وتطبيقاته المختلفة، واجتهاداته المتباينة.
بعد الكلمات الافتتاحية الرسمية لمدير معهد الآداب واللغات بولاية خنشلة، ورئيس اللجنة العلمية للملتقى ونائب مدير الدراسات العليا والبحث العلمي ومدير المركز الجامعي ووالي الولاية الذي أعلن عن الافتتاح الرسمي لفعاليات الملتقى، ألقى المحاضرة الافتتاحية الأولى عمرو عيلان في موضوع: (مسار النقد الأدبي: من التحليل النفسي إلى النقد النفسي). وفيها وقف على ملامح تعددية الخطاب النقدي الأدبي، وما يتميز به من طرح إشكالي، وما يستند إليه من خلفيات معرفية، تستهدف البحث عن الجوانب الفنية للنصوص الأدبية، مثلما تتوخى البحث في الجانب المعرفي الساعي إلى جعل النقد الأدبي علميا بقدر الإمكان. وعليه فمبحث النقد الأدبي إشكالي غير ثابت لا يقبل الحلول الصارمة والدقيقة التي توجد في العلوم الأخرى، لأنه لا ينطلق من مرجعية ثابتة وواحدة، ولا يوضع في استراتيجية واحدة تمثل اتجاها أحاديا للبحث. فالنقد الأدبي لا يقبل بوحدانية المنهج، ولا بأحادية المرجع، بل يستفيد من العلوم الإنسانية المختلفة: كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ...فهو موضوع متعدد المباحث والإشكالات، يتناول مجالات معرفية مختلفة متعددة، وبذلك فهو لا يقبل بالحدود الصارمة، لكونه يشمل مجموع المعارف الإنسانية، لكن في إطار من الضوابط الخاصة به؛ لأن النص الذي يدرسه محكوم بالأدبية، أو مجموع الخصائص التي تجعل من الأدب أدبا، فالنقد خطاب عن خطاب أدبي، وبذلك لا يمكن أن يكون النقد متشابها في إجراءاته واستراتيجياته ومنهجياته، فالنقود تختلف باختلاف مرجعياتها ومعارفها وأهدافها وإجراءاتها.
وتحت عنوان: (حضور النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية) ألقى عبد الله أبو هيف بحثا مهَّده بتوضيحات مصطلحية ومنهجية ومعرفية في النقد النفسي تخص الصدمات النفسية وتفسير الأحلام والرموز النفسية والتوازن النفسي والاجتماعي واللاوعي والأعراض المرضية. ليعرج بعد ذلك على مؤثرات السلوك والأفعال الذاتية في مجالات الإنتاج الثقافي والتداعي الحر للأفكار، وقواعد الانتباه العائم من الغموض النفسي إلى تمثلاته المكشوفة. ثم تناول أيضا في سياق رصد اتجاهات النقد النفسي في الدراسات العربية لغويا وأدبيا وثقافيا وسياسيا ونقديا مؤلفات صادرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة للباحثين والنقاد أمثال: جورج طرابيشي ومحمود السيد وروز ماري شاهين وخريستو نجم وزين الدين المختاري وحسين مبروك حسن وبسام قطوس.
كما افتتحت الجلسة الأولى بمحاضرة محمد خرماش الذي تناول موضوع: (نظرية التحليل النفسي النصي عند جان بيلمان ـ نويل ولا وعي النص الشعري: نماذج من أشعار نزار قباني). وفيها نبَّه إلى أن النقد النفسي مثَّل مرحلة متأخرة ومتطورة في البحث عن الحقائق النفسية في النص الأدبي، وقد نادى مفهوم التحليل النفسي النصي بضرورة تجاوز تطبيقات فرويد البيوغرافية إلى محاولة الكشف عن تناسق التمثلات الاستيهامية المشتركة بين الكاتب والقاريء من أجل الوقوف على فرادة التجربة السيكولوجية في فرادة النص المقروء؛ وهو أمر ممكن ما دام النص وحده كفيلا بتحقيق عملية التواصل بذاته، ولا يحتاج إلى حضور دائم لطرفي الإرسالية.
إن الميكانيزم الأساس في هذه العملية يتوقف فقط على اشتغال قوة التلفظ في الملفوظ أو على تحريك التدليل في النص الأدبي من خلال القراءة التي تحاول فك ترميزاته وإقامة تأويلات موجهة في تركيب جديد؛ وبذلك ينتقل القاريء أو الناقد من حالة quot;السريرquot; الذي كان يقرأ فيه إلى حالة quot;الكرسيquot; الذي يعيد فيه تشكيل قراءته. وما أكثر ما يصادف القاريء أو ما يعيش من الحقائق النفسية والاستيهامية في النص الذي يستغرقه ويدفعه إلى تعبئة الوقائع الكامنة لديه قصد تحقيق هذا الذي يسمى لقاءً ضمنيا أو سريا بينه وبين المبدع في عالم المركبات الدينامية التي تؤدي إلى نوع من اكتشاف الذات الفاعلة في مواجهتها للإكراهات البارزة الناشئة عن جدلية الفعل وإرادة الفاعل، عن الحياة وعن حقيقة الحياة، وبذلك قد يمكن الوقوف على بعض نماذج المفارقة العصبية بين لحظات الحياة ولحظات الإبداع أو بين الموجود والمبتغى، بين الكائن والمطلوب وبين جرح الواقع وبلسم الأدب.
ومن ثم فالقراءة السيكولوجية هي قراءة متجاوزة لظاهر النص ومتجاوزة للمعطيات البيوغرافية في ظاهرها أيضا من أجل الحفر في أغوار الوجود الحلمي أو الوجود المحلوم به لدى الكاتب والقاريء معا. إنها المجال الرحب الذي يساعد الإنسان على استبطان الحقيقة المكرهة أو الحقيقة السرية، ويجعله ينتشي بالتعرف على ذلك الجزء المجهول من الحياة. وهذا التواطؤ النصي ـ على حد تعبير بيلمان نويل ـ هو مصدر الإحساس بعمق التجربة فيه، وبحيويته التي تجعل منه ذاتا محفزة ومتواصلة مع الذوات المتهافتة عليه تهافتا قد يجعل منه شيئا آخر غير الذي أراده الكاتب أو غير الذي وعاه، لأن التداخل القرائي يساعد على اتحاد العناصر والتجارب في صيغة جديدة هي صيغة التحقق القرائي. وعلى أي، فلا الخطاب السيكولوجي ولا القيم النصية بقادرة على أن تتكشف إلا مع القراءة وفي علاقة مع قدرات القاريء وإمكانيته في رصد منطق النص الداخلي واستكشاف أبعاده التكوينية حيث يسري النسغ السيكولوجي أو الخطاب اللاشعوري كقوة منادية للتماهي أو ملء الفراغات أو استطلاع المغيب في الحاضر. إنه الأفق الذي تلتقي عنده زرقة الكتابة بسماء القراءة، فلا يكون بدّ من تلاقحهما المستمر. ومعنى هذا أن على القاريء أو الدارس أن يضع نفسه رهن إشارة quot;القوة الاستيهاميةquot; في الإبداع لكي يمر من القراءة إلى إعادة الإنتاج؛ ولكي يزاوج بين طريقة تفكيك الوسائل الإبداعية وبين تأويل الجزئيات التفصيلية كي يصبح كل شيء أمامه قابلا لحمل الدلالة المقصودة بعد إعادة التركيب.
