علي حسن الفواز: هل يمكن ان نستعيد جبرا ابراهيم جبرا بعد اربعة عشر عاما على وفاته؟ نستعيده في الحضور مثلما نستعيده في الذاكرة، هذه الذاكرة القاسية والظالمة احيانا، اذ يبدو جبرا الذي توفي منذ اكثر من اربع وعشرين سنة عند طقوسها المشغولة بحروب صغيرة وكبيرة، ومتاهات أخذت المدن وساكنيها الى نوع من (النهب الكوني) و(شراهة القوة) و(فزع القبح) تلك التي عمل ضدها جبرا ابراهيم جبرا طوال اكثر من نصف قرن، اذ أسهم في صياغة الكثير أشكال الثقافة الوقائية، والمعادلات الجمالية في الذائقة العربية، جعلها الاقرب الى الدفاع عن الانسان مثلما هي الاقرب الى روح الحداثة واللذة والاناقة، توغل من اجلها في مجاهيل المغامرة، اقترب من المناطق الساخنة في المعرفة والتاريخ، لم يتحسس من الامكنة، فكان اكثر حميمية في مكوثه فيها، متماهيا مع قدر ثقافي جعله اكثر توهجا في عراقيته وعربيته وكونيته، عاش مع جواد سليم مخاضات(نصب الحرية) وعاش مع بدر شاكر السياب احلامه وفوضاه وايام موته التراجيدي.
ولد جبرا ابراهيم جبرا في مدينة بيت لحم 1920، عاش طفولته ودراسته الاولى في القدس، انتقل بعدها الى جامعة كامبردج للدراسة الاكاديمية، وفي عام النكسة 1948 انتقل الى العراق ليكمل دورة حياته وموته فيها. في بغداد انكشفت عوالم جبرا الابداعية والفكرية، اذ اصدر هناك روايته الاولى(صراخ في ليل طويل1955)ومجموعته الشعرية الاولى(تموز في المدينة 1959) ثم اصدر العديد من الكتب في مجالات النقد والرواية والشعر والفن التشكيلي ومنها الروايات (صيادون في شارع ضيق 1960، السفينة 1970،البحث عن وليد مسعود 1978، والرواية المشتركة مع عبد الرحمن منيف- عالم بلا خرائط- 1982،والغرف الاخرى 1986، يوميات سراب عفان، وسيرته الذاتية_ البئر الاولى 1989 وشارع الاميرات 1994) وفي القصة القصيرة اصدر(عرق وقصص اخرى 1956 والتي كتب الشاعر توفيق صايغ مقدمتها) وفي الشعر اصدر(تموز في المدينة 1959، المدار المغلق 1964، لوعة الشمس 1979، وبعد وفاته نشرت مجموعته الشعرية الاخيرة متواليات شعرية 1996) وقدّم جبرا للمكتبة روائع الادب الانساني(مسرحيات هاملت، الملك لير، ماكبث، عطيل، العاصفة، السونيتات الشكسبيرية، برج بابل لاندريه مالرو، الامير السعيد لاوسكار وايلد، في انتظار غودو لصاموئيل بيكت، الصخب والعنف لوليم فوكنر، ما قبل الفلسفة لهنري فرانكفورت، ترجمته الرائدة لفصل من كتاب جيمس فريزر_الغصن الذهبي) فضلا عن كتابته للعديد من المؤلفات في مجالات الفنون منها كتابه المهم(جذور الفن العراقي بالانكليزية)
انشغل جبرا بعوالم الثقافة دون ملل، كتب العديد من السيناريوهات لافلام السينما التسجيلية التي كانت تنتجها وزارة الثقافة، وترأس تحرير العديد من المجلات منها(العاملون في النفط)و(مجلة فنون عربية) كما ترأس رابطة نقاد الفن لسنوات طويلة، وترأس العديد من اللجان التحكيمية في مجال الفنون التشكيلية والسينمائية ومنها لجنة التحكيم للافلام العراقية منذ 1976 ولحين وفاته، حصل على منحة(جائزة اوربا 1982)
استعادة جبرا هي استعادة لكل هذا التاريخ المحتشد بروح(العدائين) الذين يركضون نحو قمة التعالي الثقافي، استعادة لروح المكان العراقي الواقف عند الحافة، استعادة للقوة النبيلة التي كانت تحمي العمران الثقافي، والروح السرية للثقافة. وربما كانت هي مواجهة عميقة لهيمنة الغياب، تلك التي أضحت تمارس بشاعة تلصصها ومحوها على رائحة هذه الروح.
