يكتب رجلٌ مجهولٌ قصيدة تتحدث عن الحزن. كان يكتبها بقلقٍ وينظرُ إلى ساعة خشبية مثبتة في معصمه بمسامير دقيقة جداً. وهو، أي الرجل المجهول، عندما كان ينظر إلى السماء أيضاً فإنه لم يكن ير إلا الشمسَ وحيدة تحتل السماء الصافية التي تظله. لعله كان يتذكر أن مما قال في قصيدته: [لا شيء يبدو ظاهراً إلى هذا الحدّ، ولا شيء يطمره التراب، أيها الماء من أرسلك!]. ليس هناك دليلٌ قاطعٌ على ماهية ما كان يفكر فيه، لكن يمكن الجزم بأنه كان يفكر في دائرة متسعة يحفها الموتى غرقاً، وفي وسطها قصيدة تتحدث عن الحزن.
في طفولته، ربما كان طفلاً في يومٍ ما لهذا سأفترض أن جدته أدركته مشدوهاً مما يحدث في الجوار فأرادت تبسيط العالم لتفهمه حواسه البريئة، كانت جدته تخبره أسطورة هندية، وكانت تكررها على النحو التالي: [قيل إن قبيلة في بلاد الهند كانت تحتفل بطقوس وشعائر منظّمة ودقيقة، توارثتها وأضافت إليها حتى غدتْ مهرجاناً شهرياً، كانت احتفالات القبيلة تتكرر كلما اكتمل القمر، في البداية كان ضوء القمر يساعد القبيلة على الاحتفال دون أن يدهس بعضهم بعضاً، كانوا يرقصون إلى حدّ الإغماء، ومع مرور السنوات صار احتفالهم موجهاً للقمر]، تضيف الجدة، وقد اكتست ملامح حفيدها بالدهشة لكن هذا لن يمنعه من أن يصبح بعد سنوات من هذه الحكاية رجلاً مجهولاً يكتب قصيدة تتحدث عن الحزن: [وفي أحد احتفالاتهم خرج نمرٌ من الغابة واختطف أحد المشاركين في الاحتفال، شعر أفراد القبيلة بالفزع، وحزنوا لما حدث. لكنهم عادوا للاحتفال في الشهر التالي عند اكتمال القمر، ففاجأهم النمر الجائع مرة أخرى وانقض على أحد المشاركين في الاحتفال وسحبه إلى الغابة وسط دهشة وعجز المحتفلين، كانوا خائفين إلى درجة أنهم استمروا طوال الليل يبكون ويندبون حظ صاحبهم الذي التهمه النمر. لكن هذا لم يمنعهم من العودة في الشهر التالي للاحتفال، عندما تجمعوا لم يكونوا خائفين ولم يشعر أيٌّ منهم بالهلع. لقد كانوا منصتين ينتظرون خروج النمر من الغابة فقد أصبح جزءاً أساسياً من شعيرتهم].
كان الرجل المجهول، رغم أننا انشغلنا بكتابة افتراض بسيط حول طفولته، لا يزال يكتب قصيدته التي تتحدث عن الحزن، ربما يتذكر أنه كتب فيها: [للغرقى وجوهٌ ممتلئة وسيرة حسنة، أناسٌ سيقفون على قبورهم ويبكون. البكاء ماء الفناء الأول الذي يغرقون بهم الغرقى من جديد]. حين انتبه إلى ساعته الخشبية كان الوقتُ قد حان، ورغم أن السماء لا تزال صافية إلا أنه على يقين أن جميع من في مدينته ينتظرون النمر الذي صار جزءاً من شعيرتهم السنوية. الرجل المجهول الذي كان يكتب قصيدة عن الحزن، والذي لا بد أن له طفولة وجدَّة تستطيع سرد الأساطير، ربما كان يفكر الآن في افتراض أنه هو الغريق القادم، أو أنه سيبكي بحرقة على قبر ما ليغرقَ الغريق الذي بداخله مرة أخيرة. لكنه، وبالنظر إلى كل هذه الهواجس، راح يطوي بهدوء واعتزازٍ قصيدةً تتحدث عن الحزن؛ وجلس ينتظر..