الكتابة جنّتي المفتوحة على شهيقِ اللَّيل
صبري يوسف: كيف أبدأُ، وكيفَ أنتهي من كتابةِ القصيدة؟!
كيف أبدأ بكتابة القصيدة؟! لا أدري، وكيف أنتهي؟ لا أدري أيضاً، لأنَّني لا أنتهي من كتابة القصيدة أصلاً، لهذا نصوصي مفتوحة، وهذا ما قادني إلى التَّفكير بكتابة نصٍّ مفتوح، أنجزت منه قرابة ألف وثلاثمائة صفحة حتى تاريخة، وقد أنجزتُ الأجزاء الثَّمانية منه (800 ص) ونشرتها عبر الشَّبكة لكن بقية الأجزاء أصيغها وأبوِّبها كي أدرجها في سياق النصِّ المفتوح، بحيث تأتي الأجزاء بشكلٍ انسيابي!
نَفَسي في الكتابة طويل، تتدفُّق رؤاي وأفكاري وصور القصيدة غالباً بشكل عفوي وغير مقصود، فأحياناً أكتب نصّاً ما عن موضوعٍ ما، لكني سرعان ما أجنح بعيداً عمّا بدأتُ به وأتوه في عالم جديد لا رابط يربطه بما بدأت به وأترك العنان مفتوحاً لمخيلتي، فأنا من طبعي أحبُّ الحرية في الكتابة، حرّية بلا حدود، وبلا أيَّة قيود، حيث أنَّني أثناء لحظة الكتابة لا أفكِّر بأيّ عائق أو رقيب أو حسيب، أكتب بشراهة مكتنزة بالطيران، خاصّة بعد أن استخدمت نظام الوورد، الكتابة عبر الكومبيوتر، وأكثر من تسعين بالمائة من نصوصي خلال السنوات الأربعة الأخيرة كتبتها مباشرة على الكومبيوتر بدون أية مسودات لها، وأعود وأصيغها من جديد فيما بعد، وأحياناً كثيرة، تتغيَّر القصيدة أو النصّ أو القصّة أثناء صياغاتها، وأحياناً أخرى تولد فكرة من الفكرة التي أكتبها، فأكتب الفكرة الجديدة على قصاصة جانبية كي أعود إليها وأنسج منها نصَّاً جديداً، قصةً كانت أم قصيدة.
الكتابة هي زادي الثمين في الحياة، أكتب أحياناً ساعات طويلة، ساعات متواصلة يتخلَّلها استراحات خفيفة جدّاً، لكني أعود قبل أن أستريح وأنسج ما يغلي في داخلي، غليان حقيقي، نزيف شعري مهتاج في كينونتي، أفرح فرحاً انتعاشياً عندما أنجز النصّ الذي بين يدي، عندما أتفرَّغ من كتابته أتركه مفتوحاً لكني أنهيه عند نقطة مضيئة على تخومِ السُّؤال، عند جملة متراقصة بين أحضان القارئ، وأرقص كطفلٍ شاهدَ فجأةً لعبةً ثمينة!
يحتاجُ أيُّ عملٍ إبداعي على أيِّ صعيد كان إلى نوعٍ من العشقِ العميقِ، أشبه ما يكون بالترهبن! أنا لا أؤمن بمبدإِ الرَّهبنة بمفهومها التقليدي إطلاقاً، لكن الرَّهبنة من حيث العطاء في مجال إبداعي ما، تعجبني إلى حدِّ النِّخاع! وهكذا تبدأ نصوصي من حيث لا أدري وتنتهي من حيث لا أدري أيضاً، لكن الذي أدريه هو انني أشعر وكأني مختطف إلى واحات فرحيَّة عشقيّة أشبه ما تكون ببساتين جنان النعيم، لا أشبع من الكتابة مثلما لا يشبع العابر إلى جناتِ النَّعيم من النَّعيمِ، الكتابة جنّتي المفتوحة على شهيق اللَّيل، لهذا أراني سعيداً رغم شظف العيش الذي عشته وأعيشه، وأقولها علناً وبدونِ أيَّةِ مواربة، لولا الكتابة لما تمكّنتُ أن أصمدَ في وجه غربتي وفي وجه عذاباتي وفي وجه الظروف القاسية التي مررتُ بها وما أزال أمرُّ بها في سماء غربتي، وغربتي هي صديقتي الدًّافئة، لأنني عقدت معها معاهدة ودّية فسيحة، هي وهجي المتنامي فوقَ مرابعِ الحرفِ، لا تُقلِقني غربتي ولا انكساراتي، ولا هزائمي، أراني قويّاً في ضعفي، أزداد شراهةً في العطاء، شراهتي لا يرافقها شبعاً من بوحِ الكتابة.
همّي الوحيد وهدفي الوحيد في الحياة، هو التفرّغ كلّياً للكتابة والأدب والقراءة والفنِّ والعطاءِ، أشعرُ أنَّ هناكَ طاقاتٍ كامنة في أعماقي تحتاجُ إلى عوامل دافئة لاِدلاقها فوقَ مروجِ المحبَّةِ ووجنةِ القمرِ، كتبتُ مؤخَّراً قصصاً وقصائد، كانت أفكارها تراودني مثل الغمام منذ عقودٍ من الزَّمان.
ذاكرتي محفوفة بعبق الطفولة، واليفاعة والشباب، تتلألأ أمام ناظري محطات العمر التي قضيتها في ديريك بكل أتراحها وأحزانها، وغربتي! آهٍ.. يا غربتي المتهاطلة مثل بخورِ القصائد، أكتبُ أحياناً نصوصاً في الحلم، وعندما أنهض، أنبشُ خفايا الحلمِ، يتراءى لي الحلم سديمياً، ألتقطُ ما يمكن التقاطه ثم أغوصُ في حلمِ اليقظة والذاكرة البعيدة، أفرشُ خيالي بكل تلألؤاته فوقَ خيوطِ الحلمِ، تتراقصُ أحلام اليقظة مع أحلامِ النَّوم العميقِ ثم تسبحُ فوقَ رحابِ الخيالِ المتماهي مع تدفُّقاتِ خرير الذاكرة، أتركُ الحصادَ مفتوحاً لتماوجاتِ قلمي وأقطفُ ما يتّسعُ لحفيفِ القلمِ، دائماً أجدني غير قادر على لملمةِ جموحاتِ القصائدِ، الكتابةُ عاجرةٌ على ترجمة حالة الغليان، أقطفُ نصيبي من تواشيحِ الجموحِ وأتركُ ما يتوارى في خفايا حلمي، حلمي غير قابل للإمساكِ، لأنه يتشظّى مثل اِندلاعِ شراراتِ النَّيازكِ! آخذ ما يتناغمُ مع حفاوةِ حرفي وأتركُ ما يتوارى لما تبقّى من الزَّمنِ، ويراودني دائماً، هل سأستطيعُ عبرَ زمني الآتي، أن ألملمَ هذه الومضات الهاربة، وأفرشها بهدوءٍ حميم فوقَ هديلِ اللَّيلِ؟!
ستوكهولم: 7. 3. 2007

