Billie Holiday
على الرغم من موتها في العام 1959 تبقى بيلي هوليداي مغنية عظيمة عبر أغانيها التي ظلت حيّة حتى الآن. كان صوتها العميق الحزين والمؤثر قد أضفى على أغاني الجاز لمسات فريدة وقوية وتعتبر أغنيتها الشهيرة {ثمار غريبة} أو {فاكهة عجيبة} التي تتحدث عن جثث السود المعدومين والمعلقة على الأشجار من أجمل الأغنيات الرائعة والمعبرة في القرن العشرين.
الأشجار الجنوبية تثمر فاكهةعجيبة {
انقر هنا لسماع الأغنية
على أوراقها دماء، وفي جذورها دماء
أجساد سوداء تتأرجح مع هبّات نسمات الجنوب
الفاكهة العجيبة تتدلي معلقة على أشجار الحور
منظر ريفي للجنوب اللطيف
العيون المنتفخة والأفواه الملتوية
أريج أزهار المغنوليا، حلو ومنعش
ثم تأتي الرائحة المفاجئة للحم البشري المحترق
هنا فاكهة للغربان كي تنقرها
للأمطار كي تجمعها، للريح كي تمتصها
للشمس كي تفسدها، وللأشجار كي تسقطها
هنا يثمر محصول غريب ومرّ}.
في الفيلم الذي يجسد حياتها المعذبة {السيدة التي تغني الجاز} والعنوان احدى أغنياتها ومثّلته المغنية ديانا روس وحصلت على الاوسكار من خلاله. تظهر هوليداي صبية معذبة تغني في الشوارع وفي فترة مراهقتها تغني للسكارى في البارات ويغتصبها البعض منهم، وحتى حين كبرت وأصبحت شهيرة. ظلت تشعر في الوحشة والحزن من ماضيها المعذب والمؤلم. {ماتت وحيدة في عزلة معوزة ومريضة}. هل حقاً ماتت بفعل المخدرات ؟

مرثية إلى جان دمو

لا يوجدُ حارسٌ لحمايةِ جثتكَ يا جان دمو
أنت الأكثرُ شبَهاً بالشّيطان
كنتَ رجلاً مريضاً على الدوام
تبكي كلَّ يومِ أحدٍ عندما تشاهدُ نفسَكَ في التلفاز
{وعلى الرغمِ من أقوالِ الصحف، فأنك لم تكنْ مثقفاً أبداً}
الآن أبكي حداداً عليك
البكاء يغسلُ الأحقاد.
وداعاً يا صديقي الإله
موتكَ كانَ له أثرٌ بالغٌ في مسارِ الشعر الحديث
وأنتَ تمثلُ دورَ السيدِ البدينِ صاحبِ دار النشر
لكنك كنتَ متورطاً بأشياء يعاقبُ عليها الرئيس.
وداعا أيها الطفل
يا من كنتَ لا تعترفُ إلاّ بعبقريتين:
التجديف والجحيم
وبدلاً من أن يخنقَكَ عطيل، ذهبتَ إلى الهاوية وحيداً
وداعاً وداعاً وداعاً
لماذا ذهبتَ إلى الأبديةِ وفي جيبِكَ أقراصُ فاليوم ؟
كانت مراسيمُ الدفنِ حزينةً جداً جداً
بكى الجيرانُ قائلينَ: {آه، أيها السّيدُ اللطيف، كم كان يحبُّ
الشكولاته مسكين مسكين مسكين
كم كان يحبُّ الشكولاته}
ويقالُ أنَّ عانساً عدوةً لقصيدةِ النثر، اشترتْ أربعةَ أطقمِ أسنان
من النيكل، لتهزأ من مراسيمِ الدفن.

قبر في الذاكرة
كنتُ أحفر قبراً مهيباً في مدفن العائلة أعمق من جميع القبور وشواهدها التي علاها الصدأ والنسيان. كانت جهشاتي تفيض ينابيع تلبط فيها الأسماك والطيور. كانت عيناي محمرّتين كصيدلية، وعندما تعبت من الحفر، توقفت ريثما يطلع الصباح. في اليوم التالي كنت أشعر بصدع عظيم. استيقظت فلم أجد القبر. بحثتُ في جميع الأماكن التي من الممكن أن أدفن فيها الخالة العزيزة. في المساء شاهدت افعى رقطاء فوق شجرة صفصاف تتسلل بحذر وتقتنص عصفورة نائمة. يا إلهي. لقد كنت أحفر القبر في الذاكرة.
أحلام المجيء
تحلم الزوجة بمجيء الزوج
والأم بمجيء الابن
والفتاة بمجيء العاشق
والخزانة بمجيء اللص.
الزوج يكتب رسائل من السجن
الابن تلدغه حنينات في الخندق
العاشق يغني في الاسر
اللص يتسكع مخموراً في الشوارع.
الزوجة ترملت وذهبت الى مدينة بعيدة
الأم تجهش بالبكاء
الفتاة تترقب كحديقة مهجورة
الخزانة امتلأت من جديد وتحلم بمجيء لص آخر.
العائلة في النهر
الأب في النهر
النهر شبكة
الأم في النهر
النهر سمكة
الولد في النهر
الولد نورس
البنت في النهر
النهر نورسة
الشرطي في النهر
النهر سمكة قرش.

حبال دموع
الماضي من أيامي الذهبية. يجرح نفسي بكآبات ضخمة وطويلة
ويخنقني بحبال دموع.

روح السيّاب المستمرة
تقبلي يا روح السيّاب المستمرة تقدمات محاصيلنا
كلمة من الشاعر. كلمة لامعة كاللهب فوق الذهب
تمزق الصمت المظلم للبوق الذي لا يقبل العزاء.

