عدنان حسين أحمد من لندن: ثمة نصوص قصصية غامضة أو ربما مستعصية لا تمنح الناقد أو القارئ فرصة لملمة ثيمتها المبثوثة في أكثر من مكان بين تضاعيف النص الشائك الذي يوحي غالباً بالانغلاق شبه التام. وأغلب القصص التي يكتبها القاص البصْري لؤي حمزة عباس لا تخرج عن هذا الاطار الذي يضم بين دفتيه صعوبة في التقاط ثيمة القصة التي يكتبها خلافاً لأقرانه من القصاصين البصريين أمثال فيصل عبد الحسن، وارد بدر السالم، قصي الخفاجي، جمال حسين علي، مهدي جبر وجابر خليفة جابر وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم الآن. فهؤلاء القصاصون، على رغم من تنوع أساليبهم وتعدد مدارسهم الفنية التي ينتمون اليها، إلا أنهم يكتبون نصوصاً قصصية قائمة على ثيمات ماثلة للعيان. أما قصة لؤي حمزة عباس فهي قصة مجرّدة تجريداً كبيراً، وإن شئت فهي قصة مُمنتَجة، قُطعت أوصالها، وحُذف من مَشاهِدها الكثير بحيث لم يُبقِِ القاص من ثيمتها إلا النزر البسيط الذي يصل الى درجة الرمز المتواري أو الأحجية المُلغزة التي تتمترس وراء لغة موارِبة قد تصل في كثير من الأحيان الى حد التعمية والتشويش، لكنها لا تدور في فراغ تام لأنها تلوذ بالرمز تارة، وبالثيمة السوريالية أخرى على رغم من النتوء الواقعي الذي تنطلق منه دائماً. ولو تأملنا في قصص مجموعته الأخيرة quot; إغماض العينين quot; الصادرة عن quot; دار أزمنة quot; في عمّان فسنجد دون عناء كبير أنها لا تخرج عن اطار القصة السوريالية التي تستمد نسغها من الواقع، ولكنها ترتقي الى مستوى الرمز الذي ينطوي على قوة كبيرة في الدلالة والتعبير. لا تهدف هذه الدراسة الى الوقوف عند قصص المجموعة السبع عشرة لأنها ذات مناخات متشابهة، وإنما سنكتفي بتحليل ثلاثة نماذج قصصية تمهد الطريق لفهم التقنيات السردية التي يعتمدها القاص لؤي حمزة في بناء نصه القصصي. في قصة quot; إغماض العينين quot; التي فازت بجائزة quot; كيكا quot; كما تُرجمت الى اللغة الإنكليزية العام الماضي ليس هناك حدث قار ينمو عبر عملية تصعيد درامي، إذ تقصّد لؤي حمزة عباس، وهذا هو دأبه دائماً، أن يجرّد الحدث من بُعده السردي المُسهِب، ويأخذ منه جوهره، أو ربما شظية مُعبِّرة من هذا الجوهر. فديدنه لا يختلف كثيراً عن المصور السينمائي الذي يصور العديد من اللقطات والمَشاهد، ولكنه يفسح المجال للمونتير أن يقتطع الكثير من اللقطات التي يراها فائضة عن الحاجة ويرمي بها الى سلة المهملات، ليس لأنها سيئة، بل لأنه يريد أن يمنح القارئ فرصة لأن يملأ المساحات الشاغرة عبر مخيلة المتلقي المنفعلة بالحدث والمُشارِكة في صناعته. هذه القصة بالذات مكتوبة بضمير المفرد الغائب. فهذا الموظف الصحي يقطع المسافة من بيته الى دائرته بربع ساعة لا غير على دراجته الهوائية حينما يخلو الشارع من السيارات حيث quot; يُغمض عينيه تاركاً العالم ينسحب من على جانبيه من دون أن يراه quot; وعملية quot; إغماض العينين quot; تمنحه سعادة لا مثيل لها. يا ترى، لماذا يُغمض هذا الموظف عينيه؟ وما هي الأشياء التي يريد أن يتفاداها أو يبعد نظره عنها في الأقل؟ لا يزيد واجبه اليومي عن تدوين أسماء المراجعين الى هذا المركز الصحي الذي لا نعرف حتى إسمه، وتوزيعهم على أطباء الباطنية والجلدية والأطفال، وإستلام المبالغ المادية عن المعاينات والفحوصات الطبية. ليس لهذا الموظف تفاصيل كثيرة في دائرته، إذ يغمض عينيه حينما تنتهي المراجعات وكأنه يحس بانسحاب الموضوعات من حوله كما ينسحب العالم من حوله كل صباح وهو يقود دراجته الهوائية من منزله الى الدائرة وبالعكس. ينظر الموظف من فوق شباك غرفته الى الساحة الترابية فيرى سيارة بيضاء تتوقف في منتصف الساحة الخالية. يترجل سائقها ليدخن سيجارة. ثم ينزل رجلان يضع أحدهما يده على كتف رجل معصوب العينين ويدفعه باتجاه الآخر الذي يُجلسه بعنف على ركبتيه. ببرودة دم يطلق أحدهما ثلاث رصاصات متتاليات على الرجل معصوب العينين. حينما يعود الموظف الى منزله بعد انتهاء الدوام الرسمي مُغمضاً عينيه لم يحس بأي شئ وهو يندفع في ظلمته الرمادية. كان يرى فقط quot; اليد ترتد مع كل اطلاقة. وكان الرأس ينتفض! quot; لا شك في أن الموظف، أو قاطع التذاكر هو البطل الرئيس في القصة، لكن التفاصيل التي يوردها القاص بسيطة وعادية ومألوفة ويمكن أن يمر بها أي مواطن عراقي في المرحلة التي أعقبت الاحتلال وقد حددها القاص بين عامي quot; 2003 و 2007 quot;. إن رصد الظواهر العادية والتقاطها وتمثّلها هي عملية شاقة إذا كان الهدف منها هو ترويضها وإذابتها ضمن السياق الابداعي للنص القصصي الذي يميل دائماً باتجاه التقشف والمجاز والترميز. وعلى رغم من عادية بنية السرد الوصفي إلا أن القاص يلجأ الى التصوير الرمزي الذي ينتشل القصة من سياقها العادي الذي يمثل معادلاً موضوعياً لراهنية الواقع في تلك اللحظة، ليرتقي بها الى المستوى المجازي الذي يحلّق بالقارئ الى الفضاء الابداعي المتوهج. تتمثل اللعبة المجازية التي يتبناها القاص في رصد حالتين نفسيتين وهما حركتهُ في الظلمة الرمادية المحببة أو تلّقيه للضوء المضبب المنبعث من قلب هذه الظلمة الناجمة عن إغلاق العينين. وحينما نغلق، نحن القراء، أعيننا نرى بوضوح حركة هذا الموظف الذي ينتقل كل يوم من منزله الى المركز الصحي مغمضاً عينيه عن أشياء كثيرة بما فيها إطلاق الرصاص بدم بارد على شخص معصوب العينين لا يرى من ضراوة الواقع ووحشيته إلا ما يراه الموظف المندفع في الظلمة الرمادية بعينين مغمضتين في رابعة النهار.
المناخ الفنتازي
تعتمد قصة quot; رجل كثير الأسفار quot; على بنية غرائبية في تصوير الحالة النفسية المروعة التي يمر بها هذا الرجل المجهول الذي يتردد على بغداد مرة في الأسبوع أو أكثر من مرة كلما تلقى إتصالاً هاتفياً. لا شك في أن مفتاح النص يكمن في الاتصال الهاتفي الغامض الذي يضطره للقدوم الى بغداد على رغم من خطورة الطريق في السنوات الأولى التي أعقبت الاحتلال. لقد جرّد القاص هذا الشخص الغامض الذي يسافر الى بغداد كثيراً كما يجرّد الرسام عملاً تشخيصياً لا يبقي منه أي ملمح من ملامحه الخارجية وكأنه يريد أن يحيل القارئ بقوة الى ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة للعيان. ومع ذلك فإن القارئ سيعرف من دون عناء كبير بأن هذا الضحية سيُقتَل لأسباب عِرقية أو طائفية أو دينية. وقبل وصوله الى بغداد، أي في منطقة الخطر المُشار اليها سلفاً، سوف يُذبح هذا الشخص كثير الأسفار على قارعة الطريق، لكن القتلة لم يفصلوا رأسه عن جسده كما فعلوا بالضحايا الآخرين الذين فُصلت رؤوسهم