الكتابةُ شهقةُ عشقٍ مندلقة من خيوطِ الشَّمس!

أخبّيء كلّ يوم عشته في ربوع ديريك في حنايا غربتي وأنقش توهُّجاتِ الذَّاكرة البعيدة فوق حبقِ الشِّعر، زادي في الكتابة هو سهول القمح وبراري المالكية، وأزقَّتي الطِّينية التي غُصْتُ فيها حتّى مفاصل الرُّكبة، إلى أن امتزجت تلكَ الأكوام الطّينية في شهيقِ الشِّعر وفي رحابِ الحلمِ!
أكتبُ كي أترجم بعضاً من موشور طفولتي وفتوّتي وشبابي وغضبي من اعوجاجات هذا الزَّمان، لأنثرَ تواشيح حبري فوق غيمةٍ ماطرة، لعلّها تهطلُ فوقَ بيادرِ العمرِ زهوراً من نكهةِ الياسمين!
الحياة تغدو أحياناً وكأنّها أفعى غليظة ملتفّة حولَ عنقي، تبدو أقصر من جموحي، ممّا يراودني، تحاصرني في كلِّ حين، تفجِّر في أرخبيلاتِ الرُّوحِ طاقاتٍ هائجة، وكأنّ هذه الطَّاقات متأتّية من زمنٍ سحيقٍ، طاقات عالقة في اخضرارِ الخيال، الحياة غمامةٌ عابرة، بسمةُ طفلةٍ في صباحٍ نديٍّ، ضحكةُ الرَّبيعِ عندما يستقبل نسائم عليلة من أعالي الجبالِ، لا نملكُ في الحياة سوى رجرجات هذا العمر القصير! كم يغيظني لأنَّني لا أعيش قروناً من الزَّمان. أشعر في أعماق الحلم، حلم اليقظة واليقين، أنَّ هناك براكين من الرُّؤى والأفكار والنّصوص والقصائد والألوان تتماوج في رحاب المخيّلة الهائجة مثل شلالات هاطلة من خاصرة السَّماء، نعم يغيظني أن لا أعيش قروناً من الزَّمانِ، لأنَّ عمرنا القصير الذي نعيشه لا يكفي إلا لترجمة بعضاً من زنابق عشقي للحياة، لا يكفي أن نغوصَ عميقاً لنترجمَ ما يعترينا من الدَّهشةِ، دهشةُ الذُّهولِ من دورانِ الكونِ، من سطوعِ برعمٍ فوقَ تكويرِةِ النَّهدِ، متى سأكتب هذه الجبال الشَّامخة نحو أبراجِ الصُّعودِ، صعودُ الرُّوح نحو بخورِ الصَّفاءِ!
وحدها الكتابة تخفِّف من تخشُّباتِ ضجري، وحدها الكتابة تمنحني ألق العشق، وحدها الكتابة تبدِّدُ من صقيعِ غربتي، وحدها الكتابة تمنحني بهجة الهدوء وخصوبة الرُّوح، وتفتح شاهيتي على محراب العناقِ، وحدها الكتابة تغمر صباحي شهقة السموِّ، وحدها الكتابة تنقش فوق هلالات الحلمِ حبق التجلّي، لا يهمّني إن عشتُ قروناً، أو بضعة شهور، فالزَّمن مهما طال هو مجرَّد زمن متناثر فوق خميلةِ الحياةِ، وحدُها الكتابة تبقى ساطعة فوقَ مفاصل البقاءِ، وحدها الكتابة تمنحني نكهةَ العشقِ على امتدادِ الكونِ.
هل كنتُ يوماً يخضوراً فوق جبينِ الطَّبيعةِ ولا أدري، هل سأتحوّل يوماً إلى نجمةٍ متلألئة في ظلمة اللَّيل، أو فراشةٍ ملوّنة ببهجةِ الانتعاش؟ هل كنتُ يوماً ما وردةً متراقصة على تخومِ المحبَّةِ، أم أنَّني كنتُ شهقةُ عشقٍ مندلقة من خيوطِ الشَّمسِ؟! هل يوجدُ على وجهِ الدُّنيا أحلى من بسمةِ الحرفِ وهو يتمايلُ فوقَ أغصانِ الخمائلِ، خمائلُ الكونِ باقاتُ فرحٍ إلى بني البشر. هل نحن البشر حروفٌ متطايرة من دفءِ الشَّمسِ أم أنَّنا خيوطُ نيازكٍ متدلّية من عيونِ السَّماءِ، ما هذا التوحُّدُ اللَّذيذ مع زخّاتِ المطرِ؟ ربّما كنتُ في غابرِ الأزمان غيمةً ماطرة ولا أدري، وإلا فما هذا الشَّوقُ البهيج إلى حبّاتِ المطرِ؟! تساؤلاتٌ هائجة تراودني، أشبه ما تكونُ بتلاطماتِ أمواجِ البحر، تبتسمُ عروسُ البحرِ تحتَ اهتياجِ الأمواجِ، لماذا لا يعقدُ الإنسان صلحاً مع ذاته، مع ضياءِ البدرِ لعلّه يزدادُ سطوعاً أكثر من هالةِ البدرِ؟! هل نحنُ سنابلُ قمحٍ منثورة فوق خصوبةِ الكونِ، أم أننّا نغمةُ حنينٍ منبعثة من تلألؤاتِ النُّجومِ؟!
