عبدالله كرمون من باريس: quot;خرجنا جميعنا من معطف غوغولquot;. بهذا صرح، يوما، الكاتب الروسي ديستوفسكي كي يؤكد على كون غوغول كان معلما كبيرا في مجال الأدب القصصي. وليزيل اللبس، من جانب، على السر الذي لفّ المنابع الأولى للرواية الحديثة. أشار ديستوفسكي، بطبيعة الحال، إلى قصة quot;المعطفquot;، وأراد التدليل بهذا على أنها نص ريادي في مجال الكتابة القصصية المتقنة، وأنها مارست تأثيرا كبيرا على كل الأجيال من الكتاب الذين أتوا من بعده. غير أن الألسن قد حرفت القولة، وصارت تستعمل على نطاق واسع وبمعان مخالفة. وتحتمل العبارة معنيين: التأثر بقصة quot;المعطفquot; أولا، ثم الخروج، ثانيا، من جنح ردن غوغول الذي لف فيه الكتاب معتنيا بتعليمهم كي يرضعوا أيضا حليب الخيال. لنتخيل، على كل، لو صيغت العبارة بشكل مغاير، وخرجوا من quot;أنفquot; غوغول، وهو نص لا يقل قيمة عن نص المعطف. لكن الخروج من الأنف لا يؤدي المعنى المجازي المراد؛ بل لا يؤديه على الوجه المطلوب. وإن كان الكثير من قصاصينا وروائيينا قد خرجوا مع الأسف من الأنف بالمعنى السلبي!
وقع نظري يوما على عبارة مفادها أنه إذا أردنا قراءة الروايات الروسية علينا أن نعيش في بلد يغمر فيه الثلجُ الدنيا، ما سوف يسمح لنا بالانشغال بالقراءة خلال فصل الشتاء الطويل. إذ كتب معظم الكتاب الروس بأنفسهم جل رواياتهم في تلك الظروف. فإذا كان هذا يدل على شيء فإنما يدل أولا على طول وضخامة أغلب الأعمال الأدبية الروسية، مثلما يشي بأمر آخر هو أن كثيرا من الناس لم يطالعوا أغلبها بالرغم من معرفتهم أو سماعهم عنها، وهو ما اكتفوا به في الغالب الأعم.
أوردت هذا الأمر كي أتحدث عن كتاب مهم للمعلم الروسي الكبير نيكولا فاسيليفيتش غوغول، الذي ولد سنة 1809، ألا وهو quot;الأرواح الميتةquot; أو quot;مغامرات تشيتشيكوفquot; (العنوان الفرعي الذي أضافته سلطة الرقابة للتشويش على الصفة التي أُلْحقت بالأرواح). لأنه يندرج هو أيضا ضمن تلك الكتب العريقة التي لم يقرأها الكثيرون. صحيح أنه ليس من السهل إنهاء قراءتها بالنسبة لقارئ غير مستميت.
إن للعنوان، في البدء، قوة هائلة في زجر القارئ أو في دفعه إلى تناول النص والتطلع إليه لمعرفة ما ينطوي عليه، عكس من ينكفئون إزاءه خشيتهم منه بانعدام قدرتهم على التوغل في مَتاهات المكتوب.
نحتاج دائما إلى العودة إلى غوغول قراءة وتمحيصا. أما إذا تعلق الأمر بمرور قرنين على ولادته وبظهور ترجمات فرنسية جديدة ومتنوعة لأرواحه، بالإضافة إلى تلك الموجودة سلفا، حوالي العشرة على حد علمي_ وإن كنت أفضل وأعتمد على تلك التي أنجزها هنري مونغو_ فمن المفروض علينا الإشادة به، وبأعماله. وذلك أدنى ما يمكننا تقديمه لقامة من قمم الأدب الإنساني مثله، تخليدا لذكراه وتأكيدا على دوره الحداثي والريادي في مجال الخلق الروائي والقصصي.
كان غوغول شخصا مضطربا منذ طفولته. فَقَدْ فَقَدَ مبكرا والده، وبالغت أمه في إغداق العطف والحب عليه. ولم يكن تلميذا متفوقا في المدرسة، لكن معلميه قد اكتشفوا لديه مواهب خاصة. مثلما كان قاسيا على نفسه نوعا ما، مع تطلعه الكبير إلى المجد الأدبي. نشر أولى قصائده في بيترسبورغ في كتاب مستقل، ولما انتقدت بشكل شرس في مجلتين، ولم تلق بذلك استقبالا لائقا، فإنه لم يتوان لحظة في سحب جل نسخها من المكتبات كي يعمد بعد ذلك، وهو يائس، إلى إحراقها!
حظي غوغول بصداقة الشاعر الكبير أليكساندر بوشكين. فقد قال له يوما بعدما قرأ عليه بعضا من كتاباته الإبداعية ما يلي: quot;كيف يحدث هذا! وأنت تملك هذه القدرة على التعرف على حقيقة الإنسان، وتظهر ذلك فقط بمجرد لمسات خفيفة وكأنه أمر حي. أن تكون لك مثل هذه المقدرة ولا تعمد إلى إنجاز عمل مهم، إن هذا لهو بحق جرم!quot;
قال غوغول بأن بوشكين قد قام بquot;تذكيري بمزاجي الكئيب ثم بأمراضي التي قد تودي سريعا بحياتي، ثم ذكر لي مثال سرفانثيس. وفي النهاية دلني على موضوع فكرة خاصة به، ما لم يكن ليصنعه مع شخص آخر أبدا، لأنه كان يود أن ينجز حولها كتابا. إنه موضوع رواية quot;الأرواح الميتةquot;quot;! والتي كان مصدرها، في أغلب الظن، واقعة حقيقية حدثت زمنها.
