(كل النظريات رماديه....وحدها الحياة شجرة خضراء)ن- ق

عصر يوم لزج كان (السعدون) أول شارع موبوء بالضجيج تقذفنا اليه الحافلة القادمة من الكلية، قال صديقي حال اقترابنا من بناية سكنية مزوية بركن مهمل و العرق الصيفي يسيح على اجسادنا كثر المشي
- دعنا نستريح في شقة ابن خالي القريبة، دون ان التفت اجابه جسدي المتعب بنعم خجولة.
في الشقة الصالة الوحيدة شحيحه الاضاءه و مطلية بالأزرق و الابيض يحتلها اثاث بسيط ومزينه بصور عائلية قديمه رتبت بذوق تبعث شعورا بالبهجه والانشراح.(صباح) ابن خال صديقي بوجه السمح وسمرته الداكنه رحب بنا تسبقه في الضيافة زوجته الشقراء (اماني). في الغرفة المجاورة استقر اطفالهم الاربعه يتفرجون التلفزيون. في الأربعين كانت (اماني) وهو على مشارف الخمسين.
بعد التعارف و إثناء شرب الشاي انفتحت مشارب حديث منوع مقيد بغلال الروتين ،هواء المبرده القادم خلل فتحة الشباك يغزو وجوهنا ملقحا حبات العرق المالحه مولدا رعشه لذيذه كنت فيها مزهوا كالطاؤؤس البري بالزى الجامعي. متباهي بمخزون ثقافي انتشلته ايام الدراسة من رفوف المكتبة اعتبرتها سلاح ماض، ثقافة اهلتني اختراق أي حديث بنعومة و غرور. كنت أطلق أحكاما سريعه قائلا بفخر ان جيلنا ا ذكى من القديم.أكثر تحضراواوسع علما و له قدرة المجازفة لثقتة بنفسه.
كثير ما أرقت هذه النظرية صاحبي الوديع. واثارت معارك كلاميه وصلت حد الصراخ. لكنة سرعان ما يتراجع بطيب خاطر فيعالجني بابتسامه افقية يعقبها غمزه من طرف عينيه رافعا رايه بيضاء كمن لايريد للنقاش ان يتعقد فيعترف بهزيمته. كان يتحاشى بأسلوب متحضر خدش صداقة عمرها تمتد لعشر سنين كنت أفسر انسحابه ضعف المواجهه وهو ما زادني مكابراة وصلافة
بدأ حديثي مع(صباح) مرنا، استطعت فرش بنود نظريتي عليه. كان المسكين يحاول تصحيحها من الشوائب. مرة باستخدام الصمت. ومرة بتحريك راسه متظاهرا بالرضا وحينما ايقنت إن الجو مال للفتور و كضيف يأتي أول مرة صمت، تركت (صباح) يقود الحوار وهو يرتشف الشاي من (استكانه) المذهب، نظرني بحبور هادئ قائلا:
-الانسان يولد بعينين تواقتين. واحد ة تخترق السماء بالابداع والاخرى تدير صراع العلم و الدين.
بالابهام والسبابه ادار الاستكان فوق الصحن متأملا جوفه وبقايا الشاي كمن يبحث عن تكمله لحديثه، رج الشاي ليذيب الشكر المتبقي اضاف دون ان يرفع بصره عن ا لاستكان:
-وحاجة الانسان للاجوبه جعلته يمتهن المغامرة
اجبت بتسرع لتعزيز الموقف:
-لما لا تقول ان جيلكم كائنات قلقه تخيفها المحن فترحلون صوب المجهول خوفا من الاسئله المستحيله ومنها تتصنعون وهم الانتصار
تطلعني بنصف رؤية عبر عينان هادئتان ووجه داكن فيما زحفت شواربه السوداء العريضه لتغطي ابتسامته قائلا:
-عطش المعرفة سر وجود العقل
توقف متمعنا بقايا الشاي مضيفا:
- وما ان تنضب الاسئله حتى تتعكر مساحة الايمان لان الاولى مهنة الثانية رفع الاستكان عاليا ليفرغ محتوياته جره واحده، تلمض حلاوة الشاي بطرف لسانه واكمل بتواضع وانسيابية:
- حتى زوايا الحكم يجب التأني بها فهي مفتاح شخصيتنا وبطاقه تعريف مجانية يستخدمها لاخر لاكتشاف مقدار نضجناوقبل ان اكمل صمت قليلا عدل جلسته قائلا:
اسمع قبل دخولي الكلية كنت شبه متدين ما غبت عن الطقوس و مطالعة الادب. بعد سنين احسست فراغ ذهني لم تمليه دراستي ، فجاء الشعر، صرت كاتب مقالات.تزوجت من باحثه نفسية. اصدرت نتاجها الاول مع ولاده اول طفل. اصبحنا كتله وهاجه من الابداع، تحدينا العصافير المتحجرة والبراكين المحنطه ولم نيأس, كنا نغفو على وسادة الماضي العبقة ومنها استشفينا رائحة الصح لعنفواننا. يقلقنا الخطأ كي لا نستفز قبور الذين نسوا كتابه وصاياهم فترتبك بوصله المحبة ونفقد شعاع الانتماء لهم.هكذا نرى التاريخ محنة بشر لم يجدوا موطئ قدم في زمن لزج فتعقدت نظرياتهم
رن جرس البيت فجاءت زوجته تهمس باذنيه، فخمنت ان ضيوفا حضروا فاستدركناهم بالانصراف,في الشارع بعد خروجنا احسست بضحالة افكاري. بحلقت صاحبي بعيون نصف مفتوحة. كان يمشي متبخترا معلنا فشل نظريتي ،تسكعنا تحت نور(السعدون) ببطء و الشارع يجر حرارته النهارية نحو ليل بدا يغلف الأبنية والوجوه والحكايات.
.ألان وبعد عدة سنين يجلس أمامي في البيت زميل ابني، شاب مزهو بثقافته. يمتلك نفس نظريتي القديمة ومفاتيحها. طول النقاش لم أبح بشيء حتى لا يفقد الحوار بريقة وتطير متعة النقاش فيعيد نفس خيبتي القديمة لكن بشكل جديد

[email protected]