لم أجد على وجهِ الدُّنيا أجمل من حبقِ الأنثى، من بهاء الأنثى، من شهقةِ الأنثى، من نكهةِ الأنثى، هديةٌ متهاطلة من بياضِ غيمةٍ حبلى بأريجِ النّعناعِ ويخضورِ الحياة! الأنثى شجرةٌ مزنّرة بندى اللَّيلِ وشموخِ النَّهار، صديقةُ الرِّيحِ ونسائم الصَّباحِ، وردةٌ تائهة فوقَ موجاتِ البحر، الأنثى صديقة البرِّ، تسترخي بين رحابِ الحلم، فوقَ نداوةِ العمرِ، لغةٌ دافئة مندلعة من تلاوينِ الضِّياءِ، تتراءى أمامي الآن مثل الغمام أمنيات كثيرة، كانت تنتابني فيما كنتُ ألهو فوق أراجيحِ الطّفولة، أمنيةٌ رافقتني طويلاً منذ أن كنتُ أركضُ حافي القدمين في أعماقِ الأزقّة، أمنيةٌ لا تخطر على شطحاتِ خيال الجنِّ، هل تقمّصني جنّيٌ يهوى العبور في صفاءِ السَّماءِ مخلخلاً أشواكاً عالقة بين مويجاتِ الغمِّ، وإلا فما هذه الأمنيات المفتوحة على اهتياجاتِ اليمِّ، أمنيةٌ لا تنـزاحُ من تجاعيدِ الذّاكرة المحفوفة بالغرائبِ، ذاكرة متألِّقة بين أغصانِ الطُّفولة، ذاكرة مبرعمة في نصاعةِ جموحِ الخيال، أكبرُ فيكبرُ همّي وتتقلّصُ أغصانُ الأمنياتِ!..
الكتابة نسائم بحرٍ منعشة، تهبُّ عندَ الغروبِ، تسطع عند بزوغِ الفجر، صديقة البراري وهمهماتُ اللَّيل، الكتابة عطشٌ مفتوح نحو ينابيعِ السَّلامِ، حالةٌ متجلّية بحبورِ الانتشاءِ، نعبرُ جهةَ البحرِ وخلفنا ذاكرة محمومة معفّرة بالرّمادِ، مَن يستطيع أن يزرعَ فوقَ خدودِ الشَّمسِ شموعَ المحبّةِ ويسقي نبتةَ الحياةِ؟ زلازلٌ مهتاجة تنمو، تنفرشُ فوقَ معارجِ الحلمِ، يهفو قلبي إلى بيادرِ ألعابِ الطُّفولةِ، إلى أريجِ سهولِ القمحِ، إلى صحارى العمرِ، ما هذه الخشونة المتشظِّية فوق معارجِ العمرِ، لماذا لا يبني الإنسان محطاتِ فرحٍ عندَ تخومِ الرّوحِ، كيف تتحمّل الرّوح كل هذه المنغصّاتِ؟ ثمّة تساؤلات تزدادُ نموُّاً فوقَ تلألؤاتِ الحلم، وحده قلمي ينقذني من اندلاعِ الاشتعالِ، يخفِّفُ من ضجرِ اللَّيلِ وبكاءِ النَّهارِ، وحده حرفي صديق غربتي وكلّ الكائنات، موجة فرحٍ تعبرُ وجنة الشَّفقِ، فأضحكُ وإذ بي أراني في أعماقِ الحلم، متى سأعبرُ على متنِ سفينة الحبِّ لجينَ البحرِ، معانقاً زهرةً مستنبتة من زبدِ البحر، مرشرشاً رذاذات دفئي فوق رعشةِ العشق وأمواجِ الرَّحيلِ؟! غربةٌ مريرة تغمرُ صدرَ الكونِ، وحدها الكتابة تبدِّدُ جهامةَ النَّهارِ، تمنحني ألقَ الشَّوقِ إلى مرافئِ العمرِ، إلى ربوعِ دفءِ المساءِ، تفتحُ شاهيتي على موسيقى متناغمة مع حفيفِ اللَّيل، فيروز تكحِّل حرفي طزاجةَ العسلِ البرّي، تمنحني بهاءً مكتنفاً بالتجلّي، فيروز أغنية منبعثة من رحمِ البحرِ، موجةُ فرحٍ منسابة فوقِ بخورِ الرُّوحِ، صوتٌ مدبّقٌ بأريجِ الزَّهرِ، تغريدةُ بلبلٍ في أوجِ الرَّبيعِ، فيروز صديقة وجعي وبهجةُ قلبي، تزرعُ في خيوطِ الصَّباحِ روعةَ الشَّوقِ واخضرارَ العناقِ!
ستوكهولم: 8. 6. 2005