والعشق لذة في ألم، وألم في التذاذ، وقد عاش نزار قباني عاشقا في الأرض وفي السماء، متبرما ولهان، ومتحرقا جذلان؛ ويمكن القول بأن هذه المفارقة العجيبة قد تتأتى له من كونه قد أدرك قيمة شعره فعض عليها بالنواجذ، وأدرك أن الشعر سبيل جميل وصعب إلى جبل جلجلة أي إلى مركز الحق والحقيقة؛ فركب سِنانه وظل يتغنى بحرقة الشعر، بحرمان النفس، وبأوجاع الأمة، فانبجست من انفعالاته تجربة العشق والإحباط، والعشق والرؤية المأساوية، والعشق والغضب، والعشق والأمل، وهو ما يمكن أن يتصادى مع سيكولوجية القاريء والقاريء العربي بالذات الذي هو مسكون بنفس الهواجس ونفس الحالات.
بعد تحدث أحمد حيدوش في موضوع: (النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية: من أين وإلى أين؟). وفيه فصل القول في منطلقات التحليل النفسي في النقد الأدبي بالوطن العربي، كما حاول الوقوف عند استشرافاته القائمة على إفاداته من مستجدات النقد الأدبي الغربي وتطعيماته المتباينة.
أما لخضر مذبوح، فحدد مداخلته في (نظام الدال والكلام عند جاك لاكان)، حيث وقف على تقريبات لاكان في كتابه الشهير: (كتابات)، بين اللسانيات والتحليل النفسي، وبين اللاشعور ونظام الدال والكلام، إذ يعيد التحليل النفسي للذات الجزء الناقص من خطابها الذي يعرفه بالجزء الذي ينقص الذات لكي تقيم مواصلة خطابها الواعي، ويؤكد أن ماهية الإنسان توجد في اللغة. والنظام الرمزي عالم حاسم في فهم الشخصية الإنسانية. والدال عند جاك لاكان أهم من المدلول كما تثبت ذلك quot;الرسالة المسروقةquot;.
وفي هذا السياق التنظيري نفسه، قدمت راضية سكاوي: (قراءة تحليلية في كتاب: quot;التحليل النفسي والأدبquot; لجان بيلمان ـ نويل)، مبينة كيف عرف التحليل النفسي الفرويدي تغيرات وتحولات بارزة على الرغم من أنصاره في النقد الحديث. فقد ظهر نقاد حاولوا تقديم تصورات جديدة ترى نفسها أقرب إلى تحديد الهوية النفسية لأطراف العملية الإبداعية: (مبدع، نص، قاريء). ومن بين هؤلاء جاك لاكان وحديثه عن اللاوعي واللغة، وشارل مورون الذي ركز على الاستعارات الملحة والأسطورة الشخصية للكاتب، وشارل بودوان ومارت روبير في مقاربتهما للرواية العائلية...وإلى جانب هؤلاء نجد جان بيلمان ـ نويل يسعى هو الآخر إلى تحديد مسار التحليل النفسي باعتباره مجهودا يسعى إلى خلق مطابقة وتمفصل بين نظرية اللاشعور ونظرية الجنسية ونظرية الذات المتكلمة (الكاتبة). كما يدعو إلى رفع النفساني والأدبي إلى منزلة المسلمات وضرورة معالجتهما كظواهر ثقافية محددة ومستقلة بذاتها تملك قيمة لا تقبل الجدال. لذلك راهنت مداخلة الباحثة على إرساء قراءة جديدة رصدت من خلالها العلاقة الوثيقة بين التحليل النفسي والأدب.
وفي الاتجاه نفسه، رصد عبد اللطيف حني: (جماليات النقد النفسي عند شارل مورون)، مبينا كيف أفاد رائد من رواد التحليل النفسي من مجهودات المدرسة الفرويدية واليونغية واللاكانية، وكيف وضع أداة التحليل النفسي في خدمة النقد، وتفسير النصوص الأدبية وتأويلها. وقد حاول الباحث الإجابة عن أسئلة هامة من قبيل:
- ما هي تقنيات النقد النفسي عن شارل مورون؟
- لماذا أطلق عليه هذا المصطلح سنة 1948؟
- لماذا سماه بالورشة الواسعة؟
- ما هي أدواته التي تحولت إلى إجراءات نقدية؟
- ما المقصود بمصطلح الكتابة والاستشفاء؟
- ما دور المطبقات (SUPERPOSITIONS) في بناء العمل الأدبي عنده؟
وتحت عنوان: (النقد النفسي والقراءة المفارقة) توقف مصطفى درواش عند مناقشة فرضية أن الكاتب يبدع أولا ويكشف مرضه بواسطة المعايير الفرويدية، التي عبرت في حقب التأسيس والتأصيل عن نقلة نوعية في دراسة الشخصية العصابية، وهي معايير تشكلت في إطار معرفي وعقائدي وثقافي محدد، بحيث أضحى الكاتب فاقدا لمنزلته وتجربته وحضوره واختياره ورأيه. ثم انتهى الباحث إلى تقديم التحولات النوعية في تنظيم الفكر والممارسة، التي أفضت بالتحليل النفسي إلى الكشف عما يفتقر إليه تحليل الخطاب الأدبي من كفاءة نسجية. ولعل هذا الخطأ التقديري كامن في العجز في التصور والتدقيق في الفروق والفواصل، وقد أصابت هذه العدوى النقد العربي الحديث، فجاء النقد النفسي ليكشف عن وسائل أخرى يتوخاها في ضمان النتائج من حيث وضوح الرؤية ووعي القراءة وتقديم معرفة مفارقة وجديدة للنص، في دراسة لغته وتراكيبها وصورها المكرورة في منتوج الكتابة الواحدة، لأن مجرد التأويل وتفسير السياق، وإن ظلت الوظيفة الجمالية مغيبة كشأن المقولات السياقية. أما في النقد العربي الذاتي، فإن الحاجة إلى الوعي بالتحولات التي طرأت على المباحث النفسية، أضحت إلزامية، فليس عيبا مراجعة المنهج وتعديله وتحويره، ليتم استيعابه بشكل رؤيوي لا سيما في غياب المعرفة الواعية بالنقد النفسي الذي هو أقدر على منافسة القراءة النصية، فإن هذا الصنف من النقد قد حول فكره وممارسته للنص الأدبي، الذي لم يكن من اهتمامات التحليل النفسي ذي الطابع الانتقائي والجزئي.
وفي الجلسة الثانية التي ترأسها الباحث المغربي عبد النبي ذاكر، تناول الدارس السعودي سلطان سعد القحطاني: (السيرة النفسية PSYCHBIOGRAPHY في الرواية العربية)، وهي سير تختلف عن السيرة الذاتية؛ فعلاقتها تنحصر في الماضي المنقطع، وليس الماضي المتصل. وهذا الانقطاع لا يعني النسيان، فهو يشبه البيات الطبيعي، يبقى تحت اللاشعور، مندمجا في السيرة الكلية، يسندها ويعيد ترتيب فصولها في وقت الحاجة، ويحتفظ لها بما تريد على طول الزمن، ومهما تقدم الإنسان في السن تبقى هذه السيرة النفسية ملازمة له، ويجد شيئا في داخله يعيده إلى نظام السنين الأولى المحفورة في الذاكرة، بينما ينسى بعض الأحداث التي لم يمض عليها وقت طويل.