الى الشعراء الخصيان
لا نريد من ينابيعكم الآسنة التي عطّرتها الشمس بعفونات جثث منتفخة.
{لسنا أولاد كلمات وحيوانات فظة *
{وآباؤنا ليسوا خيالات تافهة على الطريق}
الله ينسى قصائدكم كعجائز في مأتم
ويحفظ قصائدنا كفتيات في عرس.
*. بول كلوديل

موت الرجل الوقور
الرجل الوقور
الرجل المهذب
وقف على شاطىء النهر يلقي الخبز الى طيور النورس
تكاثرت النوارس الجائعة مسرورة
الرجل الوقور مسرور أيضاً
رمى المزيد من الخبز
منحته النوارس صخبها وحنينها وأغنياتها.
فكّر الرجل المهذب مسروراً لرؤية أسراب النوارس متجمعة أمامه.
- ملكي هذه النوارس. قال الرجل. كلها لي.
أخيراً ndash; حين نفد الخبز وشعرت النوارس بالنعاس
أخرج حجراً ثقيلاً من جيب معطفه
ورماه بقوة صوب النوارس.
سقط الحجر على صورته المنعكسة في الماء.
مات الرجل الوقور
مات جريحاً بغطرسته.

فتح روما
بخفته التي لا تحتمل وادعاءته الدونكيشوتية. افتتح السيد محمود المشهداني {من الاخوان المسلمين} رئيس البرلمان العراقي قبل 3 شهور مؤتمر الكفاءات العلمية العراقية في الخارج. أثناء خطابه الذي ألقاه بعصبية واضحة. أخبر كل الكفاءات الموجودة انه قد كتب 3 أبيات من الشعر العمودي للترحيب بهم. بعد أن ألقى شعره الحلمنتيشي المتكلف راح يرتجل خطبة أخرى حول دحر الارهاب بالعراق وتوفير فرص العودة لهذه الكفاءات العلمية لخدمة العراق وأشياء غريبة أخرى. كان أغرب ما في خطبته قوله في نهايتها بعصبية واضحة أيضاً: {لن تقوم الساعة حتى يفتح المسلمون روما}. رئيس البرلمان هذا نسى هنا وظيفته البرلمانية الديمقراطية وراح يبشر بقرب فتح روما من قبل جهاد وصولات وجولات المسلمين وفاته أن روما مفتوحة لكل من يريد دخولها. لا البابا ولا الحكومة ولا الشعب الايطالي يمنع أولئك الذين يريدون دخولها والاقامة فيها.

لا جلجامش ولا داروين في العراق الآن
يضفي التراث الميثولوجي الشيعي على شخصية الامام علي ابن أبي طالب صفات ومناقب تتنافى وشخصيته الواقعية الطيبة السمحة والمعروفة لنا. احدى هذه الاساطير تجرده من انسانيته الحقيقية وتقوّله مالم يقله في حياته، و تتحدث انه حين طعنه ابن ملجم بخنجره المسموم وشعر بدنو أجله. قال لولديه الحسن والحسين اذا متُّ احملا تابوتي وامشيا وسيكون هناك ضياء. اتبعا الضياء الى النهاية. هناك قبرا آدم ونوح، ومن ثم ادفناني بينهما. حملا التابوت وسارا خلف الضياء وفي النهاية وجدا القبرين ودفناه وسطهما. في تراثنا الشيعي يقرأ الشيعة دعاء زيارة الامام علي وفيه ما يؤكد هذه الاسطورة عبر القول: { السلامzwnj; عليكzwnj; يا مولاىzwnj; و علىzwnj; ضجيعيكzwnj; آدمzwnj; و نوحzwnj; و رحمةzwnj; اللهzwnj; و بركاته}. قبل أسابيع شاهدت عبر القناة الفضائية العراقية أحد البرامج التي دأب على اعدادها وتقديمها مدير القناة واستضاف فيها شرذمة من أدعياء الشعر والمسرح. أحد الشعراء المزعومين ادعى وهو يتكلم عن عظمة العراق انه يضم ملحمة جلجامش وحمورابي وسنحاريب وقبور آدم ونوح الخ. هل قرأ هذا الشاعر {أصل الانواع} و ملحمة جلجامش ؟ بالتأكيد انه لا يعرف دارون ولا يعرف اننا من سلالة قرود، كما انه لا يعرف أيضاً أن نوح هو {اوتونبشتم} في ملحمة جلجامش. تكمن مصيبتنا العظمى الآن في هذا الفهم السطحي للأمور وقلة المعرفة عند هذا الشاعر وأمثاله. يا ويلنا لو حصل هذا العبقري على وظيفة معلم تلاميذ في المدارس الابتدائية.

موت الحزب والشاعر والاشتراكية
{كان ذلك في أواسط السبعينات، عندما كلفتني قيادة الحزب الشيوعي العراقي وهي تحتفل بالذكرى الاربعين لميلاد الحزب في 31 / 3 / 1974 لعمل حوار مع الشاعر عبد الوهاب البياتي، وكان يومذاك قد جاء بغداد من القاهرة، وفي الجو ثمة ملابسات حول ما اذا كان الشاعر عبد الوهاب ما يزال على علاقة بالحزب أم لا ؟ والعلاقة التي أعنيها هنا، هي هل يقبل أن يعطي حواراً في الذكرى الاربعين أم انه ما يزال يحتفظ بمسافة عن الحزب برغم انه {على الرغم من انه} لم يكن يوماً ضده منهجاً أو تفكيراً، وعندما وضعنا أوليات مثل هذا الفهم أمامنا ونحن نناقش الموضوع، كان الدكتور صفاء الحافظ والاستاذ عبد الرزاق الصافي والاستاذ فخري كريم زنكَنة والمرحوم شمران الياسري {أبو كاطع} مع اجراء الحوار، وهكذا كلّفت بوصفي أحد أصدقاء الشاعر بأن أجري معه حواراً مفتوحاً حول الشعر والثقافة والجبهة الوطنية والذكرى الاربعين، ودور المثقفين في العملية السياسية وآفاق الحياة الاشتراكية. كان الحزب الشيوعي علنياً في بغداد وفي المحافظات، وله جريدته {طريق الشعب} ومجلته {الثقافة الجديدة} والمقابلة كانت مخصصة للثقافة الجديدة}.
ياسين النصير: {مدن البياتي الآتية} مقال في كتاب {عبد الوهاب البياتي في مدن العشق}
المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1995 بيروت.