الحرفُ توأمُ اللَّونِ

ما أزال غائصاً بقصصي ونصوصي ولوني وشعري وغربتي، أكتب شعراً من وحي البكاء، من وحي انسلاخِ الذاتِ عن الذاتِ، تاه الإنسان عن معراج الخلاصِ.
أرسم فرحاً رغم أنفِ الضَّجرِ، لا أعرف أن أرسم إلا فرحاً، عشقاً، حبّاً، وردةً، زهوراً برية.. حنينُ الكرومِ لا يفارقُ لوني، والسنابلُ تغمرُ مروجاً ممتدَّة على مدى العمر!
هبطت عليّ رغبة العبورِ في عوالم اللَّونِ، فغدا الحرفُ توأمَ اللونِ، وبدأت أكتبُ شعري بالحرفِ تارةً وباللونِ تارةً أخرى!
لملمتُ أوراقي، وفرشت شهوةَ الحرفِ فوق قبّةِ الحنين، لا شيء يعادل عبق الإبداع في دنيا من رماد، وحدها الكلمة تعيد إليَّ ما تبقّى من بريقِ الحياةِ، تغدو جميلة رغمَ غبارِ الحروبِ، رغم أنياب الحيتان المتنامية مثلَ اللبلابِ، حيتان هذا الزمان أكثر ضراوةً من حيتان البحر، تشبه لونَ الجنونِ، عجباً، كيف يتحوّل الإنسان إلى ورقة في مهبِّ الحرب، ورقة خلف متاريس الحرب، كلمة فاقعة في كهوفِ التاريخ، لستُ راضٍ عن سماكاتِ مخيخِ الإنسان، جنوحٌ نحو دهاليزِ الموتِ، موتٌ على قارعةِ الطريق، موتٌ عندَ الصَّباحِ، عندَ المساءِ، موتُ على مدارِ اليوم، موتٌ حتّى في رحابِ الحلمِ، أين المفرُّ من تفريخِ عُصيّاتِ الموتِ الزؤامِ؟!
آهٍ وألفُ آهٍ من زمنِ التنانينِ، براكينُ الدِّماءِ تجري فوقَ وادي أولى الحضاراتِ، رفعَ جلجامش رأسه من قبرِ الخلودِ، فرأى الأنسَ تنطحُ بعضها كأنها من فصيلةِ الذئابِ، من طيشِ القرودِ، تطورٌّ انزلاقي نحو قاعِ الفسادِ، فسادُ متونِ الهرمِ، فسادُ الأغصانِ، فسادُ الرؤى في أعماقِ الجذوعِ، فسادُ البناء، فسادُ الهواءِ.
وجعٌ يتنامى في سماءِ حلقي!
تخلخلت هامات الجبال وبكت زرقة السماء، هربت الكائنات بعيداً، لاذت الفرار في أعماقِ الفيافي، وجدَتْ سلوى مع همهماتِ اللَّيلِ بينَ ربوعِ الصَّحارى، صحارى القلب تفاقمت رغم اخضرار المروج، اندلعت موجات حزنٍ فوق مآذن الشرق، ودقّت نواقيس الأنين، أنين الرُّوح وأنين الرحيل، رحيل الطفولة، رحيل جبابرة القوم، عفواً هل ثمة جبابرة في هذا الزمان، زمنٌ مكتنزٌ بلفافات مبقّعة بأسرارِ الفناء، فناءُ مروجِ الخير، فناءُ أواصرِ المحبّة، ودادُ الوفاء، فناءُ حبق الأزاهير، زمنٌ يزدادُ هشاشةُ من غلاظةِ جبينِ الطُّغاةِ، من تفاقمِ رعونةِ الصولجان، زمنٌ يترنّحُ مثل السكارى، ينزلق من شدّة الغباءِ فوق روث البقر، جنونُ البقرِ انبعثَ من جنونِ البشرِ، ما هذا القحط الذي أصاب رؤى قادة القومِ، قادة من لونِ اصفرارِ العقاربِ، من لونِ البعوض وبقايا جنونِ الغضبِ، ما هذا الورم المتضخِّم في فروة رؤوس ساسة هذا الزمانِ، دُخنا من هدير الحروب، من نشرات الأخبار، من مخالبِ العصر، دُخنا من جشاعةِ أصحابِ الصولجانِ!
متى سيفهم المرءُ أن مساحةَ العمر تضيع في متاهاتِ الحروب، نشبه دمعةً أو بسمةً عابرة في ربوعِ الحياةِ؟!
متى سيفهم المرءُ أن جمالَ الحياةِ، يكمنُ في بسمةِ طفلٍ، في نضارةِ وردةٍ، في وهجِ عشقٍ، في زخّةِ مطرٍ، في نقاوةِ بحرٍ، في تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ، في مصالحةِ الإنسان مع أخيهِ الإنسان، في مصالحةِ الإنسانِ مع خفايا البرّ والبحرِ وأجرام السماءِ، في وئام البشرِ على مساحاتِ جغرافيّةِ الكونِ؟!

