بوصف الكتابة عالماً افتراضياً نبنيه أثناء عملية التخيل التي تسبق فعل الكتابة، فنحنُ إذن نعيش الكتابة قبل أن نطلق الجملة على الورقة وأنا أعتقد أن ذلك صحيح إلى حد كبير لا يمكن معه أن نتجاهل اندماجنا في الجملة المتخيلة قبل كتابتها، وبهذا المعنى يمكنني القول أن مجهوداً ذهنيا عالياً يبذل في عملية التخيل من أجل النص، يلعب فيها الكاتب كل الأدوار المحتملة للشخصيات والصور والمعاني والمفاهيم بوصفه ممثل خيالي بلا جسد يلعب عدد من الشخصيات في آن واحد ويضع نفسه مكان شخص أو جبل أو حيوان أو سيارة...إلخ إذا بعد هذه العملية التي تبدو معقدة للغاية كيف يتسنى للكاتب أن يعود إلى واقعه. بوصف الواقع هو القوة العظمى التي تفوق الخيال قوةً فإنها تجذب معظم الناس، وبمقدار ما تجذب شخص يمكنها أن تجذبه لاحقاً بقوة أكبر، ولكن من يتوازن لديهم الحياة الواقعية بالخيال الكتابي يجدون أنفسهم وقد سقطوا في مصيدة لا يمكنهم الفكاك منها بسهولة، حيث يؤثر الخيال الكتابي على الواقعي المعاش، فتنعكس الألفاظ وطريقة الحديث والجمل وكل شيء على الكاتب في الحياة اليومية، ويصعب الفصل إلى حد كبير عند البعض وإن بدو أكثر ثباتاً فهم في أوقات معينة يعرفون أنهم سوف ينهارون أمام طغيان الخيال أو طغيان الواقع.
وهذا هو حال كل كاتب حقيقي على ما أعتقد. إننا نتأرجح بين خيالنا الكتابي وواقعنا المعاش، وواحد من أسباب القدرة على استمرارية الكاتب ككاتب هو موازنته بين عالمين يحي فيهما كانسان وكاتب كما ويصعب الفصل بينهما تماماً كما يصعب الفصل بين الأنا والهو في النفس الإنسانية وذلك لأن كلا العالمين لا يستقيم احدهما من دون الآخر، فالخيال الكتابي يحتاج مصدراَ وهو الواقع والواقع يحتاج تلطيفاً ليتلاءم مع المتطلبات الشعورية للإنسان سواء كان كاتباً أو لم يكن.
لقد شدتني هذه الفكرة منذ زمن، وهي تحديداً كيف أوازن بين عالم الخيال الكتابي أو الفني الذي لا يمر يوم دون أن أحياه، والعالم الحسي الذي يتطلب وجودي من أجل الكسب المادي والحياة اليومية، وكيف أن خسارات ونجاحات الواقع تنعكس على العالم الآخر، فترفع من قدرته على التوهج أو تجعله أكثر خفوتاً.
لاحظت طوال سنوات الكتابة وعملي كفنان مسرحي هذا التأثير الطاغي لعالمي الخيالي على علاقاتي في البيت والعمل والشارع، كما شعرت بكوني إنسان خفي، هامشي بالطبيعة، وهذا كثيرا ما تعارض مع حضوري كممثل على خشبة المسرح، ولكنه منحني أفقاً لا بأس به في الكتابة، كذلك سلب مني فرص العمل والعلاقات الاجتماعية المتميزة، حيث يعتقد معظم الناس الذين يصادفونني للمرة الأولى أنني لا أعيرهم اهتماماً كافياً، وبالتالي يعتقدون بشكل جازم أنني متكبر، وكل هذا بسبب طفولتي التي ارتبطت بحكايات خيالية وبعد الانتهاء من الطفولة وجدت نفسي استبدل خيال الحكايات الشعبية بخيال خاص وأفكار خاصة وعوالم تبدو لي أنها هي من يلاحقني ويكدر صفو عيشي ولكنني مع ذلك لا استطيع الفكاك منها وكأنني أصبحت عبداً لها.
أن تصبح عبدا لعوالمك المتخيلة هذا تورط في الذات، ومن يتورط في ذاته كثيرا ما يفشل خارج حدودها. هذا يدفعني على السؤال أين حدود ذاتي؟ سؤالٌ مؤلم أين ابدأ وأين انتهي أين مساحتي التي ورطتني بها الكتابة ومضت. مضت هي وبقيت أنا عبدا لعوالمها، فالنص الذي تكتبه يمضي بجسده ويغلفك بروحه وتفاصيله، فلا تخرج منه إلا لتقع في شرك نص آخر، في عشق كتابة أخرى قد تكون أكثر إيلاما، فتفقد قدرتك على التواصل في العالم المحسوس، لوقت ما.
عوالم الكتابة هي عوالم مختلفة، تحتاج حواس غير التي تعودنا على استخدامها في العالم المعاش، وتحتاج مهارةً في استخدام حواسها الخاصة، تحتاج لغة أخرى ربما، ذهنا خاصاً، وعقلاً خاصاً، يدا أخرى وساقان أخريتان، وعينان مختلفتان، إنها عوالم البصيرة الكامنة، وقدرات اللاوعي والوعي مخلوطتان معاً في بوتقة واحدة.
ماذا أقول عن سيدتي وأنا عبدها؟ إذا ما سلمت بعبوديتي وانسياقي وراء عوالم الكتابة كيف يمكنني أن أنظر إلى هذه العوالم بغير عين العبد؟ اذن هي ليست سيدتي وأنا لست عبدها. يجب أن أحتقر هذه العوالم، وأعنفها، وأهجرها، وأحبها، وأعبدها، وأكلمها، واستفزها. يجب أن تكون صديقة إذن؟ صديقة يمكنني أن أقول لها كل شيء عني وعن العالم دون خوف، صديقة تلعب كل الأدوار المحتملة وألعب معها كل الأدوار المحتملة مساحة للعب والجنون، مساحة لتغيير الواقع المعاش، إذن هل هذه العوالم قوة رد فعل للعالم المعاش، هل صدى لحياتي الشخصية؟
أشعر أنني في تيه مع هذه العوالم. تيه الجهل، وتيه المعرفة... ربما لن تنتهي الأسئلة أبداً، وسوف أبقى أعاني كلما كتبت حرفاً من طيفه المحتمل وغمامته فوق عينيَّ.