بعـد ساعات سأعبـر الحدود ألى بولندا. سأتنفـّس الحـرية ملء صـدري في روابيهـا الخضـراء قبل أن أستقـر في ألمـانيا و أبدأ حياتي الجديدة فيـها. خلف هـذه الحدود سأثـأر لنفسي من سنين الحرب والحصار وأطفيء ظمأي المتأجـج للعيش الرغيد.
لم أعـد أتبيـّن عبـر نافـذة عربة القطار المتوقـّّفة الكثيـر من تفاصيل المشهد الخارجي بعـد أن هبط الظلام وأعتمتها الأنفاس المتكثـّـفة على زجـاجـها. كما لم أعـد أستطيع أن أرى داخل العربة المظلـمة وجوه رفاقي في مغامرتنا الصغيرة هـذه: أحد عشر رجلا و أمرأة من نايجيريا و زوج من النيبـال و معـلّـم فلسطيني بالأضافة ألى عبد الله و نشأت. و لم أعـد أسمع الاّ الصمت المطبق منذ أن أبتعد عنـّا القطارالذي فصل رجال أندريه عربتنا الأخيرة عنه عندمـا أجتاز مدينة رافارسكا الأوكرانيـّة قرب الحدود مع بولندا و تـركونا حتى يحلّ المساء، بينما أمتلأت العربة الضيّـقة برائـحـة العرق المتصبب ممزوجـة بعـطر أفريقـيّ غريب.
يبدو أن الأمور تسير كمـا خطـّط لهـا أندريـه، و أن شكوكنا لم تكن في محـلــّـها في أن يخدعـنا هذا الثعلب الأوكراني و يهـرب بكل مدّخراتي وبالمال الذي اقترضه نشأت من عمـّـته المقيمة في مسقط و المبلغ الذي حصل عليه عبد الله ثمن بيع محل قطع الغيار الذي كان يملكه بمنطقة ألسنك في بغداد. لـقـد تجاوزنـا في القـطار حتى الآن نقاط التفتيش العديدة االتي أقامتها الشرطة على طرق السيارات غرب أوكرانيا لأعتراض المهرّبين قـرب الحدود و لم يبق ألاّ أن يقلـّنا رجال أندريه بسيّاراتهم تحت ستار الظلام ألى الجـانب البولندي من الروابي الممتدّة أمامنا في الأفق الرحب.
أعـرف أنني سأبقى (بصراوي) أسمر الوجه و أبيض القلب، و سأبقى سمكري سيـّـارات لأن هذه هـي الصنعة الوحيدة التي أجيدهـا. لن أقرأ الكتب بالأنجليزية أو أستعيـر مفردات منها في كلامي كمـا يفعل نشأت، لكنني أتـوق حقـّـا ألى اللجوء ألى ألمـانيا و العيش فيهـا بعد أن أستهلكت حـربان أفضل سنوات شبابي و سلبتـني الأخيرة ذراعي. سأظـلّ أحب الأرض الكلحاء في منطقة الحيـّـانية حيث ولـدت وحاولت جاهـدا أن أكمل دراستي الثانويـّة دون جدوى، لكنني أريد الآن أن أمتـّع ناظريّ برؤية جبال أوربا ووديانها الخضراء وأن أنعم بلـذّة الحياة في مدنهـا الكبيرة.
*********
أكتب لك يا ولدي الحبيب هذه السطور ليلة مولـدك، و أنا أتأمـّل وجهك الملائكـي و أنت تنام بسلام في مـهدك الصغير. و أدعـو اللـه أن يرزقـك الصـحّـة و العـافية و أن يحرسك من وطـأة الأيـام. بعد سنوات عندمـا تكبر بما يكفي لتفهم كلماتي، ستعطيك فوزيـّـة هذه الرسالة مع رسائل أخرى كتبتهـا لك في الأسابيع القليلة الماضية عندمـا لم يعـد قلبي قادرا على استيعاب حبـّي المتزايد لك الذي أخذ يفيض منه في هـذه الكلـمـات. هـذا الحب الذي وصل اليوم حـدّا لن تعـرف مداه حتـّى تعيش يوم مولـد أبنـك. و أتمنّـى أن تتعـّرف من خلال هذه الرسائل على ما مررت به لأهـيـّـأ لك هنا في هـامبورغ حياة أقلّ قسوة من تلك التي عشتهـا أنا أيـّام الحصـار في بغـداد.
بدأت في رسالةالأمس سرد أحداث محاولتي الأولى للوصول ألى ألمـانيا مع الدكتور نشأت العفري و الأخ علي يحيـى. أتذكـر كلّ دقيقـة في ليلة الثالث عشر من أكتوبر 1995 كأنني أعيشهـا هـذه الليلة.
ألقيت ثانية في الغرفة التي أحتجـزتنا فيها جميعا الشرطة الأوكرانيـّة بعد ضربي ضربا مبرّحا في غرفة التحقيق أنساني تمـاما صدمـة القبض علينا مع رجال أندريه في الكمين قـرب الحدود البولنديـه. ورغم أن شفتي كانت تنزف، فأنني لم أعد أحسّ بأي ألـم عندما التقت عيناي بعيني نشأت. كمـا فـارقتني حينها تمـاما مشاعـر الحزن لخسارتي متجـر قطع غيارالسيارات و الأحساس بالغضب لأن الشرطة الأوكرانيـّة أطلقت سراح المهرّبين و احتجـزتنا نحن. ورغم أنّ نشأت ظـلّ صامتا فأن نظرة العتاب في عينيه كانت أشد وطأة عليّ من جميع آلامي.