ستوكهولم: 1 ـ 7 ـ 2007

الشِّعر رحلةُ عناقٍ مع العشب البرّي

الشِّعر صديق غربتي الفسيحة، وهجٌ منبعثٌ من نداوة الرُّوح، بحيرة حنان آمنة على مرّ الأيام والشهور والسنين، براعم مزنّرة فوق قبابِ الحلم، وحده الشعر قادر على السباحة عبر السديم، عبر العواصف، عبر النسيم العليل، الشعر صديق البلابل والزهور البرّية، صديق عاشقة من ضوء منبعثة من زرقة السماء، الشعر وحبق العشق توأمان، الشعر أسبق من اللغة، صديق منصهر بخبايا اللغة، وسيبقى بعد رحيل اللغة لأنه ينبع من خصوبة الحياة، هو الحياة بعينها!..
يمنح الشاعر الحياة رحيق عمره، راغباً أن يزيّن وجه الضحى بالياسمين، يحاول دائماً أن يغسل عذابات الطفولة بدموع القصائد المتناثرة من خاصرة السماء، يمسح أحزان الكهول، عابراً مخابئ الهموم ليلملم أنيناً مندلقاً من ضجر الأيام ويبدّده بين تلافيف الريح، يمسك محبرته متحدِّياً اعوجاجات هذا الزمان، محاولاً إعادة صياغات البسمة على وجنة الليل، دائماً في عراكٍ مع ذاته المندلعة بنيران طغاة هذا العالم، وحده الشعر يمنح نشوة ولادات القصائد، يحلّق عالياً كنسرٍ قويّ الجناحين، مرفرفاً في قبّة السماء، يعانق نجمةً متلألئة كلون الفرح!

الشعر هو بوّابة خصبة، غنيّة أبهى من اخضرار الربيع، الشعر ترتيلةُ حبٍّ تنشدها فيروز، إيقاع متصالب مع بهجة الطبيعة، وتغريد البلابل في عزّ الربيع، الشعر حلمٌ منعش مفتوح على أغصانِ العاشقة، سديمٌ معطَّر بالبخور، قنديلٌ مصهور من خلاصة العسل البرّي، يضيء برزخ الروح، الشعر حركةُ باشق محلّق فوق خمائلِ النجوم، صلاةُ ناسكٍ منعزلٍ في كهفٍ طافحٍ بالانتعاش، عطشٌ أزليّ لا يروي ظمأ القلب..الشعر يزيدُ جموح العاشقة توقاً لإرواء غليل الحنين إلى شهوة الارتقاء!.. الشعر حالة قلقٍ متشظِّية من زخّات المطر.. هاطلة من عيون السحاب على غبطةِ المكان!.. هاجسُ وردة معطّرة بالطلِّ، تريدُ أن تباركَ خصوبة الأرض!
الشعر صديق راقصات الباليه وحبق موسيقى البحر المنبعثة من هسيس كائنات مشتعلة بالشوق على إيقاعات هداهد العشق!.. الشعر لغة مفهرسة بعذوبة السماء، بنكهة النّعناع المنثور حول قبّة المحبّة، حالة انتعاشٍ نحو الأعالي، لمعانقة نقاوة عبق اللَّيل، الشعر نداء وردة محشورة بين أنياب الضواري، تريدُ الخلاص من خشونة الرياح!.. مغامرة عاشقٍ للغوص في أعماقِ البحار، لإنتشال عاشقة من لونِ المحار!.. الشعر صديق وحدتي.. حالة انتشاءٍ في دنيا من ضجر!

الشعر كائنٌ بريء لأنّه يولد من رحاب الطفولة، صديق الكائنات كلَّ الكائنات،..يتداخل مع خيوط العمر من أجل أن يمنح القلب خصوبة الحياة، ومضة فرحٍ فوق قبّة الأحزان، بركةٌ هاطلة من خدود الشمس، صديق روحي المتدفّقة فوق أغصان الصباح!.. رحيق الميلاد.. غابة خضراء تحطّ كالنسيم على أكتاف الطفولة، الشعر واحة مرحِّبة بأنين القلوب المكلومة.. لتبلسم جراحات الليل والنهار، يتعانق الشعر مع جموحِ العقل والروح وبهجة الإنتشاء!.. الشعر توأم الروح.. جمرة مشتعلة في حدائق الأحلام لتضيء بهجة العمر على أنغام اخضرار أنشودة الحياة!
لا أظنُّ يا صديقتي أنَّكِ تهربين من الشعرِ، ولا أظنُّ أنَّ الشعرَ يهرب منكِ أو إليكِ، أنتِ والشعر يا عزيزتي صديقان متعانقان إلى حدِّ الاسراف، تتوهين أحياناً عن فراديس الشعر، عابرةً أحزان الروح، ململمةً جراحات الأيام والشهور والسنين، لا تصدِّقينَ أنّكِ أنتِ التي عبرتِ محطّات عمركِ المبعثرة حزناً إلى حدِّ السبات، إلى حدِّ النوم تحت عجلات آلام هذا الزمان، ألم يخالجكِ أحياناً كثيرة أنتِ لستِ أنتِ؟!.. أنَّكِ أنَّاتٌ على خارطةٍ من بكاء!.. أن تكوني أنثى من هناك، يعني أنَّكِ مُتخمة بأحزان الصباح، متشظّية بأحزان الليل والنهار!.. أن تكوني أنثى من لون الربيع، في زمنٍ من رماد، فلا بدَّ أن يقطعوا جلاوزة العصر أوتار صوتكِ، وتسافرين عبر مدنٍ أكلتها الريح وجرفتها أعاصير الحلم في دنيا تتعانق فيها الكوابيس!.. حنجرتكِ غير متخمة بالاوجاع فقط، بل مبرعمة أيضاً بأشواكٍ لا تخطر على بال، مبرعمة بأنهارٍ من الحنظل!