ومن هنا نجد ان فكرة الاستعادة تكمن في اعادة انتاج السياق الثقافي الذي كان جبرا ابراهيم جبرا جزءا من شهوده، وجزءا من شهوته الدافقة التي قال فيها انسي الحاج(كان عنده فيض دافق)
فهل ضاع جبرا الشاهد الحي على الحياة وسط هذا الموت الذي اجتاح الذاكرة مثلما اجتاح الامكنة؟ وهل ستكون استذكاراته هي اعادة مضادة للروح السردية الفائرة في امكنته وحيواته الضاجة بالتشهي؟ هذه الاسئلة تدفعنا نحو اركيولوجيا الجسد العراقي، جسد النص وجسد المكان المكشوفين على الفراغ، ربما لاحساس يشوبه الكثير من الخوف والرعب بان جبرا قد ضاع اثره وسط فوضى الكراهية، وزحمة الحروب الاحتلالية والطبقية والطائفية، وغرائبية الحداثات العجولة والفاقدة لطعمها وشغبها... صوته الشكسبيري لم يعد صانعا للحلم، حلم ليلة صيف او شتاء لافرق. ذهب الكثيرون عن اثره، غاب اصدقاؤه البعيدون، موتى او منفيون، عوالمهم اصبحت فعلا بلا خرائط، او ربما لم تعد تحتمل بطلا تراجيديا بمواصفات وليد مسعود، او هوسا شهوانيا كما كانت تضج به عوالم السفينة او الشوارع الضيقة..
استعادة جبرا ثقافيا وانسانيا هي استعادة لوعي ثقافي عميق، ولأثر مهم من فعلنا الثقافي، ظلت روائحه عالقة على ثيابنا واوراقنا، ولعل غيابه ترك الباب مفتوحا للكثير من اللصوص ومشعلي الحرائق لكي يتلصصوا على عري كلامنا واحلامنا وجنوننا، يشعلون في حقول ارواحنا المزيد من القصب والمزيد من الضجر..
استعادة جبرا الروائي والشاعر والترجمي والتشكيلي والموسيقي والنقدي هو استعادة لجماليات نرجو ألا تكون غائرة وبعيدة، اذ ان جبرا الجامع للنص والسعادات كان يمنحنا دائما الاحساس بضرورة ان تكون الثقافة جزءا من الحلول دائما، جزءا من الاعتراف دائما، التطهير من خطايا الامكنة والحكومات، خطايا اللغة حين تكون نزقا، او حينما تكون شتيمة، فهذا الجبرا الكبير ترك لنا الكثير من المرايا، ولم يترك لنا الكثير من المراثي، كان يعشق بغداد وشارع الاميرات مثلما يعشق لندن وباريس او رائحة امرأة تدوخ المكان برائحتها، المهم ان مدنه التي يعشقها كانت تضجّ بالانوثة، تتكوم في نوبة عاتية للعشق، تنزّ مثل حائط مبلل بشقوقه الدفينة. لم نتهمه يوما بالارستقراطي، ولم نقل يوما ان ابطاله الطبقيين كانوا يمارسوا سردهم الروائي/الطبقي على رؤوسنا المتورطة بالفقر، رغم ان زمنه كان ضاجّا بنقاد الواقعيات النقدية والماركسية والطبقية، فهو صانع جمالي خالص، جمالية صنعته الابداعية تجعل النص الذي نقرأه جسدا يفوح بالنداء، فأي غواية كان يصنعها جبرا، واي مرادوة يدعو لها لانتهاك هذا الجسد الغابيّ، انه كان يمارس بيننا امتياز العاشق والكاشف والرسولي، فما بال الكثيرين الان قد تخلوا عن هذا الامتياز النبيل وانحازوا لحروبهم وقبائلهم، تركونا دون مصول ثقافية، عراة بأحزاننا ومخاوفنا الوطنية والقومية، هربوا الى منافيهم او موتهم او صمتهم، تركوا الشوارع مفتوحة لاصحاب الدكاكين والفؤوس والاعلاميات واصحاب فقهيات الموت يمارسون استعراضهم القاسي بيننا نحن الاولاد الذين كبروا فجاة، وقفوا عند تجاعيد احلامهم، وشيخوخة ارواحهم..