وصايا بوذا وزواج المتعة
{لا تقض على حياة حيّ
لا تسرق ولا تغتصب
لا تكذب
لا تتناول مسكراً
لا تزنِ
لا تأكل طعاماً نضج في غير أوانه
لا ترقص ولا تحضر مرقصاً ولا حفل غناء
لا تتخذ طيباً
لا تقتنِ فراشاً وثيراً
لا تأخذ ذهباً ولا فضة}.
وندي التي تحفظ وصايا بوذا هذه، من تايلند، صديقتنا، آنّا وأنا. تعيش بالسويد منذ 9 سنوات. انفصلت عن زوجها السويدي وتعمل في تنظيف المستشفيات وتعيش وحدها في كوخ {ستوكَة} في غابة من أجل توفير المال لافتتاح كازينو أو مطعم في المستقبل. تزورنا ونزورها أحياناً. هي متدينة وملتزمة بوصايا بوذا وتحتفظ له كعادة الكثير من البوذيين التايلنديين بتمثال يجسده ضخماً على العكس من البوذيين في بورما والهند وبعض البلدان الفقيرة حيث يظهر بوذا بمظهر شخص ضعيف البنية. ربما لأنهم جياع ويعتقدون انه جائع مثلهم. ألم يشكّل البشر على مرّ العصور آلهتم على أشكالهم ؟ السيد المسيح في كمبوديا وفيتنام يظهر بعيون صغيرة ووجه مثل وجوه محبيه وعُبّاده في هذين البلدين. في يوم ما دعتنا وندي الى كوخها وقالت: {انني نذرت الى بوذا كيلو تفاح}. ذهبنا الى الكوخ وتحت لهب الشموع ورائحة البخور صلّت الى معبودها وقدمت لنا تقدمتها. أثناء تناولنا للنذر أخبرتنا وهي مهمومة أن حياتها التي تحياها الآن على الأرض هي السابعة والأخيرة ويتوجب عليها أن تحافظ على وصايا بوذا والصلوات اليه من أجل أن تدخل النيرفانا وإلاّ فأن مصيرها سيكون الجحيم. واسيناها وتمنينا لها حياة طيبة مريحة في الحياة وما بعد الموت. صديقي العراقي عبد الكريم سلمان الذي ملّ من حبيته السويدية الثرية والتي يعيش في بيتها منذ 4 سنوات وراح يغازل ويخابر صديقتها. تم طرده شرّ طردة من قبل حبيبته حين أخبرتها صديقتها انه لا يحبها وانه بدأ منذ مدة يعاكسها ويتودد اليها. الملعون في كل مرة التقيه يجعلني أشعر بالغيرة والحسد منه: {هل تعرف يا نصيف كم ثمن هذه البدلة ؟ هل تعرف كم ثمن حذائي هذا ؟ هل تعرف كم ثمن هذه الساعة الخ} أعرف طبعاً أن المرأة الثرية هي التي تشتري له هذه الأشياء وسواها. سلمان متدين ويحرص على اقامة الصلوات كل يوم في أوقاتها وحين أسأله: {كيف تسمح لنفسك أن تعيش مع هذه المرأة خارج طقس الزواج وأنت مسلم متدين ؟} لا يجيب. انه راض طالما انها طيبة معه وجميلة وثرية. بعد طرده ظل أكثر من 4 سنوات يبحث عن امرأة فلا يجدها. في يوم ما وأنا ووندي وآنّا في بيتنا نشاهد فيلم العرّاب بأجزائه الثلاثة طرق سلمان الباب. استقبلناه بهلا ومرحبا. لغته السويدية لا بأس بها ويستطيع قراءة الترجمة لكنه لا يعرف أيّ شيْ عن ماريو بوزو ولا عن فرانسيس فورد كوبولا أو مارلون براندو وآل باشينو. شرب القهوة ودخّن في الشرفة وبدأ يضجر من مشاهدة الفيلم الطويل. دعاني الى الشرفة وقال لي: {هاي شنو المرأة اللي عندكم ؟}. {صديقتنا} قلت له. {هل هي متزوجة أو مطلقة أو عندها صديق ؟} {لا} أجبته. انفتحت أساريره وقندل وصندل وركب بعيره. {هل تستطيع أن تعرّفني عليها. لك بشرفي قتلتني العادة السرية}. {بس هي بوذية متدينة وأنت مسلم}. {سأحاول أن أقنعها ونتزوج زواج متعة} قال لي البغل بثقة. {لماذا تعتقد انها توافق على اقتراحك ؟}. لم أفلح في اقناعه طوال أيام وأمام الحاحه وكثرة اتصالاته المزعجة في الليل والنهار طردته وقطعت علاقتي به.

طائر البلشون
طائر البلشون يجرح نفسه عند الظهيرة. محاطٌ في التحننات والعطور التي بعثرها الزمن. طائر البلشون ملك المغامرين في حلبة أعياد العالم. يراقبكم في ظهيرته التي لا تنتهي. لماذا تنسخق الكلمة على اللاهوت ؟ طائر البلشون يتكىء على جرحه. أنهار كلمته تضيء تحت أرض الليل.
سنبلة الرأس
قلعة الضوء
وسطوع الحشرة
رموز للعزلة الداخلية.
يد التمثال المشققة التي يبللها في الينابيع
يد وديعة تكتظ بخرائب نجوم أخرى.
تتألق التجديفات مع اللذة المولودة في العزلة.
طائر البلشون وقصيدته يتنفسان الهواء الطلق في غابة الرموز.
القنديل على ضوئه
حصان يحمحم عند نبع.