نتصافح فوق أجنحة الغربة والمسافات، فوق أجنحة النسيم، فوق أجنحة الحياة، فوق أعاصير المحبّة، فوق دياجير الشوق إلى روحٍ تتلظّى من غدر هذا الزمان!.. إلى أصابعٍ مرتعشة وهي تخطُّ أحرفاً من بكاء، من دموع الأطفال والنساء والأشجار!.. أشجارنا تبكي يا صديقتي، وروحي هائمة شوقاً إلى أنشودة الحياة، غائصٌ الآن في كتابة نصٍّ مفتوح على فضاء الذاكرة المتصالبة مع غربة الإنسان مع أخيه الإنسان في هذا الزمن الأحمق!.. نصٌّ مندلقٌ من خاصرة الروح، جرفني معه في وهادٍ لا تخطر على بال الجنّ! آه.. يا عزيزتي، أنا القائل، quot;كم من الدموع حتّى هاجَت البحار!quot;.. قلبٌ متجذِّرٌ في دنيا من بكاء، ابن المسافات وأحزان الدنيا!
هل استيقظتِ يوماً واستنشقتِ وردةً ملء روحكِ؟ هل احتضنْتِ نجمةً وأنتِ غارقة في سماوات الحلمِ؟!.. هل عانقتِ حلماً من لون العصافير، من لون الفراشات، من لون الماء الزلال؟.. هل أنتِ معي أم أنَّكِ شاردة، تلوذين الفرار من خفافيش الليل؟

آهٍ.. حتّى أحلامنا مهشّمة من خشونة الطوفان الهاطل على قباب القلب من كلِّ الجهات، إنّه زمن الشعر يا صديقتي، الشعر هو ملاذنا الفسيح، هو كهفٌ آمنٌ بعيدٌ عن مرمى صولجانات هذا الزمان، واحةٌ مكلّلة بالندى تبعث في أعماقنا أهزوجة الحياة، الشعر يبلسم جراحنا الغائرة، صديقنا الحنون، غابةٌ مكتنـزة بالنرجس البرّي، الشعر حكمةٌ منشطرة من ذيلِ نيزكٍ على وجه الليل، بركة هاطلة من رحيق الغمام، مطرٌ متدفِّق من رحم السماء، قبلة شمسٍ في صباحٍ باكر، الشعر رذاذات تبرٍ صافٍ، أمواجٌ مرتسمة على بسمة الطفولة، رحلة فرحٍ على أكتاف المساء!
بعد قرنٍ أو قرون سيأتي شعراء يقودون هذا العالم، فشلت سياسات العالم، وفشلَت قيادات العالم بقيادة الكون، الشعر سيعيد صياغات هذا العالم إلى جادة الصواب، الشعر صديق النوارس والبحار، صديق الأرض والسماء، صديق الروح الجريحة، ماءٌ زلال يسقي قلوباً عطشى، الشعر بوّابةُ فرحٍ مفتوحة على أعشاب الجنّة، يتطاير من جناحيه وهج المحبّة، طفولةٌ مزنّرة بورودٍ متفتّحة حول سهول القلب، غذاء الروح، الشعر يطمس اليباس ويبدِّد المساحات القاحلة من الجسد، الشعر رحلةُ عناقٍ مع العشب البرّي، الشعر درّةٌ ثمينة في قاع البحار، يلتقطها الشاعر بذبذبات روحه ليقدِّمها إلى عاشقة من ضوء! لا تبكَي كثيراً يا صديقتي، من هنا أرى دموعَ فرحٍ، دموعَ شوقٍ إلى حنان الليل، إلى صديقٍ منبعث من وهَجِ الإنكسار، أرى ومضةَ عينيكِ، بسمةَ روحكِ، أوّلَ مرّة أرى بسمة الروح، بسمةٌ متطايرة من نسيمٍ نديٍّ، بسمةٌ طافحة بالعذوبة، بسمةٌ منعشة كتغريدِ البلابل، بسمة مسربلة مع دموع الأطفال وهم يعانقون أمهاتهم قبل أن يناموا في أحضان قبلة الصباح، غاليتي لا تقولي أهرب من الشعر، انّنا يا صديقتي نهرب أحيانا من ذواتنا، لكنَّ ذواتنا المفهرسة في ينابيع الشعر تلاحقنا أينما حللنا وأينما رحلنا، تدغدغ شواطئ الينابيع، فيهتاج حبق الشعر فنكتب بانتعاشٍ ما تمليه علينا خصوبة الروح، نرحل وتبقى نصوصنا متربِّعة على جدار الزمن كأنشودةِ الحياة..
quot;صديقتي!..
ويبقى الشَّوقُ إلى محيّاكِ
قصيدةً معلّقةً
بينَ أحضانِ اللَّيل!!
ستوكهولم
الشِّعرُ صديقُ روحي
وبهجةُ خلاصي من ضجرِ الحياةِ

