محمد فهد من الرياض: بلا شموع ولا كعك، ولا أغاني عيد ميلاد، يتقدم العمر مثل ظل لا يتكلم، يحضر أحياناً في مصادفة من هم أصغر أو أكبر ثم يمضي مع مضي العابر. لكنه فجأة يحضر بكل أثقاله، وبكل فجاجة نكتشف بأنّا حقاً نكبر. لا يهم أن تبلغ السبعين لتكتشف أنك فعلاً تكبر، شيء ما ينكسر في الزمن وتجدك وحيداً مقابل شبح يتحرك بكل خفة، يبترك من نقطتك الأضعف ويسخر منك. يأتي الأدب هنا كوسيلة حاسمة للتعافي حيث quot;لا يميل إلى نكران مصاعب الحياة، بالعكس: الألم والخوف من الموت تُواجه، وتتحول من خلال الفن، لمساعدتنا في أن نقدر العالم أكثرquot; كما تقول روشيل فيرستنبرج. في كتابها الجديد الصادر عن دار الآداب تحاسب الروائية ليلى الجهني الزمن والعمر مبتدأة بالغلاف (40 معنى أن أكبر). يحرك السياق العام ما يشبه الاستماع إلى معزوفة كلاسيكية، كلما تنملت أطرافك من السكينة، ضج صوت طبل بعيد قوي وصارم لينزع روحك عنك. فبينما تبدأ ليلى كل مقطع بـquot;إنني أكبرquot; متبعة هذه اللازمة بكل مختطفات الحياة، بما يشي بروح تتشبث بالحياة كما بالموت على سواء؛ ورقة بين لفظين قدريين بينهما حفرة المفاجأة التي تستيقظ منها كل صباح بذات اللحظة التي تعي ويكون بإمكانها تقبل المضي للأمام. مستدلة بكلام أروندهاتي روي عن الأربعين: quot;ليست سناً متقدمة، وليست سناً صغيرة، لكن سنٌ صالح للحياة، وصالحٌ للموتquot;. هنا رهَقٌ كثيف من ساعة الوعي التي تفضي إلى الكائن إلى أن quot;يغور وحيداً، وقد يفزع، وقد يتوحشquot; لكنه أبداً لا يعتدي؛ لأن من quot;يعرف لا يؤذيquot;. لا يوجد صراخ معها، لكن يوجد الصوت الخفيض الذي يتفجر في نفسه عشرات المرات قبل أن يصيح بلا صوت: quot;أشعر بوخزة الذي عرف ما لا ينبغي له معرفتهquot;. محاولة إيقاف الزمن بينما يمر دون أن يلتفت على أحد، لتكون السرعة خانقة والسعي لفهم هذا لا يكتفي أن يكون شبحاً غريباً لم يفلح العمر في استيعابه:quot;لا أرعف كيف يمضي؟ أو لِمَ يمضي؟ وكيف أننا نحيا فيه ونعجز عن أن ندركه كما ينبغي؟ أهو شيء يمرنا ونمره، أم حال تعترينا؟ وإذا مضى فإلى أين يمضيquot;. تتطاول على نفسها كي تتفوق عليها، محاربة فضائل السائد وزجاج العرف الموضوع بعناية، صريحة وتعترف بأن quot;الخلود حيلة من يعي لا من يتكاثرquot;. لكنها إذ تكتب فهي لا تُقعد حياتها تنظيراً، أو حتى غرقاً في متاهات لفظية غير متسقة، لكن بنفث يؤطر المسار العام للشكل اليومي في النظر اتجاه حياتها. الشجاعة في ذلك أنك تكون مكشوفاً لا بشكل شعري أو حتى أدبي، بل أن تعرض ما تفكر وتتأزم به على الجميع. غير محتشمة من أن تبدأ هي بتحليل ما يفكره الناس عنها أو ما تفكر هي به في اللحظة التي يفكر بها الآخرين عنها. المصيدة هي في الاحتفاظ باللياقة بين الذاتي والموضوعي؛ الأول كضرورة لصدق الكتابة الذاتية والأخرى كرادف أو مبرر للحس الذاتي عملياً. تتأكد من إيصال هذا:quot;وهذه الكتابة ليست لمديح، بل لفهم معناه، ولم يفهم معناه سوايquot;.

.....
مقطع من الكتاب خاص بإيلاف:
إنني أكبر، وأتخيل أحياناً أن حياتي ndash;كل حياتي- هي مشهد قصير من فلم طويل، تعرضه صالة عرض شبه خالية، ويشاهده إنسان وحيدة مرة ثم يمضي عنه. مشهد يبدأ وينتهي في دقائق، لكنه يبقى في الذهن طويلاً، لأن قيمته ليست في امتداده؛ بل فيما يقترحه، وفي المعنى الذي يحمله. مشهد لا حوار فيه لأن الكبمات تقصر عن أن تحكيه أو لأنها ndash;بصورة ما- تفسده. مشهد أعيد تصويره مرات ومرات قبل أن يقول المخرج: (Cut) للمرة الأخيرة، موقناً أنه ليس ثَمَّ أداء ndash;مهما برع صاحبه- ممكن أني يقدم المشهد كما يراه في ذهنه. مشهد مثل مشهد إديث بياف (Edith Piaf) في فيلم (La Mocirc;me )، وهي طفلة، تجلس إلى طاولة و تأكل من طبق أمامها فيما يدخل عليها أبوها ثم يستل دمية من تحت سترته؛ كي يقدمها لها باسماً. دمية منهكة لطفلة أشد إنهاكاً تبتسم لخير ضئيل، خير غير متوقع، خير غير مشروط، يحدث مرة واحدة، فيبقى للأبد.