إثره تناولت الباحثة اللسانية زهيرة قروي قضية (التعبير اللغوي: مقاربة بسيكو ـ لسانية). وفي هذه المداخلة تم تشريح المكونات السيكولوجية واللسانية في التعبير اللغوي، من خلال نماذج أفصحت عن تداخل المكونين وتكاملهما في الخطاب. وفي هذا المنحى وقفت الباحثة على علاقة التقاطع بين علم اللغة وعلم النفس من حيث إن اللغة تؤسس على أقوال المتكلمين، كما تعتبر البحوث النفسية ذات أهمية في تفسير المعطيات اللغوية. وإن الاهتمام الأصيل بالقدرة اللغوية، ليوضح كيفية ارتباط علم اللغة بعلم النفس، حيث تتركز الحدود بين علم اللغة وعلم النفس على الفارق المميز بين القدرة موضع اهتمام علماء اللغة، والأداء موضع اهتمام علماء النفس.
وتحت عنوان: (مساءلة الذات والآخر من منظور النقد النفسي: رواية quot;إنها لندن يا عزيزيquot; أنموذجا)، حاولت ليلى جباري ـ وهي تستكشف الخبايا النفسية لرواية الأديبة اللبنانية حنان الشيخ ـ الوقوف عند علاقة المجتمع باللاشعور، وما يربط النص الأدبي بالفرد وتاريخه وخلفياته الفكرية والنفسية. الشيء الذي يكسب النص دلالات نفسية وشعورية وتضمينات تترجم ذاتية المبدع في صورة علامات نصية، لأن النص بنية لغوية. وانطلاقا من طرح نظري لمسته الباحثة في الكتابة النسائية المصنفة ضمن السيرة الذاتية، والمتعلق بتداخل شخصية المبدع مع بطل الرواية، بحيث تبدو التجربة الشخصية شبيهة بالتجربة الفنية، حاولت الدارسة تحليل الرواية المذكورة المتميزة بجرأتها في رصد واقع المرأة الشرقية، وهي رافضة للواقع الزائف، متمردة على مبتذلات الحياة، طامحة إلى التحرر من القهر الاجتماعي والجسدي والمصالحة مع الذات. فتعرض لنا تجارب لثلاث شخصيات عربية قصدت الغرب للتمرد على نظم الأعراف وللتحرر الذاتي، لكنها تصطدم بالعديد من العراقيل والمفاجآت، ما جعلها عاجزة عن التفاعل بصورة إيجابية مع الآخر، فبدت متأزمة ومستلبة حضاريا.
وجميع تلك الشخصيات تحمل معها أحلاما وأوهاما، تنسج عوالم سردية متنوعة ومتشابكة وتبتدع عالما مفترضا، تنشيء من خلاله مغامرات عبثية وعلاقات متفاوتة مع الآخر، لتتولد لديها اضطرابات نفسية وتجزؤ في الهوية الذاتية.
وفي سياق التطبيقات النقدية التي أغنت الملتقى بجرأتها وعمقها ونفاذها إلى أغوار نصوص أدبية وشعبية، قدمت سمية فالق مدالخة متميزة في (التحليل النفسي والتراث الشعبي)، أبانت من خلالها عن الإمكانات التي تقدمها الفرويدية في فحص الموضوعات الأدبية المتصلة بالتراث الشعبي، خاصة وأن هذا الأخير يمثل عالما متداخلا، متشابكا من موروثنا الحضاري، ومن ممارستنا الشعبية، ومن أدبنا الشعبي. ونظرية التحليل النفسي من النظريات التي يعتمد عليها (الفولكلور) لتفسير مواد التراث الشعبي تفسيرا نفسيا، لما تحمله من قيم ودلالات تجسد أعماق النفس الإنسانية، فتترجم أثر الانفعالات والعواطف في العملية الإبداعية، فغدا الباحث يبحث عن معادل نفسي لعناصر التراث الشعبي..هذا المعادل الذي يجسد تلك الرواسب النفسية التي خزنت تجارب الإنسان البدائية ـ كما يقول يونغ ـ وكل ما يمكن أن يمتّ بصلة إلى كنوز الذاكرة الإنسانية الموروثة وما يتصل بها من أساطير وشعائر.
بعدها قدمت سميرة لغويل مداخلة تحت عنوان: (علم نفس الأنا أنموذجا للتحليل النفسي)، ركزت فيها على التطور التاريخي لعلم نفس الأنا بدءاً بعلم نفس الأنا الفرويدي ووظائف الأنا، وصولا إلى بعض رواد علم نفس الأنا المحدثين: (هارتمان، أركسون..).
أما علية بيبية، فحاولت تحليل: (السياق النفسي في قصة سيدنا موسى عليه السلام)، مبينة كيف كشف القرآن الكريم عن حقائق نفس الإنسان من خلال تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صورة حسية والسير على طريقة تصوير المشاهد والحوادث. وللقصة القرآنية جوانب نفسية كثيرة تساعد على فهم متكامل للنفس الإنسانية في أبعادها الجسمية والإدراكية. وقصة سيدنا موسى عليه السلام تنكشف فيها السياقات النفسية المتعددة. والسياق النفسي هو ما يحيط بالكلمة من شحنات عاطفية وانفعالات، ويتم التركيز فيه على حالات وجدانية وانفعالية في القصة، والمتمثلة في التسلط والطغيان (فرعون)، والفرح والسرور (أم موسى) والخوف (موسى وأمه) والاطمئنان (موسى وهارون).
وقد قدمت وردة مسيلي دراسة تحلل فيها (بنية المثل الشعبي القسنطيني: مقاربة بسيكو ـ لسانية). وفيها كشفت عن إمكانات علم النفس العام في استخراج القوانين العامة للسلوك التي تزخر بها الأمثال الشعبية بمضامينها العديدة والمتنوعة وآلياتها النفسية الدفاعية: (الكبت، التبرير، الإسقاط، التقمص) والقيم التي تروج لها (كالاستقلالية والانصياع والاتكالية والموقف من المرأة والجماعات القومية والدينية والطائفية).
وفي سياق التحليل النفسي للشعر، قدمت بدرة فرخي مداخلة بخصوص: (النقد النفسي وإشكاليات التأويل: قصيدة بعد عام لناصر الدين الأسد نموذجا)، استهدفت الكشف عن آليات التحليل النفسي في النقد الأدبي وأهم إشكالات التأويل على مستوى القراءة المتخصصة التي ستفصح عن حقيقة المنهج النفسي في تحليل النص وشرحه، وذلك بتبني الطرح النظري لأبحاث كل من نورمان هولاند ممثل مدرسة بوفالو وبخاصة عندما يطبق علم نفس الذات في درس الأدب، وهارولد بلوم الذي ارتبط بالفكر الفرويدي ومدرسة ييل للتفكيك، وشوشانا فلمان في مرحلة ما بعد البنيوية التي أبدت تأثرا قويا بالتحليل النفسي عند دريدا ولاكان.
وفي مفتتح الجلسة الأولى من اليوم الثاني، قدم عبد النبي ذاكر بسطة حول: (قضايا التحليل النفسي للأدب في النقد ونقد النقد بالمغرب)، واقفا عند مستويات المعالجة النفسية للأدب سواء في نقد النقد(من خلال دراسات عبد العزيز جسوس وحميد لحمداني وعبد الجليل الأزدي وبوسليخن) أو في النقد التطبيقي(من خلال أعمال حسن المودن).