غيوم كثيفة
العشب فوق السفوح، مرايا ضخمة تعكس جمال الهاوية. شمس الجسد. شمس عذراء تلتحم مع الثلج في شوقها لعناق الليل. هذه سماء تتشقق في صعودها النابوليوني. سماء غيوم مشققة. المنفى قصيدة تقاد عبر التخوم الغريبة. ظلال فوقية. ظلال التعارضات التي تهدم التعارضات.
العقائد مصائد.
الظلال العاطفية للماضي تجمد ظهورنا المحدودبة والمعضوضة من قبل الحاضر.
ثآليل. كدمات. يرقات تئن في سجون أرواحنا.
نظراتنا تتقلص من شدّة الرصد. تنسحب مهزومة الى الداخل.
النهارات سود وتبتسم كالدم.
هل الشمس اليابينة تشبه الشمس الصينية؟
متى تعفى الذبيحة من الذبح؟
نندب المعصية
نندب الغفران.
رواد الفضاء الأوغاد حطموا أحلامنا في الوصول الى جنة ما.

حسب الشيخ جعفر 1
حسب الشيخ جعفر المولود في مدينة {العمارة} عند ناحية هور {السلام} عام 1942. كان مكلفاً بنقل البريد الحزبي الى الحزب الشيوعي في سن ال 16 سنة وكان ينقله في ياقة قميصه من العمارة الى بغداد ويسلمه الى صالح دكله في مقهى بساحة {السباع} {هل كان أخيه الأكبر د صاحب أبو جناح شيوعياً قبله ؟}. كانت الكتب الممنوعة والأدبيات الثورية التي يقرأها، يخفيها بين طيّات نخلة في دار العائلة {مجموعته الأولى عنوانها نخلة الله}. عام 1960 يرشحه الحزب الشيوعي العراقي في بعثة دراسية الى موسكو {معهد غوركي للآداب} وهو بعمر ال 18 سنة حيث سينال شهادة الماجستير في الآداب بعد 5 سنوات في الأدب الروسي. عند انهاء دراسته وعودته الى بغداد، سيحاول تغيير هيئته بسبب ملاحقات النظام العارفي له وللشيوعيين {لحية طويلة. سروال جينز. نظارة سوداء} كما يقول د خالد السلطاني في مقال له منشور بموقع {الحوار المتمدن}. بعد سنوات من الاستقرار ببغداد والبطالة سيجد لنفسه وظيفة {مترجم} في السفارة الروسية ببغداد. يذكر فاضل العزاوي في كتابه {الروح الحيّة} أن حسب العائد للتو من موسكو. طرق باب شقته في مطلع العام 1966. سكن معه وغادر الشقة بعد اسبوع بحجة انها تخلو من ورق التواليت. حسب سيستأجر شقة مع حميد سعيد الذي كان يواصل دراسته في الجامعة المستنصرية. في أعقاب انقلاب عام 1968 الذي قاده حزب البعث وفي ما أسموه {30 تموز} الذي تم فيه الانقلاب على رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف وعلى ابراهيم الداوود. عاد حسب في أواخر الليل في ذلك اليوم من حانة الى الشقة، لكنه فوجىء بمجموعة من المدنيين المسلحين الذين كانوا يملأون الشقة وطلبوا منه الصمت والنوم. هذه المجموعة كان يقودها صباح ميرزا الذي أصبح فيما بعد المرافق الشخصي لصدام. بعد سنوات سيعرف حسب من خلال حميد سعيد أن هؤلاء وغيرهم كانت لديهم أوامر حزبية في الانتشار بعدة مناطق من بغداد لغرض انجاح الانقلاب الذي تم فيه ابعاد رئيس الوزراء خارج العراق.
الفردوس في نهدي الشجرة
نريد من اللامكان مساحة مزروعة بالبياض
نريد من الماوراء. من اللاشيء، الديمومة التي تتمدد في الفضاء الرحب.
في مرايا الأموات
في مرايا الكوارث. تصعد أشجارنا ملطخة في ذرقها اليابس.
هنا تماثيل حيوانات تغني على قمم الفجر
تماثيل غاليلو وانعكاس مرآته الخضراء.
تماثيل الشاعر التي تحملق في قرونها وتأسر الفراغ.
الفردوس في نهدي الشجرة.
أين ولّت ابتهالاتنا في المعبد ذي السلالم الضوئية ؟
كلمات تناسلية تنفصل عن مياه الأنهار وتصعد الى الأعلى
الى منارات الصيف. كلمات الصاعقة والجذور الجائعة والنهمة للشمس.
هذا هو بيت الكائن وصمته المرفوع فوق المرايا.
صمت الطير المعلق بين الأرض والسماء
صمت الليل الذي يتمرد في اللهب
صمت يتماثل للشفاء ويمطر على الكهوف
صمت الماوراء
صمت المسالك المهجورة التي تواري الشمس
صمت الموت الذي بلا عمر.
خشخشات
وخطوط منحوتة في اليد من أجل البياض وعصائره المتشابهة دائماً.
قبور تولد في الظل.
زمن مستعاد
زمن غيوم مقذوفة على الأرض الخربة.
حسب الشيخ جعفر 2
في الشهور الأولى لوصول حسب الى عمَان من عام 1996، تلقى دعوة من جهة ثقافية في دولة الامارات العربية عبر الشاعر أحمد راشد ثاني وكان قلقاً بسبب ضيق الوقت والاجراءات التافهة التي تتعلق بدخول العراقيين. ذهبنا الى غاليري الفينيق وتولى الشاعر علي الشلاه مهمة مخاطبة تلك الجهة الثقافية عبر الفاكس. أجابوه أن تذكرة الطائرة والفيزا وبطاقة الدعوة ستكون جاهزة خلال أيام قليلة. حسب لم يصدق وشعر بالخوف واعتبر أن التعامل عبر الفاكس ربما يكون ممنوعاً. أخبره علي أن الفاكس غير ممنوع في الأردن وانهم بصدد شراء جهاز كومبيوتر ووالخ. في أبو ظبي بعد تقديمه قراءات شعرية ستتم دعوته الى جلسة خاصة يقيمها المطرب أبو بكر سالم ويحضرها الرئيس اليمني المخلوع علي ناصر محمد وفخري كريم وهو. صاحب الدعوة الثري سيجلب فتيات راقصات وما بين الطرب والشراب {توهمت انني في ليلة أنس من ليال العهد العباسي. السقاة والجواري والطرب} قال لي بعد عودته. في اليوم التالي لهذه الحفلة ذهبوا الى البحر وأحضروا له ملابس السباحة وفاتهم أنه عندما يكون معي بالبيت لا يخلع بيجامته أو بنطاله إلاّ اذا اختفيت في المطبخ أو الحمام. وهذه الحالة نعرفها نحن الذين عشنا معه. لم يسبح حسب في البحر معهم قط.