نستعيد جبرا لكي نستعيد اثار متحفنا المسروق من الغزاة، نستعيد انوثة المكان التي اصابتها فحولة المحاربين باليباس، نستعيد مدننا وشوارعنا الخاصة، مقاهينا، زوايانا، ضجيجنا، اناقة لغتنا، سحرية اعترافاتنا، بطولتنا النبيلة.. ربما نحتاج حقا الى مواسم لاستعادة الغياب الهارب منا عنوة..
ولد جبرا ابراهيم جبرا في مدينة بيت لحم 1920، عاش طفولته ودراسته الاولى في القدس، انتقل بعدها الى جامعة كامبردج للدراسة الاكاديمية، وفي عام النكسة 1948 انتقل الى العراق ليكمل دورة حياته وموته فيها. في بغداد انكشفت عوالم جبرا الابداعية والفكرية، اذ اصدر هناك روايته الاولى(صراخ في ليل طويل1955)ومجموعته الشعرية الاولى(تموز في المدينة 1959) ثم اصدر العديد من الكتب في مجالات النقد والرواية والشعر والفن التشكيلي ومنها الروايات (صيادون في شارع ضيق 1960، السفينة 1970،البحث عن وليد مسعود 1978، والرواية المشتركة مع عبد الرحمن منيف- عالم بلا خرائط- 1982،والغرف الاخرى 1986، يوميات سراب عفان، وسيرته الذاتية_ البئر الاولى 1989 وشارع الاميرات 1994) وفي القصة القصيرة اصدر(عرق وقصص اخرى 1956 والتي كتب الشاعر توفيق صايغ مقدمتها) وفي الشعر اصدر(تموز في المدينة 1959، المدار المغلق 1964، لوعة الشمس 1979، وبعد وفاته نشرت مجموعته الشعرية الاخيرة متواليات شعرية 1996) وقدّم جبرا للمكتبة روائع الادب الانساني(مسرحيات هاملت، الملك لير، ماكبث، عطيل، العاصفة، السونيتات الشكسبيرية، برج بابل لاندريه مالرو، الامير السعيد لاوسكار وايلد، في انتظار غودو لصاموئيل بيكت، الصخب والعنف لوليم فوكنر، ما قبل الفلسفة لهنري فرانكفورت، ترجمته الرائدة لفصل من كتاب جيمس فريزر_الغصن الذهبي) فضلا عن كتابته للعديد من المؤلفات في مجالات الفنون منها كتابه المهم(جذور الفن العراقي بالانكليزية)
انشغل جبرا بعوالم الثقافة دون ملل، كتب العديد من السيناريوهات لافلام السينما التسجيلية التي كانت تنتجها وزارة الثقافة، وترأس تحرير العديد من المجلات منها(العاملون في النفط)و(مجلة فنون عربية) كما ترأس رابطة نقاد الفن لسنوات طويلة، وترأس العديد من اللجان التحكيمية في مجال الفنون التشكيلية والسينمائية ومنها لجنة التحكيم للافلام العراقية منذ 1976 ولحين وفاته، حصل على منحة(جائزة اوربا 1982)
استعادة جبرا هي استعادة لكل هذا التاريخ المحتشد بروح(العدائين) الذين يركضون نحو قمة التعالي الثقافي، استعادة لروح المكان العراقي الواقف عند الحافة، استعادة للقوة النبيلة التي كانت تحمي العمران الثقافي، والروح السرية للثقافة. وربما كانت هي مواجهة عميقة لهيمنة الغياب، تلك التي أضحت تمارس بشاعة تلصصها ومحوها على رائحة هذه الروح.
