ـ ما اسمك؟
يـَردُّ الصوتُ حادا غير متردد، لا تشوبه علامات خجلِ الجواب الأول:
ـ ريحانة
فيم تبرق العينان و تتحركان في كل الاتجاهات، تتفحصان بتعجبٍ الكتلَ الذابلة بداية الصباح. شرارة تسري بين الصفوف، نظرات تخترق الصمت الثقيل وترسم تحرك الملامح وارتفاع الرؤوس الشاردة.
حَولٌ ظاهرٌ و نظّارة سميكة مربوطة إلى القفا بخيط برتقالي، ضفيرتان تحطان على الكتفين الناحلين، قميص أبيض، تنورة وردية بزهيرات باهتة، بدّد لونها غَسلُ متكرر، و..فرحة تتنامى مع ارتفاع صوت محرك الحافلة إيذانا ببداية الرحلة.
ـ ريحانة! تعالِ إلى هنا.
يرتفع صوت الأب من مؤخرة الحافلة.
ـ لا، سأجلس هنا.
ينطلق الصوت واثقا مُصِرّا. وابتسامة انتصار تُجمِّل الوجهَ المُتحمّسة ملامحه أكثر، بينما تمتد اليد الصغيرة و نظرات استئذان منها نحو السائق، تمنح الفعل مشروعيته، تسحب كرسيا خشبيا يستخدمه هذا الأخير في حالات الإعطاب أو حالات أخرى خاصة.
تتخذ ريحانة مكانا في مقدمة المركبة، ثم تلتفت إلى الخلف مبتسمة للجميع، سعيدة بمكانها الذي لا يخص أحدا.
تنطلق الحافلة ومعها ضحكات الطفلة، غير العابئة باحتجاج هذا المسافر من ارتفاع تسعيرة التذاكر، أو تذمر الآخر من تأخره عن العمل، أو سهوم آخرين وتعبهم البادي للعيان، ولا إلى عبارات تتردد دون ملل:
ـ الله يستر. ربي يْجيبْ الخير. الله يرحمهم. واش تحبّ يا خويا هذا حالنا واش نديروا*1..
ريحانة تتحرك باستمرار، تبحث بعينيها عن شيء في الشارع فيم تخترق الحافلةُ الطريقَ
ثم ترتفع يداها فجأة ملوحتين إلى مكان كانت تلهث نحوه عيناها المشعتان المتسللتان بين الرؤوس:
ـ إلى اللقاء يا بيتنا. رايْحة نرجع العشية*2.
تدندن حينا و تكلم نفسها حينا آخر. لم تكن تأبه لما يحدث حولها وكأنّ العالم خاوٍ لا يملؤه سوى فرحتها برحلة توصلها إلى محطة لم ترها قبلا وتلهفت لاكتشافها طويلا.
لم تكن تعبأ بالخطر المحدق حينَ فرملةٍ وتقهقه متسلية برفع راحتيها و اهتزاز الكرسي الخشبي، وتطوح جسدها الصغير فاقدا اتزانه، وهي تحدج المسافر المجاور لها يسارا، بغضب وعتاب حين ينبهها في كل مرة قاطعا استرسال قهقهتها:
ـ ضعي يديك وشدي هنا، ستسقطين!
تهز كتفيها :
ـ وماذا لو سقطت؟
محطات ومحطات و الحافلة تكتظ أكثر وريحانة ـ تبدو ـ لا مبالية، تركض في فضائها الذي لا يحدّه ضيق المكان ولا تداخل الأنفاس ولا القلق الذي يحطّ على الوجوه ولا سخط المسافر الجالس يمينها الذي كان ينفث أنفاسا غاضبة و هو يحدق فيها كلما انتفضت سعيدة ملامسة قميصه الأبيض المكوي .
حوارات ساخنة وأخرى هادئة، وجوه ساهمة وأخرى حزينة و أخرى قلقة غاضبة،
همسات خفيفة، نظرات عابرة و أخرى تبحث عن غاية، غوايات و رغبات، أجساد تعبة ، نزقة وأخرى جائعة. تفيض الحافلة بأسرارها و أخبارها و حيواتها، وتضيق..
طرق وتعرجات، سير ووقفات.. ولمْ تكن قد بلغت الحافلة محطتها الأخيرة حين..
............
.. تهبّ ريحانة بغتة، تقف وهي ترمق الجميع بنظرة كسيرة، تتلاشى ابتسامتها
ويبهت بريق عينيها وتتأرجح على الأطراف دمعة كبيرة مكابرة، تشدّ الشيخ الواقف مترنحا وراءها من سترته دون أن تنبس بكلمة وهي تمدّ نحوه كرسيها الصغير و تمضي مخترقة الصفوف إلى المؤخرة مفتشة عن حضن أبيها..
.......
*1 ماذا نفعل.
*سأعود مساء
التعليقات