المنفى
شواطىء ونافورات نجوم لا ترى إلاّ باللمس.
بوابات كبيرة من الفضة مرفوعة بين الليل والنهار.
لماذا تعبد الماضي وتبكي عليه؟
المنفى يخترع الأضواء وأعياد المستقبل الذي يتكىء على نفسه في صفاء الفجر.
المنفى يفتح أمامك طرقه اللامتناهية والنوافذ المجهولة للغتك التي تكاد تنقرض.
المرايا العميقة التي تصالح المنفيين. تصطف بانتظارك عارضة نيرانها الساهرة
بكتاباتها حائلة اللون لتدلك على الساعات اللازمنية.على الجوهر المحروس
الذي يصارع داخل نفسه من أجل الشعلة الأسيرة، حيث يتسلل النهار ويرفع
الغيوم من حدائقها النائمة.
المنفى وقت البحر وأرضه المتحركة حيث لا ظل أسود ولا صدأ.
وقت الصقور التي تتضرع لذهب الصيف.
وقت الميت الذي يرفع بيت الثعلب.
وقت اخوة العظم وهو يلمع بين أذرع العشب للسنة المكسوة بصفرة الشمس.
هل هذه أشجار حياتك، تأكلها العفونة، أم عظام منقوشة في أروقة الهاوية ؟
تسلحت بالتعب. التعب الذي ينفتح فوق شفتيك.
فراشاتك التي بلا ريش تطير لا في الحدائق المليئة بالقناديل.
تطير في الرماد الذي يضيئك، ورسائلك المتحمسة للهواء تنقصها النجمة المستريحة فوق حافة الظلام.
يا تلميذ الألم
أنت نفسك
يا ابن التراب وأغنيته الشجية
يا ابن رمادع
وابن لوعته.
المنفى سماء عظيمة من الهواء الحرّ يربض فوق انعكاساتها اللامرئية
الليل بكل أحجاره وضفافه الفسفورية.
مدن / أمهات، تلمع كما لمعان عقيق في الحماد الغريب.
أعشاش طواويس في أشجار لغات.
لا الحروب
لا الخشخشات
لا ليل الجروح
لا الندبات
لا منعطفات الثلوج العابثة في داخلها الأسلحة المحطمة
لا القتلى في أقنعتهم التي من زبد متجمد.
مياه نجوم خضر على الصلصال.
أزمان ظلال تختفي خلف معناها
ودائماً نفس الشفاه الممسوكة بالأرجوان.
لماذا لا ننثر بذور الشمس على الأرض كلها ؟
لماذا لا نعلق القناديل فوق ليل الشاعر ؟
الوطن أصغر من حبة قمح والمنفى ينفتخ على طرق المرتفعات اللامتناهية.
أرض ضروع تضمّد جروحك وتستقبل أحلامك
وتحنو عليك مثل نهر أشدّ حنوّاً من صاعقة.
السيدة الشفيعة

bull;للحب صورة اخرى قد تختلف عن صور مجايليك من الشعراء بماذا تبرر ذلك..؟
ربما لعلني عاشقاً طوال حياتي وقد أضفيت قيمة زائفة على المرأة التي أحببتها من خلال الشعر وحوّلتها الى رمز لكي أحتفظ في الجوهر المثالي للحب. للحب كما هو معلوم طاقة عظيمة في الشعر وهو أحد الموضوعات الكبرى طوال التاريخ وفي سعينا الدائم الى امتلاك المحبوب، نعرف اننا مرضى وأنا أعتبر نفسي من مرضى الوجود. حاول الكثير من شعراء الثمانينيات تقديم قصيدة حبّ لكنهم فشلوا ولا نتذكر الآن أيّ قصيدة حبّ لشاعر منهم والسبب يعود الى انهم كتبوا قصائد حبهم وفق التقليد والذاكرة الجمعية للشعر العربي والتجارب التي سبقتهم. امتزج حبي دائماً في الموت والتحولات الكبيرة في الزمن ولذلك بدت قصيدتي وكأنها محاولة للخروج من نفق الموت / الزمن، وعلى الرغم من امتلاكي لنساء كثيرات في حياتي وآخرهن اوروبية شقراء تعيش معي منذ 8 سنوات، لكن صورة تلك الفتاة السمراء التي أدعوها السيدة {الشفيعة انخيدوانا} ظلت عالقة في ضميري طوال حياتي. نعم انها تجربة عاثرة وحب من طرف واحد ويبدو انني أحبّ الحبّ وليس امرأة واقعية من لحم ودم. يكمن عزائي الآن في العيش بالجوهر الحقيقي للحبّ عبر معايشتي له في الأحلام والأشواق والذكرى الحارة لصورة المحبوب وأنا أتكبد الخسائر الكبيرة في ناره ورماده. وفي سعيي للخلاص من هذه النار وهذه المتاهة اكتشفت انني لم أقطع علاقتي مع فتاتي هذه وظل تواصلي الحميم معها يتم عبر اللقاءات العابرة والرسائل الدائمة والمحبة التي تستعر جذوتها عبر كل لقاء وكل همسة أو لمسة. حبي هذا كان وما زال أحد الينابيع الشعرية في حياتي ولولاه لكنت قد تحجرتُ أو انتحرت.