عن أجسادهم quot; واكتست أعينهم بطبقة من سائل كثيف البياض quot; ولكي يلعب القاص لعبته العجائبية التي تنتمي الى الفضاء السوريالي الذي أعدّ له مسرح الحدث اعداداً جيداً في محاولة لخلق جو quot; فانتازماغوري quot; يتخلله الغموض والتناقض وكأنه يوحي لنا بأن هذا المشهد الغرابئي الذي جسّده لنا هو أقرب الى طبيعة العقل الباطن الذي يسرّب لنا صوراً يعوزها النظام والمنطق والدقة الموضوعية. فلا غرابة أن يفتح هذا الرجل المذبوح عينيه، ويضع يديه على الأرض، وينهض على رغم من فداحة المحنة التي يمر بها. بدأ يمشي في منتصف الطريق، ثم أخذت خطواته تتسع شيئاً فشيئاً الى الدرجة التي لم تستطع فيها السيارات مجاراة خطواته أو اللحاق به. سوف يصل هذا الرجل المذبوح الى بيته، وسيلج من الباب المُوارب قاصداً غرفة النوم، فيما تعتقد زوجته أن ابنها قد عاد من المدرسة، إذ لم تكلف نفسها عناء النظر اليه، فيما يدخل الرجل المذبوح الى غرفته ويتمدد على السرير. وحينما تلج زوجته غرفة النوم تُصاب بصدمة مروعة وهي ترى زوجها يحدق باتجاه السقف بعينين مفتوحتين مكتسيتين بطبقة من سائل كثيف البياض.
عدسة العالم المشروخ
لا تخرج قصة quot; العدسة quot; عن إطار القصتين السابقتين لما تتوفر عليه من جو غرائبي يشير الى السنوات الأربع التي أعقبت الاحتلال. إذ أصبح القتل والتصفيات الجسدية ظاهرة عامة، وربما عابرة لا تثير الانتباه إلا بالكاد. في هذه القصة تتوقف quot; سيارة خاصة quot; بيضاء اللون أمام إحدى الحافلات في كراج ما. يترجل منها اثنان، يأمر أحدهما شخصاً ما ( لا يعرف عنه القارئ شيئاً ) بالنزول. وعلى رغم ممانعته ينزل من الحافلة ليواجه مصيره المحتوم، إذ يسدد هذا القاتل المجهول فوّهة مسدسه، ويرميه بخمس إطلاقات تاركاً اياه يسقط على أرضية الكراج. ثم يأتي رجل خمسيني يضع نظارة عدستها اليسرى مشروخة شرخاً طويلاً، ويدّعي بأن هذا الضحية هو أصغر إخوته. وحينما يرفعه بمساعدة سائق الحافلة ذاتها ويلقيان بجثته في حوض سيارة حمل صغيرة يخيل للسائق أنه quot; سمع أنّة quot; لكنه لم يتأكد إن كانت هذه الأنّة قد صدرت من الجثة إثر ارتطامها بأرضية الحوض المضلّعة أم من شقيق الضحية! حينما يقترب السائق من شقيق القتيل يسمعه يتحدث عن انكسار عدسة نظارته، وأنه بات يرى العالم مشروخاً الى نصفين! لا شك في أن هذه التعمية هي تقنية مقصودة أراد القاص من خلالها أن يعبّر عن جو الغموض الذي عمَّ البلاد في تلك السنوات الأربع. ففي هذه القصة ظل الكراج مجهولاً، كما لم يتعرف القارئ على هوية القاتل أو القتيل. وكأن القاص لؤي حمزة عباس يشير بإصبع الاتهام والادانة الى السلطة التي تتبنى لعبة القرود الثلاثة التي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم! وفي الختام لا بد لنا أن نستأنس برأي الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي الذي منح قصة quot; إغماض العينين quot; الجائزة الأولى حيث قال عنها quot; أن إغماض العينين ليس خياراً وجودياً بقدر ما هو إشارة الى العجز الذي يعيشه الناس العاديون في العراق تجاه الجريمة التي تُرتكب بحق شعب لا يمتلك سوى القدرة على إغماض العينين quot; ثم يمضي الى القول quot; إنها قصة انسانية تعبّر عن فظاعة الظلام.. قصة عن جرح الروح quot;