إثره تناول محمد خيط قضية (النقد النفساني والنقد الموضوعاتي: حدود التفسير والتأويل)، واقفا عند العلاقة الملتبسة والمتداخلة بينهما، فبمنظور تصنيفي خارجي يمكن الحديث عن فروق جوهرية بين نقد نفساني سياقي خارجي ونقد موضوعاتي نصاني داخلي. إلا أن المنظور الإجرائي يضعنا في دائرة الحديث عن النص كمنطلق مشترك بين منهجين يتبادلان مساحات النظر النقدي في شراكة لا يشوبها نزاع رغم إفضائها إلى نتائج مختلفة.
وكانت مداخلة فيصل حصيد بعنوان: (الموضوع بين الوعي الظاهراتي والتحليل النفسي عند جان بّيير ريشار)، التي كانت مناسبة لبيان علاقة الظاهراتية بالتحليل النفسي في دراسة الموضوع كما تجلت في الوعي النقدي عند ريشار من خلال التحقيق في مجموعة مصطلحات تشكل جهازه المفاهيمي كالمعرفة والوعي والقصدية والظاهر والجوهر.
وبالفرنسة قدم سعيد سعيدي قراءة عميقة حلل فيها رواية لأمبيرتو إيكو. وقد حملت مداخلته عنوان: (La narration pendulaire dansrdquo;La pendule de Foucaultrdquo; drsquo;Umberto Eco). وتكمن أهمية هذه المقاربة في تحليلها النفسي لتقنيات السرد الروائي، ملتفتة إلى كيفية انكتاب السكولوجي في الروائي، بعيدا عن المضامين، قريبا من البنيات والصيغ وتكنيك الحكي.
وبخصوص (المكان والبعد النفسي)، حاول محمد الصالح خرفي إبراز دلالات النص الشعري المكاني وأبعاده النفسية في المتن الشعري الجزائري المعاصر. وقد سعى الباحث في هذه المداخلة إلى إبراز quot;المستوى النفسيquot; في نص المكان المتعلق بالوطن، لأن الوطن هوية وليس خريطة جغرافية وشهادة ميلاد، هو المنفى في الداخل والأمل في الخارج، والبؤرة المركزية التي تستقطب تفاصيل الحياة، لأن الشعراء يحملونه بداخلهم.
وفي إطار التحليل النفسي للرواية قدم حفيظ ملواني: (قراءة نفسية في سمات الشخصية الروائية ـ رواية زينب نموذجا). كما وقفت نوال بومعزة عند: (جمالية توظيف الرؤى وأحلام اليقظة في إبداع مبارك ربيع: رواية quot;بدر زمانهquot; أنموذجا ـ دراسة نفسية تحليلية). وقد كشفت الباحثة عن ملامح توظيف التحليل النفسي ومصطلحاته في الرواية المذكورة كالأحلام والتهيؤات وأحلام اليقظة، مما أثرى الرواية وأكسبها بعدا تخييليا واسعا يجمع بين الحقيقة والواقع كالتضمين والتناوب والتوازي من جهة، وتوظيف آخر تقنيات التحليل النفسي من جهة أخرى.
ومن خلال اللعب المسرحي وأساليب الفكاهة والسخرية، حللت الباحثة طامر أنوال: (الخطاب المسرحي عند فلاق ndash; دراسة نفسانية لـquot;الجمل الأخيرquot;).
وختاما أستطيع القول: إن المؤتمر قد حقق نجاحا كبيرا بوقوفه على مختلف مدارس التحليل النفسي، وبرصده وإفادته من آخر مستجداته، وإعمال مبضع التشريح في مختلف الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة والشعر والمسرح والرواية والحكاية الشعبية والمثل الشعبي واللوحة الفنية والقصة الدينية. كما كان الملتقى مناسبة لمراجعة السائد في النقد الأدبي النفسي في الوطن العربي، واقتراح البدائل، واستشراف الآفاق الممكنة، ومناقشة العطاءات الغربية في هذا المجال بدءاً بتحليل quot;لاوعي المؤلِّفquot; أو quot;لاوعي الشخصيةquot; مع فرويد وأتباعه، مرورا بـquot;لاوعي النصquot;مع جان بيلمان ـ نويل، وانتهاءً بـquot;لاوعي القاريءquot; مع بّيير بايار. لقد كان الملتقى ـ بحق ـ فرصة للعبور من quot;تطبيق التحليل النفسي على الأدبquot; إلى quot;تطبيق الأدب على التحليل النفسيquot;، والخروج بخلاصات ومفاهيم تُعدُّ قيمة مضافة تجلبها خصوصية النصوص العربية عند احتكاكها بأدوات التحليل النفسي.
وقد جاءت ثالثة الأثافي بعد انعقاد الملتقى الدولي الأول حول: (النقد الأدبي العربي المعاصر)، والملتقى الدولي الثاني حول: (النقد السوسيولوجي في العالم العربي). وسيكون الملتقى الرابع ـ كما أوصت بذلك لجنة التوصيات ـ في محور: (القراءة والتلقي في النقد الأدبي العربي المعاصر).
معلوم أن علاقة التحليل النفسي بالنقد الأدبي خضعت لتقلبات كثيرة في إطار الممارسة النقدية في بحر القرن الماضي. وانتقل الاهتمام النقدي بالمجال النفسي من البحث في نفسية المؤلف إلى الشخصية في العمل الأدبي، ومن ثم إلى نفسية القاريء، ومنها إلى العلاقات بين المؤلف والقاريء والنص واللغة. لقد بدأ التحليل النفسي يشتغل بوصفه علاجا يسعى إلى الكشف عن الجوهر المكبوت عن طريق اللغة من خلال الحوار بين المريض والمحلل، غير أنه انتقل إلى مجال الإبداع في محاولة للإمساك بمحورين مهمين هما: مبدأ اللذة ومبدأ الواقع.
ويتضح أن طبيعة النقد النفسي تسعى ـ بالأساس ـ إلى إيجاد قيم وقواعد جديدة، تقيم نظاما للنقد الأدبي المستفيد من الأبحاث النفسية، ليرد بذلك على أطروحات التحليل النفسي، التي تسخر العمل الأدبي لتجعله ميدانا لتطبيق النظريات النفسية. ومن هذا المنطلق يغدو التحليل النفسي مبحثا من مباحث الدراسة الأدبية، ويخضع لمقومات وخصوصيات الجمالية الأدبية، وتصبح الهيمنة للخطاب النقدي الأدبي على حساب الجانب المعرفي الإبستِمولوجي الدقيق المتصل بعلم النفس.
فالجهد الأساسي هو خلق منظور جديد يوحد بين التحليل النفسي والنقد الأدبي؛ فلا يقتصر على التحليل اللغوي الشكلي للنصوص، كما لا ينزع نزعة متطرفة تشوه حقيقة الأثر الأدبي. بل هو سعي للكشف عن الجوانب النفسية اللاشعورية من جهة، وشبكة الصور البلاغية من جهة أخرى، مثمنا كل ذلك وفق رؤية تناغم بين التحليل النفسي والنقد الأدبي.
ويشكل البحث المنهجي في مجال الدراسات النفسية مسارا حافلا بالتفاعلات القائمة بين النقد العربي، ومختلف المدارس النقدية الأوروبية. وإذا كانت عناصر التفاعل بين النقد العربي والنقد الغربي، قد كان للبحث النقدي جانب منها، فإن مجال الاختبار اتسم بتنويعات وفروقات واختلافات، سواء أكان في مجالات الأخذ من المصدر، أم في مستوى التطبيق والتأويل المنهجي. ولذلك كانت الدراسات النفسية في ميدان النقد الأدبي في العالم العربي تفاعلا متباينا مع الأصول التي استقى منها أدبياته. ومن ثمَّ، فإن الخطاب النقدي النفسي العربي ـ الذي عرف حقل الدراسات النفسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ـ لم تكن بداياته الجادة إلا منذ أربعينيات القرن العشرين، حيث ظهرت دراسات تتميز بوضوح في الرؤية ووعي أكبر بالمنهج، وبدأ التحليل يدرس نفسية الشاعر من خلال شعره.