غجري
تحت ظلال أشجار البنايات المثمرة طوال العام
عيناك تدمعان في وهج الظهيرة وحبيبتك تغني في غرفة المحررين
هي في الأحجار المبعثرة من حولك
وهي في الظلام
وهي في السواد الذي يلفك
أنت الغجري الذي لا تعرف شيئاً عن شجرة نسبك ولا الألقاب الفخمة
ستهجر الأرض الخادعة والمرأة الخادعة
ستحفر تراباً بلون الذهب
وتشم عطوراً بلون الشعلة
تعرفك الجبال والثكنات والأرصفة
ويعرفك الجياع العزّل الذين يحيون بلا مستقبل
لأن المتسلقين كانوا يحتشدون تحت السلالم
كنت تحلم أن تكون حرّاً وطليقاً لتنام في بيت أو على مصطبة في
ساحة {النصر} مع جان دمّو.
كانوا يودون لو تقتل فوق جبل {كردمند} بينما هم يأخذون
رغيفك الحار أو يتفيأون تحت ظلال موتك الباردة
لأنك لم تبحث يوماً عن المجد في الرمال ولا عن الطحالب في المستنقعات
ولا عن العطايا القذرة التي يحصل عليها المتسلقون بينما العفن يأكل أرواحهم.
ها أنت في {قصروك} تنام في مخفر وتحلم بتجوالات طويلة مع انخيدوانا
وها أنت في {أربيل} تسكر في فندق {نركّز}
وها أنت في {بعشيقة} تقود فصيل استطلاع عبر غابة زيتون
وها أنت في {ديكَه له} جالساً تحت ليل مقبرة تكتب رسالة الى صديق
-: {ما الذي تفعله بنا النساء يا صديقي ؟ لسنا خنازير ولا لصوصاً
ولا تجّاراً ولا ضبّاطاً وسقف بيتنا ليس من خشب الدولة}
وها أنت في بغداد مع شاعرة تراها جميلة وهي قبيحة
وتتسكع مع كاظم النصّار في {الوزيرية} و {الباب الشرقي}
الجيوب فارغة إلاّ من قصائد لا تنشر والعيون تدمع من شدّة الجوع
تفكران في السرقة وتحلمان بالخبز والنبيذ والسفر.
{عبثاً تحاول الاستراحة. عندما تملك الوقت، تملك الحرية}.
ها أنت في {الرفاعي} لدى قاضي التحقيق وكمجرم يضعونك رهن التحقيق
تفكر في امرأة تغني في غرفة المحررين:
{يا أم الرحمة
هل هذه نهاية شفاعتك؟
هل يتوجب عليّ أن أموت وأنا في ذروة المأساة؟
لستِ جميلة يا شفيعتي
لستِ جميلة
والعاشق الأكثر روعة هو الشفيع
هكذا كنت تقول لنفسك وأنت تتمزق
أنت الذي تلاحقك الأحقاد
أحقاد الطحالب ويحاولون تهميشك ويطرودنك من جنتهم العفنة
لأنك كنت عاشقاً وأخفيت عنهم.
سلام على ليالي السجون العادلة
على التقززات
والتنكيلات
سلام على النهارات السود والسفوح.
أنت الآن في شارع {الرشيد} تضمّد جروحك التي تلتئم ولا تلتئم
تحت ظلال أشجار البنايات القديمة المثمرة طوال العام
وتتأمل بذعر رجال الشرطة في المنعطفات
واذا كنت في بار {شريف وحدّاد} فانك تكون سعيداً
وعلى الطاولة زجاجات بيرة وليمونة جافة.
أنت مذعور، ترى نفسك مشنوقاً على أيّ شيء
وتسير عقارب ساعة {القشلة} سيراً عكسياً
وأنت تعد أعوامك التي تذبل بسرعة
{لقد قمت برحلات ومررت بتجارب
مفرحة ومؤلمة
قبل أن تلاحظ الخداع والتقدم في السن.
غداً تصبح المروءات صخراً
والزمن نسمة تهب نائمة على الغصون}
لهذا لم تقرف من الشاعر الذي كتب اسم حبيبته على زنده
وارتدى أسمالاً بالية في الهجوم على {سيدكان} ليلة 9 / 9 / 1985
في تلك الليلة كانت الأرض حمقاء والسماء سافلة.
شاهدت أحشاء الزهور ولا تريد نسيان طبعات غدرها
هي الشفيعة والجريمة المنقسمة كشجرة صبّار
حين تفتح فمها وتتحدث. تسمع الأكاذيب في العشب.
وجهها السخام
وجهها حشرة
كانت شفاعاتها فحماً راسخاً كشعلة الخديعة
كنت تتمزق في عزلتك وهي تتعهر مع أشباه رجال
كنت كنار تطاردها الأنهار ولم تقرف من الذين يجرعون ماء البغاء
والعجائز ذوي النظرة الخضراء الذين يعشقون الغلمان ويحرقون
شفاههم في الصمت
بل سخطت عليهم وقلت {نعم يا مخنثي الشفيعة
ذوي اللحم الورم
والعقول القذرة.
مجاري الوحل
أيها الأعداء الساهرون}.
تحت ظلال أشجار البنايات المثمرة طوال العام
تألمت في الحب في العشرين والثلاثين من عمرك
ولقد عشت كمجنون وأضعت أيامك
انك تنظر وعيناك تسكبان الدمع الى هؤلاء الأكراد المهجرين
انهم يعشقون فضاءاتهم وتراب حقولهم والنساء يرضعن أطفالاً
انهم يملأون بعطورهم ومواشيهم سماء {ديبه كَه} ويأملون أن يجمعوا
مالاً في {دشت حرير}.
انك تجلس مفلساً في بار قديم بحي {آزادي} تحتسي الخمر مع العمّال
{الخمر يزيل الرائحة. رائحة الفقر، والنقود لا رائحة لها}
وفي الليل عندما تعود الى الثكنة وتسرق النقود من حقائب العرفاء وتكون
في مطعم كبير.
تفكر في شاعرة تراها جميلة وهي قبيحة:
{أرغب أن أموت وأنت ما زلت تحبني
وأنت تراني جميلة}.
كانت تقول لك ذلك قبل أن تهجرك.
أن يديها اللتين لم أرهما قاسيتان ومشققتان
أشعر الآن بالعطف الذي لا حدّ له لشحوب وجهها وهزالها.
تلك كانت أيام سرورك
أيام حزنها وترملها.
انك عريان والبرد قادم
وأنت تفترش هذه الأرصفة المهدمة
كما تفترش حياتك.