الشِّعرُ حفيفُ نحلةٍ غارقة في ولادةِ العسلِ من رحيقِ الزُّهورِ، موجةٌ وارفة فوقَ أرخبيلاتِ العمرِ، شعاعاتُ فرحٍ منبعثة من تكويرةِ النَّهدِ، ولادةُ طفلٍ على إيقاعِ زخّاتِ المطر، لونُ البداياتِ وضياءُ النَّهايات، جنّةٌ مزدانة بالغزلانِ والبلابلِ المغرّدة تغريدةَ الرَّحيلِ، حوارُ الأرضِ مع قبّةِ السَّماءِ، حلمٌ معبّقٌ بأريجِ الطُّفولة، ابتساماتُ ورودٍ غافية فوقَ نهودِ التِّلالِ، شلالاتٌ هائجة مثل إهتياجِ البراكينِ، صوتُ الإنسانِ المتسامي فوقَ حافّاتِ الغمامِ، نداوةُ زهرةٍ مكحَّلة بدموعِ الشَّوقِ..
الشِّعرُ صديقُ روحي وبهجةُ خلاصي من ضجرِ الحياةِ، هو صديقتي الأزلية الشهيّة مثل أريجِ الغابات، نورُ العتمةِ التي أعبرها على ايقاعاتِ حفيفِ اللَّيلِ، حبقُ النّعناعِ المستشري في صحارى الرّوح، أجنحةُ حمامٍ مرفرفة فوقَ ينابيعِ الخيرِ، مهارةُ سمكةٍ تعبرُ أعماقَ البحرِ لانتشالِ محارةٍ مكتنزةٍ ببخورِ العيدِ، خلاصُ الإنسانِ من ترّهاتِ الحياةِ، رحلةُ اخضرارٍ في ظلالِ العمرِ، موسيقى هائمة فوقَ وجنةِ الحلمِ، فوقَ أرجوحةِ الحنينِ، لغةُ نديّة من لونِ الشَّفقِ القزحيِّ، مناجاةُ الرُّوحِ للحميميات المختطفة من وجنةِ الحياة، حوارُ القلبِ معَ سكونِ اللَّيلِ، معَ خريرِ السَّواقي، معَ أغاني الغجرِ الصادحة في أعماقِ البراري.
الشِّعر هو الغدُ الآتي المسربل بالقرنفل، بسمةُ عاشقة متلألئة اهتياجاً فوقَ أمواجِ البحارِ، هو سديمُ الذَّاكرة المتلألئ حولَ مسقطِ رأسي، غفوةُ طفلِ بينَ أحضانِ أمّه، خيوطُ الضُّوءِ المنبعثة من مروجِ السَّماءِ، ذكرى معبّقة بعناقيدِ التينِ، بأيامِ الطُّفولة المزدانة بالأعشابِ البرّية، حنينُ المجرّة إلى وهادِ الأرضِ، طراوةُ ليالي الحصادِ المكتنزة بالسَّنابلِ، هو باقاتُ الحنطة المبعثرة على وجهِ الدُّنيا، هو دالياتي الخضراء، عناقيدُ عنبِ quot;البحدو والدارْ كفنارْquot; التي قطفتها في صباحات ديريك الباكرة، هو شوقي العميق إلى أزقّتي الطِّينيّة، صوتُ المدفأة وهي تنشدُ أنشودةَ الدُّفءِ في ليالي الشتاءِ الطويلة، دبكةُ quot;باكيّةquot; في ليلةٍ منعشة محفوفة بالقهقهاتِ.
الشِّعرُ عشقٌ لا يقاوم، صوتُ فيروز في صباحاتي الباكرة، براعمُ شوقي العميق إلى أصدقائي الّذين تعفّرت وجوههم بضبابِ غربةِ هذا الزَّمان، هو حالةُ تجلٍّ متسامية مع هلالاتِ النُّجوم، ارتعاشاتُ عشقُ القمرِ لخدودِ البحرِ في ليلةٍ قمراء، شوقُ الجندي المرمى على خطوطِ الموتِ إلى أحضانِ الحياة، هو كلمة متراصّة بالمتاريسِ في وجهِ جلاوزةِ هذا الزَّمان، في وجهِ طغاةِ هذا العالم، هو تجلِّياتُ صعود الرُّوحِ فوقَ موجةٍ هائجة تحنّ إلى الارتماءِ بين أحضانِ الغسقِ، نقاوةُ الثلجِ وهو يهطلُ فوقَ جفونِ المساء، حديقة وارفة بالفرح، وداعُ الإنسانِ لوجهِ الثرى في ليلة مكتنفة بالآهات، آهات عبورنا للحياة، وآهات الرّحيل، هو دمعةُ أمٍّ قبلَ أن تودِّعَ غمائمَ الحياة.
الشِّعر حلمي المفهرس بأغصانِ البيلسان، هو أنثى معفّرة ببهجةِ الحياة، صديقةٌ غافية على خاصرةِ الرُّوحِ تنتظرُ نسائمَ البحرِ في ليلةٍ عذراء، هو قارئ مجهول يحبُّ حرفي وينتظره مثلَ طفلٍ ملحاح لمشاهدة هدايا العيد، هو وردة متفتّحة عند الضُّحى على إيقاعِ أجراسِ الرَّحيل، حالةُ إندهاشٍ على مدى رحابِ العمرِ، هو رحلتي الفسيحة في سماءِ غربةٍ مترجرجة بتدفٌّقاتِ لظى الاشتعال، هو غربتي العميقة في الحياة، أنشودتي الأزلية التي أغفو فوقَ خدودِها كلّ يوم، هو شهقتي الأولى عندما ولدتني أمِّي بين باقاتِ الحنطة وقمَّطتني بالسَّنابل لهذا أحنّ إلى اخضرارِها حتى في رحابِ الحلم.
الشِّعر صديقُ الكائنات كلَّ الكائنات، صديقُ اللَّيل والنَّهار، صديقُ البساتين والبحار والأنهار والصَّحارى المحفوفة بالرِّيح الهائجة، صديقُ البراري الوديعة والذئاب المروّضة على عبورِ البحرِ في عتمِ اللَّيلِ، هو أغنية مفتوحة على خاصراتِ الأماسي الغافية فوقَ أحلامِ البحار، هو عناقُ عاشقٍ لعاشقة من لونِ السَّماء، هو سيمفونية مكتوبة على إيقاعاتِ حفيفِ الرِّيحِ، هو بسمةُ طفلٍ في صباحٍ ممطر، هو لونُ البدايات والنّهايات، هو أسطورة مبرعمة في أعماقِ المغائرِ المنسيّة، هو صوتُ الضَّمير الحيّ في قلبِ الإنسان، هو محبّة الطَّبيعة والمروج المنعشة للروح، هو روحٌ هائجة متمرِّدة تعبرُّ ضجر الحياة بهمّة لا تلين، هو صوتُ الحنينِ الغارقِ في أعماقِ الذاكرة، هو الذاكرة المتلألئة في بحيراتِ المحبة، هو أمُّ الأمّهات وخصوبةُ الخصوبات، هو ترتيلة عشقٍ منبعثة من ضياءِ النُّجوم، هو نجمةُ الصَّباحِ في ليلة مهتاجة بالفرح، هو قصيدةُ حبِّ مفتوحة على شهيقِ الحياة!
ستوكهولم: 20. 9. 2005
قلق الإبداع وكيفية ولادة القصيدة