ويمكن الحديث عن البعد الجدي العلمي للنقد النفسي مع صدور كتاب:(دراسات في علم النفس الأدبي) لحامد عبد القادر(1949)، وما تلاه من دراسات قام بها باحثون متعددون، على رأسهم محمد خاف الله الذي سعى إلى تأصيل علاقة الأدب بعلم النفس. وقد بقيت تلك الدراسات في مجملها تراوح بين التعريف بعلم النفس العام وبين المنهج النفسي التحليلي، أو تعمل على القيام بمحاولات لتطبيق التحليل النفسي، بما يتيح القراءة السريرية القائمة على استنساخ قيمة نقدية، تربط بين المفاهيم التي تسعى إلى البحث عن حقيقة الإبداع وعلاقته بالأمراض النفسية، أو على اعتبار أن المبدع هو المادة الأساسية للدراسة. كما أن كل اهتمامها تركز على النصوص الشعرية، وكل الخلاصات المتوصل إليها تصب في حقل الكشف عن نفسية الأديب والمبدع انطلاقا من إنتاجه، إلا أن ذلك كان بداية التحول النقدي الذي دشنه جورج طرابيشي، وبعض النقاد المعاصرين، إلا أن هذا التوجه الجديد لا يشكل حضورا قويا في الساحة النقدية العربية، ويعود ذلك لأسباب تبقى الإجابة عنها مطروحة أمام الباحثين والدارسين. وهذا ما سعى الملتقى إلى تحقيقه، من خلال جملة محاور أهمها:
1 ـ الأدب وعلم النفس بين النقد النفسي والتحليل النفسي.
2 ـ اتجاهات النقد النفسي ومدارسه:
- جاك لاكان بين اللغة واللاوعي
- جان بيلمان ـ نُويل ولا وعي النص
3 ـ الظاهراتية والنقد النفسي
- بين النقد النفسي والنقد الموضوعاتي.
4 ـ التلقي العربي للنقد النفسي
- الجهود العربية لتأصيل النقد النفسي
- حضور النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية
- الدراسات التطبيقية العربية في النقد النفسي
5 ـ دراسات تطبيقية
- تطبيقات على نصوص سردية وشعرية.
وكان الملتقى حلبة لدراسات ميدانية جادة أغنت القضايا المرتبطة عضويا بالمحاور المقترحة، كما أغنتها مختلف تخصصات المشاركين من جامعات جزائرية: (البويرة، قسنطينة، خنشلة، الطارف، تيزي وزو، تبسة، المسيلة، سعيدة، الجلفة، بسكرة، سوق أهراس، جيجل، البليدة، عنابة، سكيكدة، سطيف، وهران، المدية، باتنة ) وعربية: (المغرب، السعودية، سوريا)، أسعفت في فتح نوافذ على رؤى منهجية دقيقة حول قضايا النقد النفسي وتطبيقاته المختلفة، واجتهاداته المتباينة.
بعد الكلمات الافتتاحية الرسمية لمدير معهد الآداب واللغات بولاية خنشلة، ورئيس اللجنة العلمية للملتقى ونائب مدير الدراسات العليا والبحث العلمي ومدير المركز الجامعي ووالي الولاية الذي أعلن عن الافتتاح الرسمي لفعاليات الملتقى، ألقى المحاضرة الافتتاحية الأولى عمرو عيلان في موضوع: (مسار النقد الأدبي: من التحليل النفسي إلى النقد النفسي). وفيها وقف على ملامح تعددية الخطاب النقدي الأدبي، وما يتميز به من طرح إشكالي، وما يستند إليه من خلفيات معرفية، تستهدف البحث عن الجوانب الفنية للنصوص الأدبية، مثلما تتوخى البحث في الجانب المعرفي الساعي إلى جعل النقد الأدبي علميا بقدر الإمكان. وعليه فمبحث النقد الأدبي إشكالي غير ثابت لا يقبل الحلول الصارمة والدقيقة التي توجد في العلوم الأخرى، لأنه لا ينطلق من مرجعية ثابتة وواحدة، ولا يوضع في استراتيجية واحدة تمثل اتجاها أحاديا للبحث. فالنقد الأدبي لا يقبل بوحدانية المنهج، ولا بأحادية المرجع، بل يستفيد من العلوم الإنسانية المختلفة: كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ...فهو موضوع متعدد المباحث والإشكالات، يتناول مجالات معرفية مختلفة متعددة، وبذلك فهو لا يقبل بالحدود الصارمة، لكونه يشمل مجموع المعارف الإنسانية، لكن في إطار من الضوابط الخاصة به؛ لأن النص الذي يدرسه محكوم بالأدبية، أو مجموع الخصائص التي تجعل من الأدب أدبا، فالنقد خطاب عن خطاب أدبي، وبذلك لا يمكن أن يكون النقد متشابها في إجراءاته واستراتيجياته ومنهجياته، فالنقود تختلف باختلاف مرجعياتها ومعارفها وأهدافها وإجراءاتها.
وتحت عنوان: (حضور النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية) ألقى عبد الله أبو هيف بحثا مهَّده بتوضيحات مصطلحية ومنهجية ومعرفية في النقد النفسي تخص الصدمات النفسية وتفسير الأحلام والرموز النفسية والتوازن النفسي والاجتماعي واللاوعي والأعراض المرضية. ليعرج بعد ذلك على مؤثرات السلوك والأفعال الذاتية في مجالات الإنتاج الثقافي والتداعي الحر للأفكار، وقواعد الانتباه العائم من الغموض النفسي إلى تمثلاته المكشوفة. ثم تناول أيضا في سياق رصد اتجاهات النقد النفسي في الدراسات العربية لغويا وأدبيا وثقافيا وسياسيا ونقديا مؤلفات صادرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة للباحثين والنقاد أمثال: جورج طرابيشي ومحمود السيد وروز ماري شاهين وخريستو نجم وزين الدين المختاري وحسين مبروك حسن وبسام قطوس.
كما افتتحت الجلسة الأولى بمحاضرة محمد خرماش الذي تناول موضوع: (نظرية التحليل النفسي النصي عند جان بيلمان ـ نويل ولا وعي النص الشعري: نماذج من أشعار نزار قباني). وفيها نبَّه إلى أن النقد النفسي مثَّل مرحلة متأخرة ومتطورة في البحث عن الحقائق النفسية في النص الأدبي، وقد نادى مفهوم التحليل النفسي النصي بضرورة تجاوز تطبيقات فرويد البيوغرافية إلى محاولة الكشف عن تناسق التمثلات الاستيهامية المشتركة بين الكاتب والقاريء من أجل الوقوف على فرادة التجربة السيكولوجية في فرادة النص المقروء؛ وهو أمر ممكن ما دام النص وحده كفيلا بتحقيق عملية التواصل بذاته، ولا يحتاج إلى حضور دائم لطرفي الإرسالية.