صعاليك
تطالعنا بين آونة وأخرى كتابات صحفية سريعة شأنها شأن الثقافة العراقية في الداخل، لصحفيين هواة وبعض الكتَاب تتحدث عن الصعلكة والصعاليك من دون تمييز بين من اختاروا الصعلكة اختياراً واعياً كموقف من العالم والمجتمع والسلطة والعائلة، وبين بعض الناس اللطفاء ممن ابتلوا بالادمان المفرط في احتساء الكحول. ويعتقد أغلب أصحاب هذه الكتابات انهم في عملهم هذا يحققون فتحاً أو يكشفون
اقرأ: العالم يتداعى: الواقع السماويلأرض سدوم
عن طرافة عبر التحدث عن بؤس وفقر ونبل الصعلوك، لكن الحقيقة المرّة هي انهم يقدمون اساءة بالغة لمفهوم وشرف الصعلكة الذي نعرفه، وللتمييز بين الصعلوك وبين الكحولي أود القول أن الأول ينتج ابداعه دائماً ويكرس له حياة كاملة ويتصف بطباع وشخصية لطيفة ومرحة، تمتزج أحياناً بفذلكات سوريالية محببة يفتقدها أولئك الذين يحيطون به والذين يهربون من دفء بيوتهم وصرخات زوجاتهم وأولادهم ومحيطعم الاجتماعي المعادي للحرية التي يحملها الصعلوك. بغض النظر عن حبه للكحول وعدم وجود وظيفة رسمية ثابتة له في مؤوسسة ما تمنحه الراتب الوظيفي ومعيشته شبه الدائمة على عطايا الأصدقاء و الجوقة التي تحيط به أينما حلّ وارتحل، أمّا الكحولي فهو ذلك الانسان الذي أصيب بمرض الادمان ولا يستطيع التخلص منه إلاّ بخضوعه لأشراف وعناية طبية في مراكز معالجة الادمان، ومعلوم أن الانسان الكحولي ينسلخ بمرور الأيام عن محيطه العائلي والاجتماعي ويعيش على الهامش من خلال نمط حياته الذي يؤدي به الى أناس هم على شاكلته تماماً. حسب المعلومات الطبية لدى أهل الاختصاص، أن السكّير. المدمن. الكحولي. العركَجي. يصاب بجين يسبب الادمان ونسبة الذين يصابون بهذا الجين تتراوح بين 12% و15 %، والكحولي هو الوحيد الذي يستطيع أن يحتسي الكحول بمفرده، أما الانسان غير الكحولي فلا يستطيع الشراب وحده سواء كان في البيت أو في غابة أو في أي مكان آخر. يعيش الصعلوك في البيت أو في الفندق اذا كان قادماً الى بغداد من محافظة أخرى ويقضي جلّ أوقاته مع الناس العاديين والأصدقاء في المقهى أو المكتبة ويذهب الى السينما والمسرح، ويرتاد الحانة في أوقات معينة لأن جسمه غير مشبّع بالكحول وجهازه العصبي هادئ تماماً، وأفضل الأوقات عنده تكون المساءات والليل. النقود ليست مهمة بالنسبة للصعلوك اذا أراد الكتب أو الشراب أو الطعام أو الملابس أو بقية الأشياء الأخرى طالما انه ينتج ابداعه ويحيا حياته حسب الأنماط التي اختارها هو. تأتي النقود بسهولة من المحيطين به. لا يستجدي الصعلوك أحداً وحين يكون عنده المال يوزعه ولا يحتفظ به أبداً مهما كان حجمه وشكله ولونه. لا مال للصعلوك إلاّ عطور وورود الصداقة والصحبة الكريمة، أمّا الكحولي العاطل عن الفعل والمريض والعصبي والشتّام، فيكون وجوده في مكان ما نكبة وحالة بائسة، اذ يتوجب على المرء عدا منحه النقود بشكل يومي ومستمر، أن ينصت لشتائمه وثرثرته غير المجدية وشكواه المستمرة وبكائه واساءاته البالغة للمكان والحضور.
في الثمانينات كان الوسط الثقافي الموبوء ببغداد قد أطلق تسمية مربع الصعلكة علينا أنا وجان دمو وحسن النواب وكزار حنتوش لا لشيء سوى اننا كانت تجمعنا ظروف معينة غير طبيعية في تفكيرنا وطيبتنا ونمط حيواتنا ورؤيتنا للعالم والمجتمع والأشياء. جان دمو من كركوك ويعيش في بغداد بفنادق رخيصة أو مع أصدقاء ولايأبه بأية وظيفة أو عمل، يكتب الشعر ويترجم عن الانكليزية في فترات متباعدة جداً، القي القبض عليه في أوائل الثمانينات من قبل عناصر الجيش الشعبي وتم سوقه الى أحد القواطع في جبهة الحرب. كنا قد افتقدناه كثيراً لكنه عاد بعد شهور بعافية عالية وقال: {لقد أشبعوني الدجاج واللحم وكانت عندي قريولة وفراش وأنام بالمجان. خوات القحبة القاذورات دمروني بالتدريب بس ما تعلمت شلون أرمي بالبندقية القحبة} , كزار حنتوش خريج معهد الهندسة العالي، يأتي الى بغداد مرة أو مرتين في كل شهر من أجل استلام مكافآت قصائده ولقاء الأصدقاء والتصعلك في الحانات وشراء الكتب. تم سوقه الى الخدمة العسكرية الالزامية جندي احتياط لمدة سنتين في أحدى جبهات الحرب. هرب في الشهر السادس وسيق الى محكمة عسكرية قضت بسجنه فترة معينة، حين تم تسريحه بعد أن أمضى سنتين في جبهة الحرب وذهب الى تجنيد الديوانية لاكمال معاملة تسريحه، قال له ضابط التجنيد: {يا بعير ابن بعير لبّسك احتياط ووداك للجبهة ؟ ليش أنت حمار ما تدري أنت مشمول بأمر الريس ؟. الخريج من معهد الهندسة العالي والمهندس ما تروح مواليده للحرب ولا مشمول بالخدمة} أمّا حسن النواب سائق الدبّابة في أحدى جبهات القتال والذي كان دائم الهروبات من الخدمة العسكرية ويقضي أكثر أيامه ببغداد بعيداً عن بيت أهله في كربلاء خوفاً من القاء القبض عليه من قبل المفارز الأمنية والجيش الشعبي، فقد كان مثلي يتسكع بنماذج اجازة مزورة ويتجنب المرور بالمناطق والساحات المزدحمة وكان يذهب الى الحانة والى نادي اتحاد الأدباء سيراً على الاقدام حتى لا توقفه سيطرة استخبارات أو انضباط عسكري أو جيش شعبي. في تلك الفترة التي أتحدث عنها لم يكن بيننا من هو كحولي. كنّا نشرب في الليل فقط وأحياناً نذهب الى حانة ونشرب البيرة هروباً من الطقس الحار في الصيف بعد أن نمضي ساعات طويلة في جو مقهى حسن عجمي الخانق بفعل الثرثرة المعتادة ودخان النرجيلات وصياح الرواد وهم خليط لا متجانس من العاطلين والمحامين والمتقاعدين والبقالين والرسامين والتجار والشعراء والكتّاب والطلبة والجنود.