ومن هنا نجد ان فكرة الاستعادة تكمن في اعادة انتاج السياق الثقافي الذي كان جبرا ابراهيم جبرا جزءا من شهوده، وجزءا من شهوته الدافقة التي قال فيها انسي الحاج(كان عنده فيض دافق)
فهل ضاع جبرا الشاهد الحي على الحياة وسط هذا الموت الذي اجتاح الذاكرة مثلما اجتاح الامكنة؟ وهل ستكون استذكاراته هي اعادة مضادة للروح السردية الفائرة في امكنته وحيواته الضاجة بالتشهي؟ هذه الاسئلة تدفعنا نحو اركيولوجيا الجسد العراقي، جسد النص وجسد المكان المكشوفين على الفراغ، ربما لاحساس يشوبه الكثير من الخوف والرعب بان جبرا قد ضاع اثره وسط فوضى الكراهية، وزحمة الحروب الاحتلالية والطبقية والطائفية، وغرائبية الحداثات العجولة والفاقدة لطعمها وشغبها... صوته الشكسبيري لم يعد صانعا للحلم، حلم ليلة صيف او شتاء لافرق. ذهب الكثيرون عن اثره، غاب اصدقاؤه البعيدون، موتى او منفيون، عوالمهم اصبحت فعلا بلا خرائط، او ربما لم تعد تحتمل بطلا تراجيديا بمواصفات وليد مسعود، او هوسا شهوانيا كما كانت تضج به عوالم السفينة او الشوارع الضيقة..
استعادة جبرا ثقافيا وانسانيا هي استعادة لوعي ثقافي عميق، ولأثر مهم من فعلنا الثقافي، ظلت روائحه عالقة على ثيابنا واوراقنا، ولعل غيابه ترك الباب مفتوحا للكثير من اللصوص ومشعلي الحرائق لكي يتلصصوا على عري كلامنا واحلامنا وجنوننا، يشعلون في حقول ارواحنا المزيد من القصب والمزيد من الضجر..
استعادة جبرا الروائي والشاعر والترجمي والتشكيلي والموسيقي والنقدي هو استعادة لجماليات نرجو ألا تكون غائرة وبعيدة، اذ ان جبرا الجامع للنص والسعادات كان يمنحنا دائما الاحساس بضرورة ان تكون الثقافة جزءا من الحلول دائما، جزءا من الاعتراف دائما، التطهير من خطايا الامكنة والحكومات، خطايا اللغة حين تكون نزقا، او حينما تكون شتيمة، فهذا الجبرا الكبير ترك لنا الكثير من المرايا، ولم يترك لنا الكثير من المراثي، كان يعشق بغداد وشارع الاميرات مثلما يعشق لندن وباريس او رائحة امرأة تدوخ المكان برائحتها، المهم ان مدنه التي يعشقها كانت تضجّ بالانوثة، تتكوم في نوبة عاتية للعشق، تنزّ مثل حائط مبلل بشقوقه الدفينة. لم نتهمه يوما بالارستقراطي، ولم نقل يوما ان ابطاله الطبقيين كانوا يمارسوا سردهم الروائي/الطبقي على رؤوسنا المتورطة بالفقر، رغم ان زمنه كان ضاجّا بنقاد الواقعيات النقدية والماركسية والطبقية، فهو صانع جمالي خالص، جمالية صنعته الابداعية تجعل النص الذي نقرأه جسدا يفوح بالنداء، فأي غواية كان يصنعها جبرا، واي مرادوة يدعو لها لانتهاك هذا الجسد الغابيّ، انه كان يمارس بيننا امتياز العاشق والكاشف والرسولي، فما بال الكثيرين الان قد تخلوا عن هذا الامتياز النبيل وانحازوا لحروبهم وقبائلهم، تركونا دون مصول ثقافية، عراة بأحزاننا ومخاوفنا الوطنية والقومية، هربوا الى منافيهم او موتهم او صمتهم، تركوا الشوارع مفتوحة لاصحاب الدكاكين والفؤوس والاعلاميات واصحاب فقهيات الموت يمارسون استعراضهم القاسي بيننا نحن الاولاد الذين كبروا فجاة، وقفوا عند تجاعيد احلامهم، وشيخوخة ارواحهم..
نستعيد جبرا لكي نستعيد اثار متحفنا المسروق من الغزاة، نستعيد انوثة المكان التي اصابتها فحولة المحاربين باليباس، نستعيد مدننا وشوارعنا الخاصة، مقاهينا، زوايانا، ضجيجنا، اناقة لغتنا، سحرية اعترافاتنا، بطولتنا النبيلة.. ربما نحتاج حقا الى مواسم لاستعادة الغياب الهارب منا عنوة..
التعليقات