إن الميكانيزم الأساس في هذه العملية يتوقف فقط على اشتغال قوة التلفظ في الملفوظ أو على تحريك التدليل في النص الأدبي من خلال القراءة التي تحاول فك ترميزاته وإقامة تأويلات موجهة في تركيب جديد؛ وبذلك ينتقل القاريء أو الناقد من حالة quot;السريرquot; الذي كان يقرأ فيه إلى حالة quot;الكرسيquot; الذي يعيد فيه تشكيل قراءته. وما أكثر ما يصادف القاريء أو ما يعيش من الحقائق النفسية والاستيهامية في النص الذي يستغرقه ويدفعه إلى تعبئة الوقائع الكامنة لديه قصد تحقيق هذا الذي يسمى لقاءً ضمنيا أو سريا بينه وبين المبدع في عالم المركبات الدينامية التي تؤدي إلى نوع من اكتشاف الذات الفاعلة في مواجهتها للإكراهات البارزة الناشئة عن جدلية الفعل وإرادة الفاعل، عن الحياة وعن حقيقة الحياة، وبذلك قد يمكن الوقوف على بعض نماذج المفارقة العصبية بين لحظات الحياة ولحظات الإبداع أو بين الموجود والمبتغى، بين الكائن والمطلوب وبين جرح الواقع وبلسم الأدب.
ومن ثم فالقراءة السيكولوجية هي قراءة متجاوزة لظاهر النص ومتجاوزة للمعطيات البيوغرافية في ظاهرها أيضا من أجل الحفر في أغوار الوجود الحلمي أو الوجود المحلوم به لدى الكاتب والقاريء معا. إنها المجال الرحب الذي يساعد الإنسان على استبطان الحقيقة المكرهة أو الحقيقة السرية، ويجعله ينتشي بالتعرف على ذلك الجزء المجهول من الحياة. وهذا التواطؤ النصي ـ على حد تعبير بيلمان نويل ـ هو مصدر الإحساس بعمق التجربة فيه، وبحيويته التي تجعل منه ذاتا محفزة ومتواصلة مع الذوات المتهافتة عليه تهافتا قد يجعل منه شيئا آخر غير الذي أراده الكاتب أو غير الذي وعاه، لأن التداخل القرائي يساعد على اتحاد العناصر والتجارب في صيغة جديدة هي صيغة التحقق القرائي. وعلى أي، فلا الخطاب السيكولوجي ولا القيم النصية بقادرة على أن تتكشف إلا مع القراءة وفي علاقة مع قدرات القاريء وإمكانيته في رصد منطق النص الداخلي واستكشاف أبعاده التكوينية حيث يسري النسغ السيكولوجي أو الخطاب اللاشعوري كقوة منادية للتماهي أو ملء الفراغات أو استطلاع المغيب في الحاضر. إنه الأفق الذي تلتقي عنده زرقة الكتابة بسماء القراءة، فلا يكون بدّ من تلاقحهما المستمر. ومعنى هذا أن على القاريء أو الدارس أن يضع نفسه رهن إشارة quot;القوة الاستيهاميةquot; في الإبداع لكي يمر من القراءة إلى إعادة الإنتاج؛ ولكي يزاوج بين طريقة تفكيك الوسائل الإبداعية وبين تأويل الجزئيات التفصيلية كي يصبح كل شيء أمامه قابلا لحمل الدلالة المقصودة بعد إعادة التركيب.
والعشق لذة في ألم، وألم في التذاذ، وقد عاش نزار قباني عاشقا في الأرض وفي السماء، متبرما ولهان، ومتحرقا جذلان؛ ويمكن القول بأن هذه المفارقة العجيبة قد تتأتى له من كونه قد أدرك قيمة شعره فعض عليها بالنواجذ، وأدرك أن الشعر سبيل جميل وصعب إلى جبل جلجلة أي إلى مركز الحق والحقيقة؛ فركب سِنانه وظل يتغنى بحرقة الشعر، بحرمان النفس، وبأوجاع الأمة، فانبجست من انفعالاته تجربة العشق والإحباط، والعشق والرؤية المأساوية، والعشق والغضب، والعشق والأمل، وهو ما يمكن أن يتصادى مع سيكولوجية القاريء والقاريء العربي بالذات الذي هو مسكون بنفس الهواجس ونفس الحالات.
بعد تحدث أحمد حيدوش في موضوع: (النقد النفسي في الدراسات النقدية العربية: من أين وإلى أين؟). وفيه فصل القول في منطلقات التحليل النفسي في النقد الأدبي بالوطن العربي، كما حاول الوقوف عند استشرافاته القائمة على إفاداته من مستجدات النقد الأدبي الغربي وتطعيماته المتباينة.
أما لخضر مذبوح، فحدد مداخلته في (نظام الدال والكلام عند جاك لاكان)، حيث وقف على تقريبات لاكان في كتابه الشهير: (كتابات)، بين اللسانيات والتحليل النفسي، وبين اللاشعور ونظام الدال والكلام، إذ يعيد التحليل النفسي للذات الجزء الناقص من خطابها الذي يعرفه بالجزء الذي ينقص الذات لكي تقيم مواصلة خطابها الواعي، ويؤكد أن ماهية الإنسان توجد في اللغة. والنظام الرمزي عالم حاسم في فهم الشخصية الإنسانية. والدال عند جاك لاكان أهم من المدلول كما تثبت ذلك quot;الرسالة المسروقةquot;.
وفي هذا السياق التنظيري نفسه، قدمت راضية سكاوي: (قراءة تحليلية في كتاب: quot;التحليل النفسي والأدبquot; لجان بيلمان ـ نويل)، مبينة كيف عرف التحليل النفسي الفرويدي تغيرات وتحولات بارزة على الرغم من أنصاره في النقد الحديث. فقد ظهر نقاد حاولوا تقديم تصورات جديدة ترى نفسها أقرب إلى تحديد الهوية النفسية لأطراف العملية الإبداعية: (مبدع، نص، قاريء). ومن بين هؤلاء جاك لاكان وحديثه عن اللاوعي واللغة، وشارل مورون الذي ركز على الاستعارات الملحة والأسطورة الشخصية للكاتب، وشارل بودوان ومارت روبير في مقاربتهما للرواية العائلية...وإلى جانب هؤلاء نجد جان بيلمان ـ نويل يسعى هو الآخر إلى تحديد مسار التحليل النفسي باعتباره مجهودا يسعى إلى خلق مطابقة وتمفصل بين نظرية اللاشعور ونظرية الجنسية ونظرية الذات المتكلمة (الكاتبة). كما يدعو إلى رفع النفساني والأدبي إلى منزلة المسلمات وضرورة معالجتهما كظواهر ثقافية محددة ومستقلة بذاتها تملك قيمة لا تقبل الجدال. لذلك راهنت مداخلة الباحثة على إرساء قراءة جديدة رصدت من خلالها العلاقة الوثيقة بين التحليل النفسي والأدب.