محني الظهر تحت أوامركم
أريد أن أقول انني لا أتذكر شيئاً عن {صحيفتي العسكرية} إلاّ أيام الغياب والهروبات والعقوبات.
هنا يتمشى رجلان تحت مظلة متهرئة. أيديهما فارغة وهما يستعطفان. الرجلان اللذان نراهما الى جانب تمثال الرصافي عام 1987 كانون الأول كانا مسلحين ويحلمان بالقاء القبض عليّ.
على أيّ وجه سنقذف بالبصاق؟
على أيّ قبر سنكتب أسماء القتلى؟
انها لنا هذه الأشجار العالية اليابسة من أجل التوابيت واحراق الأكاذيب.
والآن ndash; انتهت الحروب وها أنا {عاري الرأس. أنزع عن قدمي مشبك دراجتي باحترام وحرج} *
عندما أدخن سيكارة، أضع عقبها في المنفضة
أنا رجل متمدن رقيق ودمث الأخلاق
في اجازتي الدورية أذهب لزيارة أقربائي وأصدقائي ولا أحقد على أحد
وشأن كافة المواطنين الصالحين، أسدل الستائر حال سماع صفّارة الانذار
لم أفعل شيئاً يستحق اقامة نصب لي
هربت من الخدمة العسكرية مرات عديدة
واختبأت في أمكنة سرية كئيبة
حوكمت وسجنت
واعتبرت جرائمي مخلة بالشرف
والآن أنا عاطل عن العمل
لا أملك غرفة ولا غيمة ولا حذاء
ولا ثمن وجبة طعام.
حياتي هامشية.
علّمتني صحيفة {القادسية} أن أحب الوطن وأموت من أجل ترابه
مع انني لا املك ذرة تراب واحدة
وحفظت الحديث الشريف {أرواح الشهداء تعلق في حواصل طيور خضر من طيور الجنة}
ولكي تكتسب ثقافة عالية وتنجح في الحياة عليك أن تقرأ كل شهر مجلة وزارة الدفاع {حرّاس
الوطن}، باستثناء بعض الأكاذيب الصغيرة.
حتى الآن ndash; لا اعرف وزن بندقيتي.
في الليل {أجلس في شرفة الفندق وحيداً
القمر الجميل يلمع في مقدمة حذائي
أجلد عضوي الجنسي
وعلى وجهي
أكتب كركدن}
ليست لي عشيقة
ولا أملك النقود لكي أذهب الى المبغى وشكله الشبيه بثكنة
أحياناً أقف ساعات في الطابور
لو اصبت بالاكزيما
بالبثور
بأيّ مرض جلدي
هناك أنواع المراهم
لقد عشت حياتي كما أنا
الجميع يمكنهم سحب كلماتهم
لا أقبل شروط أحد
يتحتم عليّ أن اعبر الحشود المكتظة
عبر أسراب الذباب
عبر كل الذين عرفتهم واحداً واحداً.
ها أنا الآن ndash; غطيت نفسي بنفايات الفشل
وعلى الرغم من انني أحيا مستقيماً فالمرارة ما زالت تحكم حياتي
أن تكنس العالم من هذه النفايات
فأنت بحاجة الى كاسحة نفايات.
خلف هذا العالم وخزائنه
هناك نفسي الجائعة
في أمعائي اجترار اللاشيء
وفي رئتي عار الذين لا يملكون شيئاً
مغطى بالهامش.
محني الظهر تحت أوامركم.
* فيليب لاركن

* الفصل الثالث من كتاب {صوت سنبلة قمح لم تولد}