فاضل الخياط: ... يدفعُ الأبُ بمرديّه المشحوفَ... يجلسُ في مقدّمته طفلٌ في الخامسة مِنَ العمر لعلـّه ابنُهُ الذي وجَدَه ذاتَ يومٍ ملفوفاً في صُرّة تحملُها امرأةٌ أرختِ الحطبَ الذي أدمَى ظهرَها الى الارضِ... وتقف عليه ذبابة كلبٍ كبيرة زرقاء... يسمعُ الصبي صراخَ امرأةٍ تستغيثُ وهي تمدّ يدَها من اسفلِ الماء... يحاولُ الصبي انْ يمدّ يدَهُ هو الآخرُ كي ينتشلَها من الماء فينهرُه الرجلُ الذي يدفعُ المشحوف بمرديّه صائحاً به: عُدْ الى مكانكَ... دعْها تغيبُ في الماء فهيَ محضُ جسدٍ ميـّت منذُ دهر طويل... انظرْ الى وجهها فهوَ بلا عينين ولكنْ حاذِرْ انْ تُحدّق طويلا فيه فقد بَلغـْنا مكاناً ليس فيه من احَدٍ حيّ سوى انا وانتَ... اظنني قد اضعْتُ الطريقَ... فكلّ ما تسمعُه مجرد صدى لصيحاتٍ اطلقـَتْها كائناتٍ قبلَ انْ تموتَ ميتتَها الابدية وكلّ ما تراهُ مجرّدُ ظلالِ صور لكائناتٍ غائبةٍ... لوْ امسكتَ بها فلنْ تقدر على رفعِها بلْ هي مَن سيهبطُ بكَ الى القاع... يظهرون في الليل علـّهم يجدونَ يداً يمسكونُ بها او تـُمسكُ بهمْ هيَ كيْ تَبعثَ فيهم بعضَ الحياة القليل من الحياة باقلّ مِنْ رَمشة عينٍ على قدر ما يكفي لقبضِ رجفةٍ مِنْ هواء لإطلاقِ زفرةٍ محبوسةٍ في الصدر لمْ يقدروا على تحريرها قبل موتهم بلحظاتٍ فبقيتْ عالقة بين الرئة والشفاه ثم يعودونَ فيموتونَ مرةً أخرى ويهبطونَ الى القاع في الصباح قبلَ انْ يلامِسَهم ضوءُ الشمس ويجعلُهمْ غباراً او قطراتِ ماء... ثم يدفعُ الرجل بمرديّه المرأة وقبلَ انْ تَغيبَ في وجه المياه تـُُلقي كمَنْ يستغيثُ ولا يغاثُ كلاماً غريباً يتذكّر الصبيّ نثاراً منه: إيهٍ منكَ... انتَ يا مَنْ منعْتَ يدكَ عنـّي ولمْ تحملني... اذهبْ بعيدا.. فانكَ... لن تقدرَ على العيش معَ احدٍ من البشر بعد اليوم... حتى ولو كان اباً لكَ أو امّاً او أخاً او اختاً او شيئاً من ذلكَ... لقد القيتُ نـُذري عليكَ فأنتَ الانَ محررٌ... وَوقـْفٌ لي... مدى الحياة... وكلـّما تلامسُ احداً من البشر ستنمو الطحالبُ والديدانُ في يَديكَ وفي عظامكَ وفي شفتيكَ... ويأكلُ قلبَـكَ الوجعُ والخوفُ والغثيانُ وشهوةُ الحَيَرانِ ومنازلُ العَتـَه والغيابِ والنسيان وشيئ آخرُ دونَ ذلك او مِنْ فوقه... ستعيشُ وحيداً... وتموتُ وحيداً... على سريرٍ حديديّ يجرّه حصانان احدُهما ابيضُ بغرة سوداءُ في جَبينه والآخرُ اسودُ بغرّة بيضاءُ... ثم تَبحثُ عن يدٍ تناولكَ قدحاً مِنَ الماء قبلْ انْ تلفظَ آخرَ نـَفسٍ لديكَ... ولكنْ هيهاتَ لكَ ذلكَ وبيهاتَ... طالما اهملتَ يديْ التي... واصغيتَ لصوتِ ابيكَ.
وحينَ مضى وقتٌ من الدهر وامسى الصبيّ رجلاً... كلّما لامسَ احداً من البشر نمَتِ الطحالبُ والديدانُ في يَديه وفي عظامه وفي شفتيه وأكَلُ قلبَه الوجعُ والخوفُ والغثيانُ وشيئ آخر دونَ ذلك او مِنْ فوقه ولم تنفعْ معه... لا ادويةُ الاطباء ولا الرقى ولا التعاويذُ التي سقاه بعضاً منها رجالٌ من اهلِ العلم وربطوا بعضاً منها في ذراعيه.
لقد عاشَ ذلك الصبي حياته كلها مثل سامريّ مبهوتٍ ومنهوكٍ في بيتٍ لابابَ فيه ولا سقفَ ولا جدرانَ ولا شبابيكَ ولا شموع... وانتهى آخرَ الامر وحيداً في آخرِ الارض مطروحاً على سريرٍ حديديّ يجرّه حصانان... وقبلْ انْ يلفظ آخرَ نـَفسٍ لديه التفتَ باحثاً عن يدٍ تـناولُه قدحاً مِنَ الماء... ثم رأى حُلما في المنام يسأله انْ يتوكأ على عصاه وانْ يَركبُ مشحوفهُ ويَدفعه بمرديّه اوّل الليل قاصداً تلك المياه التي... وحين بلغَ المكانَ رآى المرأة ذاتَها على الحال ذاتِها فقالَ كمَنْ مسّته نار: وَيْ... اما تزالينَ ها هنا ولمْ تهلكي بعدُ... وقبلَ انْ تقول شيئاً ما... مَدّتْ يدَها اليه واذْ يحاولُ رفـْعَها تنقطعُ يدُها في قبضتهِ لتصيرَ رشـّةَ حفنة ٍ من الماء تندلقُ على ثيابه ثم ينظرُ في الماء فلا يرى سوى عينين سوداوين تتماوجان مع الماء فصاحَ مذعورا: هَيْ... لقد كنتِ بلا عينينِ اذْ ذلكَ اليومَ... هل تذكرينَ... فقالتْ: نعم ولكنّ قبضة ً من يديكَ القتْ على وجهي ما تراه فمَرحى لكَ وسَرحى... الآنَ أبْريتَ نـُذركَ وأوفيتَ دَيْنـَكَ هَيْتَ لكَ وَبَيْتَ لكَ... هوَ كذلكَ... سأمضي الآنَ تحتَ المياه الى مكانٍ بعيد لا عودةَ منه ابداً... أمّا انتَ... فاذهبِ الآنَ وعدْ الى حياتكَ صبياً في الخامسة من العمر... فأمامَكَ الكثير من الحياة....وقبل ان تنهي كلامها سَمعَ الصبيّ صوتَ ابيه الذي وجدَه ملفوفا في صرة تحملها امرأة... وهو يلكزهُ بالمردي قائلا: هَيْ... يا ولدْ... قلتُ لك حاذرْ انْ تحدّق طويلاً في عينيها.
- آخر تحديث :
التعليقات