وفي الاتجاه نفسه، رصد عبد اللطيف حني: (جماليات النقد النفسي عند شارل مورون)، مبينا كيف أفاد رائد من رواد التحليل النفسي من مجهودات المدرسة الفرويدية واليونغية واللاكانية، وكيف وضع أداة التحليل النفسي في خدمة النقد، وتفسير النصوص الأدبية وتأويلها. وقد حاول الباحث الإجابة عن أسئلة هامة من قبيل:
- ما هي تقنيات النقد النفسي عن شارل مورون؟
- لماذا أطلق عليه هذا المصطلح سنة 1948؟
- لماذا سماه بالورشة الواسعة؟
- ما هي أدواته التي تحولت إلى إجراءات نقدية؟
- ما المقصود بمصطلح الكتابة والاستشفاء؟
- ما دور المطبقات (SUPERPOSITIONS) في بناء العمل الأدبي عنده؟
وتحت عنوان: (النقد النفسي والقراءة المفارقة) توقف مصطفى درواش عند مناقشة فرضية أن الكاتب يبدع أولا ويكشف مرضه بواسطة المعايير الفرويدية، التي عبرت في حقب التأسيس والتأصيل عن نقلة نوعية في دراسة الشخصية العصابية، وهي معايير تشكلت في إطار معرفي وعقائدي وثقافي محدد، بحيث أضحى الكاتب فاقدا لمنزلته وتجربته وحضوره واختياره ورأيه. ثم انتهى الباحث إلى تقديم التحولات النوعية في تنظيم الفكر والممارسة، التي أفضت بالتحليل النفسي إلى الكشف عما يفتقر إليه تحليل الخطاب الأدبي من كفاءة نسجية. ولعل هذا الخطأ التقديري كامن في العجز في التصور والتدقيق في الفروق والفواصل، وقد أصابت هذه العدوى النقد العربي الحديث، فجاء النقد النفسي ليكشف عن وسائل أخرى يتوخاها في ضمان النتائج من حيث وضوح الرؤية ووعي القراءة وتقديم معرفة مفارقة وجديدة للنص، في دراسة لغته وتراكيبها وصورها المكرورة في منتوج الكتابة الواحدة، لأن مجرد التأويل وتفسير السياق، وإن ظلت الوظيفة الجمالية مغيبة كشأن المقولات السياقية. أما في النقد العربي الذاتي، فإن الحاجة إلى الوعي بالتحولات التي طرأت على المباحث النفسية، أضحت إلزامية، فليس عيبا مراجعة المنهج وتعديله وتحويره، ليتم استيعابه بشكل رؤيوي لا سيما في غياب المعرفة الواعية بالنقد النفسي الذي هو أقدر على منافسة القراءة النصية، فإن هذا الصنف من النقد قد حول فكره وممارسته للنص الأدبي، الذي لم يكن من اهتمامات التحليل النفسي ذي الطابع الانتقائي والجزئي.
وفي الجلسة الثانية التي ترأسها الباحث المغربي عبد النبي ذاكر، تناول الدارس السعودي سلطان سعد القحطاني: (السيرة النفسية PSYCHBIOGRAPHY في الرواية العربية)، وهي سير تختلف عن السيرة الذاتية؛ فعلاقتها تنحصر في الماضي المنقطع، وليس الماضي المتصل. وهذا الانقطاع لا يعني النسيان، فهو يشبه البيات الطبيعي، يبقى تحت اللاشعور، مندمجا في السيرة الكلية، يسندها ويعيد ترتيب فصولها في وقت الحاجة، ويحتفظ لها بما تريد على طول الزمن، ومهما تقدم الإنسان في السن تبقى هذه السيرة النفسية ملازمة له، ويجد شيئا في داخله يعيده إلى نظام السنين الأولى المحفورة في الذاكرة، بينما ينسى بعض الأحداث التي لم يمض عليها وقت طويل.
إثره تناولت الباحثة اللسانية زهيرة قروي قضية (التعبير اللغوي: مقاربة بسيكو ـ لسانية). وفي هذه المداخلة تم تشريح المكونات السيكولوجية واللسانية في التعبير اللغوي، من خلال نماذج أفصحت عن تداخل المكونين وتكاملهما في الخطاب. وفي هذا المنحى وقفت الباحثة على علاقة التقاطع بين علم اللغة وعلم النفس من حيث إن اللغة تؤسس على أقوال المتكلمين، كما تعتبر البحوث النفسية ذات أهمية في تفسير المعطيات اللغوية. وإن الاهتمام الأصيل بالقدرة اللغوية، ليوضح كيفية ارتباط علم اللغة بعلم النفس، حيث تتركز الحدود بين علم اللغة وعلم النفس على الفارق المميز بين القدرة موضع اهتمام علماء اللغة، والأداء موضع اهتمام علماء النفس.
وتحت عنوان: (مساءلة الذات والآخر من منظور النقد النفسي: رواية quot;إنها لندن يا عزيزيquot; أنموذجا)، حاولت ليلى جباري ـ وهي تستكشف الخبايا النفسية لرواية الأديبة اللبنانية حنان الشيخ ـ الوقوف عند علاقة المجتمع باللاشعور، وما يربط النص الأدبي بالفرد وتاريخه وخلفياته الفكرية والنفسية. الشيء الذي يكسب النص دلالات نفسية وشعورية وتضمينات تترجم ذاتية المبدع في صورة علامات نصية، لأن النص بنية لغوية. وانطلاقا من طرح نظري لمسته الباحثة في الكتابة النسائية المصنفة ضمن السيرة الذاتية، والمتعلق بتداخل شخصية المبدع مع بطل الرواية، بحيث تبدو التجربة الشخصية شبيهة بالتجربة الفنية، حاولت الدارسة تحليل الرواية المذكورة المتميزة بجرأتها في رصد واقع المرأة الشرقية، وهي رافضة للواقع الزائف، متمردة على مبتذلات الحياة، طامحة إلى التحرر من القهر الاجتماعي والجسدي والمصالحة مع الذات. فتعرض لنا تجارب لثلاث شخصيات عربية قصدت الغرب للتمرد على نظم الأعراف وللتحرر الذاتي، لكنها تصطدم بالعديد من العراقيل والمفاجآت، ما جعلها عاجزة عن التفاعل بصورة إيجابية مع الآخر، فبدت متأزمة ومستلبة حضاريا.
وجميع تلك الشخصيات تحمل معها أحلاما وأوهاما، تنسج عوالم سردية متنوعة ومتشابكة وتبتدع عالما مفترضا، تنشيء من خلاله مغامرات عبثية وعلاقات متفاوتة مع الآخر، لتتولد لديها اضطرابات نفسية وتجزؤ في الهوية الذاتية.
وفي سياق التطبيقات النقدية التي أغنت الملتقى بجرأتها وعمقها ونفاذها إلى أغوار نصوص أدبية وشعبية، قدمت سمية فالق مدالخة متميزة في (التحليل النفسي والتراث الشعبي)، أبانت من خلالها عن الإمكانات التي تقدمها الفرويدية في فحص الموضوعات الأدبية المتصلة بالتراث الشعبي، خاصة وأن هذا الأخير يمثل عالما متداخلا، متشابكا من موروثنا الحضاري، ومن ممارستنا الشعبية، ومن أدبنا الشعبي. ونظرية التحليل النفسي من النظريات التي يعتمد عليها (الفولكلور) لتفسير مواد التراث الشعبي تفسيرا نفسيا، لما تحمله من قيم ودلالات تجسد أعماق النفس الإنسانية، فتترجم أثر الانفعالات والعواطف في العملية الإبداعية، فغدا الباحث يبحث عن معادل نفسي لعناصر التراث الشعبي..هذا المعادل الذي يجسد تلك الرواسب النفسية التي خزنت تجارب الإنسان البدائية ـ كما يقول يونغ ـ وكل ما يمكن أن يمتّ بصلة إلى كنوز الذاكرة الإنسانية الموروثة وما يتصل بها من أساطير وشعائر.
بعدها قدمت سميرة لغويل مداخلة تحت عنوان: (علم نفس الأنا أنموذجا للتحليل النفسي)، ركزت فيها على التطور التاريخي لعلم نفس الأنا بدءاً بعلم نفس الأنا الفرويدي ووظائف الأنا، وصولا إلى بعض رواد علم نفس الأنا المحدثين: (هارتمان، أركسون..).