لا تراودني الأحلام الفاضلة، ولا يقلقني فيما إذا تتحقَّق أحلامي أوْ لا، ما يعجبني في الحلم أنّه حلم غير قابل للتحقيق! ولا أريده أن يتحقَّق أصلاً، لأن جمال الأحلام هو في عدم تحقيقها، لأنَّ عدم تحقيقها يجعلنا أن نبقى دائماً في شوق عميق إليها!
الحلم حالة راقية، طموح غير محدود، وعندما يتحقَّق جزءاً من حلمي أو طموحي في مجالٍ ما، سرعان ما أتحايل على نفسي وأبحث عن حلمٍ آخر بحيث أن يكون سقفه مفتوحاً مطلاً على غابة فسيحة من دنيا الأماني!..
يحتاج المبدع دائماً إلى حالات قلق، يسمونه قلق الإبداع! ولا أخفي على القارئ والقارئة، أن هذه الرؤية أعجبتني، لهذا لا يستهويني الاستقرار بالمفهوم التقليدي، فلا أجدني مستقرّاً، عندما أكون في حالة قلق مفتوحة، لأنَّ القلق يحفِّزني على الكتابة، ويفتح أمامي فضاءات رحبة لشهوةِ الحرفِ، لهذا لا أبحث عن الاستقرار بالمفهوم الدارج للكلمة، وقد بحثت عن أسباب هذه الظاهرة على صعيدي الشخصي، فوجدت أنني على صواب، لأنني فعلاً أحتاج أن أكون في حالة متوفّزة وقلقة كي أتمكّن أن أكتب نصّاً جديداً، أتحدّث هنا ضمن إطار صحّي وسويّ لمفهوم القلق المبدع، وليس القلق بالمفهوم المرَضي! ولكي لا يذهب المتلقّي بعيداً فلا يقلقني شيئاً حتى القلق نفسه، لأنّه بمثابة الخيط الذي يقودني إلى محراب القصيدة! وهو الذي يقود الكاتب إلى أحلام فسيحة يسبح فيها ويكتب حرفه وكأنّه يصعد نحو معراج السماء بحثاً عن ظلال القمر، وعندما يصل إلى ظلال القمر يأخذ غفوة هناك ثم يبدأ بالبحث عن ظلال الشَّمس فلا يستطيع الوصول إليها فيكتب عن توهان عاشقة من لون وهج الشَّمس فيتوه في عالم متعانق مع معابر حلم الأحلام!
إنَّ أكثر ما يعجبني في تكويني المزاجي هو هذه الأحلام المتشابكة المفتوحة على ربوع الدُّنيا! لأن الأحلام التي تتحقَّق لم تعُدْ أحلاماً ويخفتُ بريقها عندما نعيشها ونتعايشها، ولا أخفي على القارئ العزيز أنني لا أكترث كثيراً بالحلم بقدر ما أقتنصه لرحاب الحرف كحالة إبداعية! والطُّموح الذي يعدُّ واحة فسيحة للأحلام لا يأخذ من إهتماماتي شيئاً بقدر ما أسخِّره هو الآخر لحبقِ الإبداع، شراهة ولا كلّ الشَّراهات للكتابة، وما يجذبني في العيش إلى أقصى درجات العيش هو شهوتي المفتوحة على عبور معالم الحرف، البحث عن خفاياه المتعرّشة فوق نداوة وردة، أنا القائل:
لو كانت الحياة
خالية من الشِّعر والموسيقى والحبّ
لتهتُ أجوبُ الصَّحارى والبراري
أبحثُ عن أبجدياتٍ جديدة للموت!
تتقاطع عوالم زهرةٍ برّية عبرت خلسةً إلى معالمِ حرفي مع قصيدة لم أكتبها بعد، لربما أمسك خيطها قريباً وأكتبها أنا الآخر خلسةً، بعيداً عن تلألؤات نجمة الصَّباح!
عندما أنام أحياناً أشعر أنني أكبر ظالم في حقِّ نفسي، وأشعر بنوع من الانزعاج لأنني سأنام، خاصَّة عندما تنتظرني قصيدة معلّقة بين شفاه غيمة، فأنهض من مخدعي ضارباً النَّوم عرض الحائط لأتمم ما تبقَّى من بسمة وردة، وعندما أتمم ما تبقَّى من معالم الوردة، أعود بشهية مفتوحة مسترخياً للنوم فيصبح وكأنه الجزء المتمِّم للقصيدة!
الكتابة أمانة، رسالة منبعثة من حنين السَّماء!

سوريا/ستوكهولم
[email protected]

نقلا عن موقع quot;دروبquot;