ستراوس الفيلسوف الذي أعاد الاعتبار للفكر البدائي

رحيل كلود ليفي ستراوس: آخر الإثنولوجيين الكبار

حوار مع فرونسواز إيريتييه
أجراه جان بيرونبوم.

ترجمه وقدم له عبد الله كرمون: فروانسواز إيرتييه مختصة في الأنثروبولوجيا، وهي من مواليد 1933. خلفت كلود ليفي ستراوس في كرسي الأنثربولوجيا بالكوليج دو فرانس منذ سنة 1982. وأحدثت مادة الدراسة المقارنة للمجتمعات الأفريقية. لقد كتبت العديد من الدراسات الأنثربولوجيا المختلفة. بدءا بموضوع القرابة، الذي يعتبر تمرينا خاصا يلزم أن يضبط كل أنثربولوجي عناصره الهامة، وانتهاء بموضوعات حول الرجل والمرأة، العنف وغيرها. تستحضر في هذا الحوار بعض ملامح شخصية الرجل العلمية.

كنت تلميذة كلود ليفي ستراوس خلال أواسط الخمسينيات. وتتحدثين غالبا عن هذا الأخذ العلمي بكثير من التبجيل. لماذا؟
كنت طالبة عادية، أدرس مادتي التاريخ والجغرافيا، وقد حرضني بعض الزملاء من شعبة الفلسفة أن استمع، في quot;متحف الإنسانquot;، إلى محاضرات هذا الرجل، الذي يتحدث عن أشياء مدهشة جدا.
كان ذلك، في الواقع، شعورا معينا بالقطيعة. إذ يتطرق درسه إلى quot;القنص الطقوسي للبزاة عند الهيداتساس_ وهم هنود أمريكا الشمالية. كان هذا العنوان وحده متفردا حينذاك. لأننا نتلقى كل شيء، في الجامعة، حول التاريخ الغربي والأوربي، وليس هناك تدريس للإثنولوجيا. من هنا كانت دروس ليفي ستراوس في منتهى الجدة: فقد فتحت لنا آفاق جديدة تماما، لم نكن نتخيل حتى بوجودها أبدا.
اكتشفنا مندهشين، وجود شعوب لا تتصرف مثلنا. خلف هذا التمايز الظاهر والقطيعة الراديكالية مع حقيقتنا الخاصة، هناك بداهة، أننا نتوفر، مع ذلك، على أجهزة إدراكية مشتركة. وَوَعَينا، بتلك الطريقة، بالاختلاف وبالعالمية.
شكل ذلك إرثه الأساسي، حتى اليوم: نحن مختلفون جميعا مع بعضنا البعض، نعم، ولكننا نستطيع أن نتفاهم، لأن بنياتنا الذهنية تشتغل بنفس الكيفية.

أي نوع من الأساتذة كان؟
إنه صوت لا ننساه. فمتى وصل إلى المسامع، يستحيل الانفكاك منه. صوت جهوري، مرتبك قليلا، محايد نسبيا، خافت تقريبا. عندما ننصت إلى دروس كلود ليفي ستراوس نكون جد منتبهين إلى ما يقوله. إنه رجل كتابة، وهو خطيب أيضا، وليس من أولئك المثقفين المنزوين. لكنه لا يحبذ كثيرا النقاشات العلمية رأسا لرأس. ما يحبه أكثر هو الدرس المفتوح، حيث يطلب من المتدخلين أن يعرضوا على العموم أبحاثهم. من هنا تظهر عظمته كبيداغوجي: كان معلما رائعا، يحسن أن يجعل الأسئلة، التي لم يستطع المتدخل صياغتها، تنبثق لوحدها.
إنه، ذو فكر ثاقب في العمق. منطقي، إذ أن دروسه مبنية على ترسانة من الأفكار التي لا تحتمل الضعف. فهو يتمكن دائما من إيجاد المخارج. جعل منه سحر صوته وتمكنه من موضوعه موصلا استثنائيا، بالإضافة إلى رغبته الدائمة في الكشف عن أدق تفاصيل الأشياء الأساسية.
أتذكر، مثلا، بحثا علميا حول نقود تنتمي إلى حوض البحر البيض المتوسط والتي تجسد صورة هرقل من خلف. يتعلق الأمر بوضع تصنيف للوضعيات الجسمانية لهرقل: الطريقة التي يتوكأ بها على عكازه، جهازه العضلي على مستوى الكتفين...هنا أيضا، كان الهدف هو شرح تدوين للقوانين. وخاصة تبيان أن التعدد، الذي يتشدق به البعض كي يؤسسوا لنسبية ثقافية، هو ملازم للعالمية.

خلفتِ كلود ليفي ستراوس في الكوليج دو فرانس بعدما كنتِ تلميذته. هل تغيرت بذلك علاقتكما؟
مع إحالته على المعاش، ظل حاضرا بيننا. فهو يزور مختبره (في الكوليج دو فرانس) على الأقل مرة كل أسبوع، يستقبل فيه، باحثين شبان، وكان دائما مستعدا للنقاش معهم. أما بالنسبة إلي، فإنني لم أتوان أبدا عن إحاطته بالتقدير والتبجيل. كان دائما، على المستوى الفردي، بالتأكيد، رجل صداقة، وثقة، والذي أحاط بالرعاية الذين واللواتي عملن معه. ولكنه لم يقبل قط بأدنى ألفة بينه وبينهم. كانت له quot;نظرة فيلquot;، بتلك العين الصغيرة والحادة والتي يعرّيكم بها. عندما نكون قبالته، نتفتت، ويلزم كثير من الشجاعة لإنبعاثنا من جديد. غير ذلك، باستثناء عائلته ورفاقه في المدرسة، هل هناك من سبق له أن دلع ليفي ستراوس؟ أشك في وجود أحد.

عن جريدة لوموند.