عندما تعرّفت على نشأت و علي في سكننا المشترك بمنطقـة صويلح في عمـّـان كنت قد بعت المحـلّ و عقدت العزم على اللجـوء ألى أوربّـا و الزواج والأستقرار فيهـا بعد أن دخل الحصار على العراق عامه الخامس و بدا و كأنـّه جاثم على صدورنـا ألى الأبد. و كان علي الذي عمـل سمكري سيّـارات في ضاحية البقعة يشاركني هـذا التطلّــع بحماس، مدفوعا بحبـّه للحياة وسخطه منها في آن معا بسبب عوقه في الحـرب. أمّـا الدكتور نشأت فكان يعمل مساءا في أحدى العيادات الطبـّـية ويذاكر صباحا في أنتظار الحصول على تأشيرة ألى تركيـا لدخول أمتحان الترخيص الطبـّي الأمريكي في أسطنبول. سرعان ما عرفت فيه بساطة أهـل تلّـعفر رغم ثقافته الرفيعة و ملامح وجهه الصارمة المنحوتة كصخورقلعتهـا التـليدة، وسرعان ما صار يعتبرني أخا أكبر له. أقنعته بأن يرافقنا ألى أوكرانيا بعد تعثــّر بضعة محاولات لحصـوله على تأشيرة تركيا، و أن يستغل المبلغ الذي استدانه من عمته لغـرض الوصول ألى ألمانيا بدل تغـطية مصاريف الأمتحان. أمـّـا الآن ونحن هنا في منتصف الطريق ألى المجهـول، فأنني لم أعد أمتلك الشجـاعة أن أرفع نظري ألى عينيه.
تحـوّل وجومنا ألى خوف حقيقي عندما شقـّت الصمت المطبق صرخات النايجيريتين أللتـين جاء دورهـما في الأستجواب بالغرفة المجاورة. بينما تردّدت في غرفتنا حشرجة المرأة النيباليـّة و هي تبكي بحرقة وتتـشبث رعبا بذراع زوجـهـا الذي أدار وجهه صوب الحـائط تجنـّـبا لنظراتنا.
أتضرّع ألى اللـه أن يطيل بقائي معك ومع أمك يا ولدي، لكنني أعرف أنني قد بدأت أخسر معركتي مع المرض الخبيث الذي لن يمهـلني طويلا. فأذا قست عليك الأيـام و أردت أن تضع رأسك على كتفي، أتـّـصل بنشأت الذي أسميتـك بأسمـه. لن يتأخـرعليك وسيأتي كمـا أتى اليوم من مدينة بريـمن ليبارك لنا مقدمك.

*********
طـالما حلمنا أن نلتقى نحن الثلاثة في بغـداد، وها هو الحـلم قـد تحقـّق.
في بيت عبد الله في صوب الكـرخ جلس علي بشعره الذي أخاطه الشيب أمامي بينما كان عبدالله غارقا تماما في صمته. و أذ تردّد صوت المقرىء عبد الباسط العذب من جهـاز التسجيل يتلـو الآية الكريمـة (أنـّـا وجـدناه صـابرا نعـم الصبر وأنـّـه أوّاب) عادت ألى مخيلتي ذكريات اليوم الذي تحوّل فيه صبرنـا المريـر ألى صداقة طويلة لن تنتهـي.
في محطة قطار رافارسكا ودّع علي فريق كرة القدم النايجيري كما يسميهم بحرارة و كأنـّه يعرفهـم منذ سنوات، أمـّـا عبدالله فقد أحسست أنـّه كان يتجنّبني طوال الطريق ألى العاصمة كييف.
وفي مطار كييف كنـّـا ثلاثة مفلسـين مثقـّلين بالكدمـات بانتظار طائرة العودة ألى عمـّـان. وقد تيقنـّـا أن الشرطة التي أطلقت سراحنا و مجموعة أندريه التي سرقت مالنا ليسا ألاّ وجهين لعملة واحدة.
ألتقينا في عمـّان لا يجمعنا ألاّ سكن رخيص في أطراف المدينـة. أمـّا و نحن نغادر كييف، فقد جمـعنا شعور أكيـد بأن محاولتنا التالية التي لانعرف بعد عنهـا شيئا لابدّ أن تنجح.وفي الوقت الذي تتطلـّـع فيه عقولنا ألى الغرب، كانت قلوبنا تتوجـّه صوب الشرق ليتملـّكنا حنين لمكان واحد هـو العراق.. وسؤال واحد لم نجد له أبدا جوابا: متى نعود أليه.
طـالما حلمنا أن نلتقى ثلاثـتـنا في بغـداد، وها هو الحـلم قـد تحقـّق.
و الفارق الوحيد أننا عدنا اليوم بجنازة عبد الله المسجـّى على الأرض أمامنا في بيته بانتظار مراسم الدفن في أرض الوطن.
ألشارقة