أما علية بيبية، فحاولت تحليل: (السياق النفسي في قصة سيدنا موسى عليه السلام)، مبينة كيف كشف القرآن الكريم عن حقائق نفس الإنسان من خلال تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صورة حسية والسير على طريقة تصوير المشاهد والحوادث. وللقصة القرآنية جوانب نفسية كثيرة تساعد على فهم متكامل للنفس الإنسانية في أبعادها الجسمية والإدراكية. وقصة سيدنا موسى عليه السلام تنكشف فيها السياقات النفسية المتعددة. والسياق النفسي هو ما يحيط بالكلمة من شحنات عاطفية وانفعالات، ويتم التركيز فيه على حالات وجدانية وانفعالية في القصة، والمتمثلة في التسلط والطغيان (فرعون)، والفرح والسرور (أم موسى) والخوف (موسى وأمه) والاطمئنان (موسى وهارون).
وقد قدمت وردة مسيلي دراسة تحلل فيها (بنية المثل الشعبي القسنطيني: مقاربة بسيكو ـ لسانية). وفيها كشفت عن إمكانات علم النفس العام في استخراج القوانين العامة للسلوك التي تزخر بها الأمثال الشعبية بمضامينها العديدة والمتنوعة وآلياتها النفسية الدفاعية: (الكبت، التبرير، الإسقاط، التقمص) والقيم التي تروج لها (كالاستقلالية والانصياع والاتكالية والموقف من المرأة والجماعات القومية والدينية والطائفية).
وفي سياق التحليل النفسي للشعر، قدمت بدرة فرخي مداخلة بخصوص: (النقد النفسي وإشكاليات التأويل: قصيدة بعد عام لناصر الدين الأسد نموذجا)، استهدفت الكشف عن آليات التحليل النفسي في النقد الأدبي وأهم إشكالات التأويل على مستوى القراءة المتخصصة التي ستفصح عن حقيقة المنهج النفسي في تحليل النص وشرحه، وذلك بتبني الطرح النظري لأبحاث كل من نورمان هولاند ممثل مدرسة بوفالو وبخاصة عندما يطبق علم نفس الذات في درس الأدب، وهارولد بلوم الذي ارتبط بالفكر الفرويدي ومدرسة ييل للتفكيك، وشوشانا فلمان في مرحلة ما بعد البنيوية التي أبدت تأثرا قويا بالتحليل النفسي عند دريدا ولاكان.
وفي مفتتح الجلسة الأولى من اليوم الثاني، قدم عبد النبي ذاكر بسطة حول: (قضايا التحليل النفسي للأدب في النقد ونقد النقد بالمغرب)، واقفا عند مستويات المعالجة النفسية للأدب سواء في نقد النقد(من خلال دراسات عبد العزيز جسوس وحميد لحمداني وعبد الجليل الأزدي وبوسليخن) أو في النقد التطبيقي(من خلال أعمال حسن المودن).
إثره تناول محمد خيط قضية (النقد النفساني والنقد الموضوعاتي: حدود التفسير والتأويل)، واقفا عند العلاقة الملتبسة والمتداخلة بينهما، فبمنظور تصنيفي خارجي يمكن الحديث عن فروق جوهرية بين نقد نفساني سياقي خارجي ونقد موضوعاتي نصاني داخلي. إلا أن المنظور الإجرائي يضعنا في دائرة الحديث عن النص كمنطلق مشترك بين منهجين يتبادلان مساحات النظر النقدي في شراكة لا يشوبها نزاع رغم إفضائها إلى نتائج مختلفة.
وكانت مداخلة فيصل حصيد بعنوان: (الموضوع بين الوعي الظاهراتي والتحليل النفسي عند جان بّيير ريشار)، التي كانت مناسبة لبيان علاقة الظاهراتية بالتحليل النفسي في دراسة الموضوع كما تجلت في الوعي النقدي عند ريشار من خلال التحقيق في مجموعة مصطلحات تشكل جهازه المفاهيمي كالمعرفة والوعي والقصدية والظاهر والجوهر.
وبالفرنسة قدم سعيد سعيدي قراءة عميقة حلل فيها رواية لأمبيرتو إيكو. وقد حملت مداخلته عنوان: (La narration pendulaire dansrdquo;La pendule de Foucaultrdquo; drsquo;Umberto Eco). وتكمن أهمية هذه المقاربة في تحليلها النفسي لتقنيات السرد الروائي، ملتفتة إلى كيفية انكتاب السكولوجي في الروائي، بعيدا عن المضامين، قريبا من البنيات والصيغ وتكنيك الحكي.
وبخصوص (المكان والبعد النفسي)، حاول محمد الصالح خرفي إبراز دلالات النص الشعري المكاني وأبعاده النفسية في المتن الشعري الجزائري المعاصر. وقد سعى الباحث في هذه المداخلة إلى إبراز quot;المستوى النفسيquot; في نص المكان المتعلق بالوطن، لأن الوطن هوية وليس خريطة جغرافية وشهادة ميلاد، هو المنفى في الداخل والأمل في الخارج، والبؤرة المركزية التي تستقطب تفاصيل الحياة، لأن الشعراء يحملونه بداخلهم.
وفي إطار التحليل النفسي للرواية قدم حفيظ ملواني: (قراءة نفسية في سمات الشخصية الروائية ـ رواية زينب نموذجا). كما وقفت نوال بومعزة عند: (جمالية توظيف الرؤى وأحلام اليقظة في إبداع مبارك ربيع: رواية quot;بدر زمانهquot; أنموذجا ـ دراسة نفسية تحليلية). وقد كشفت الباحثة عن ملامح توظيف التحليل النفسي ومصطلحاته في الرواية المذكورة كالأحلام والتهيؤات وأحلام اليقظة، مما أثرى الرواية وأكسبها بعدا تخييليا واسعا يجمع بين الحقيقة والواقع كالتضمين والتناوب والتوازي من جهة، وتوظيف آخر تقنيات التحليل النفسي من جهة أخرى.
ومن خلال اللعب المسرحي وأساليب الفكاهة والسخرية، حللت الباحثة طامر أنوال: (الخطاب المسرحي عند فلاق ndash; دراسة نفسانية لـquot;الجمل الأخيرquot;).
وختاما أستطيع القول: إن المؤتمر قد حقق نجاحا كبيرا بوقوفه على مختلف مدارس التحليل النفسي، وبرصده وإفادته من آخر مستجداته، وإعمال مبضع التشريح في مختلف الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة والشعر والمسرح والرواية والحكاية الشعبية والمثل الشعبي واللوحة الفنية والقصة الدينية. كما كان الملتقى مناسبة لمراجعة السائد في النقد الأدبي النفسي في الوطن العربي، واقتراح البدائل، واستشراف الآفاق الممكنة، ومناقشة العطاءات الغربية في هذا المجال بدءاً بتحليل quot;لاوعي المؤلِّفquot; أو quot;لاوعي الشخصيةquot; مع فرويد وأتباعه، مرورا بـquot;لاوعي النصquot;مع جان بيلمان ـ نويل، وانتهاءً بـquot;لاوعي القاريءquot; مع بّيير بايار. لقد كان الملتقى ـ بحق ـ فرصة للعبور من quot;تطبيق التحليل النفسي على الأدبquot; إلى quot;تطبيق الأدب على التحليل النفسيquot;، والخروج بخلاصات ومفاهيم تُعدُّ قيمة مضافة تجلبها خصوصية النصوص العربية عند احتكاكها بأدوات التحليل النفسي.
التعليقات