بالرغم من شروعه في كتابة رواية الأرواح، خاصة بعد سفره إلى باريس وإلى روما، فإن الذي حز في نفسه وسبب له شجنا رهيبا هو تلقيه لنبأ مصرع صديقه الشاعر المبجل بوشكين؛ هذا الذي قضى في مبارزة كانت خلفها، كما ندرك جميعا، أسباب تافهة!
صحيح أن غوغول قد سبق له أن قرأ على صاحبه بوشكين الفصول الأولى من الرواية، وقد حبذها هذا الأخير بالرغم من قوله له مستغربا: كم هو شجي بلدنا الروسي!
مات بوشكين إذن وبقي أمر كتابة النص الذي أوحى به إلى غوغول على محك الإنجاز. فواصَل إذن كتابته، أثناء أسفاره المتعددة عبر أوربا.
لم يكن ما أخّرَ إنجازه لتلك الملحمة هو حرصه البالغ على إجادة إتقانها وحده، كنوع من الوفاء الخاص لذكرى صديقه الغائب الحاضر، وإنما تعكر مزاجه أيضا، وتشكيكه في بعض القناعات الفكرية والروحية، الشيء الذي لازم مساره في كتابة الرواية حتى النهاية. ألم يقل بأن قصة الأرواح الميتة هي في الواقع قصة روحه؟
عمدت الترجمة الفرنسية أيضا إلى عدم إسقاط كلمة quot;بويماquot; الروسية وجعلت كلمة quot;قصيدة شعريةquot; تؤدي المعنى المراد، مع ضرورة توضيح. أي أن غوغول وضع نوعا من التعاقد بينه وبين قارئه كي يؤكد بأن نص روايته هو مجرد عمل متخيل، حرصا منه على صرف عيون الرقابة عن حقيقة هدف أرواحه. الرقابة التي تتبعت مع ذلك نصه مغيرة الكثير من صيغه، ومرغمة إياه على كسر شوكة نقده والتخفيف من شدته. وتجدر الإشارة إلى أن هنري مونغو قد ترجم النص الأصلي وحرص على تثبيت كل التغييرات التي ألحقتها به الرقابة في ملف خاص نهاية الكتاب.
تندرج أرواح غوغول ضمن الروايات التي يلزم كتمان مجرياتها لتحفيز قراءة قراء ممكنين لها. يمكننا مع ذلك الإحاطة ببعض مدارات بطله تشيتشيكوف دون أن نبوح بكل تفاصيل حياته خلال الرواية. حتى أن غوغول نفسه لم يبح لنا بهوية شخصه إلا قبيل صفحاتها الأخيرة. وتتبعنا، وفق إرادته، وعبر طول الرواية، شخصًا ندرك كل ما يأتيه وما يهدف إليه دون أن نتمكن من التعرف عليه تماما حتى النهاية. حتى اسمه ظل غامضا، ذلك أننا تعرفنا على اسمي خادمه والحوذي قبل أن نتعرف على اسمه كاملا، إذ طولب منه ذلك مرغما في النزل: بافيل إيفانوفيتش تشيتشيكوف!
تعسر الإحاطة بكل جوانب الأرواح بعجالة، ويلزم الاقتصار بالضرورة على جانب من جوانبها دون آخر. فإذا كان غوغول قد اعترف بنفسه بأن أمر أرواحه الميتة يتعلق أكثر بمضمار روحه، فإن الأمر يتعقد أكثر فأكثر.
على أنه يمكن تناول نصه على مستويي الأسلوب واللغة، وكذا في جوانب طرائق التعبير، بما فيها السخرية والنقد السياسي والاجتماعي اللاذعين.
لم يكن غوغول ماركسيا، غير أنه طاف، في تصوير بلا نظير، بعوالم الإقطاعية في روسيا الرازحة تحت نير القياصرة. وإن تهكم في ابتسار، في الجزء الثاني، بمن يدعون إلى تمرد المزارعين على الأسياد وكيف بوسعهم أن يستولوا في وهلة على كل الأراضي!
إن quot;الأرواح الميتةquot;، وليس النفوس كما يترجمها بها بعض من يجهل جوهر الموضوع، ليست مجرد رواية سياسية بل تتضمن، أكثر مما يمكن توقعه، عمقا فلسفيا واجتماعيا هائلا. ولا يسمح المجال هنا، مع ذلك، لدراسة كل مناحيها.
قد لا يخطئ مستعملي quot;النفسquot; عوض quot;الروحquot; في ترجمة ما ذهب إليه غوغول. إذ يتعلق الأمر بالأقنان، الموتى منهم. مثلما تُستعمل الرأس بالنسبة للبهائم، كما اخترعت كلمة quot;نسمةquot; فيما بعد بالنسبة للبشر. غير أن الروح هي أكثرها جزالة للإحاطة بعالم تشيتشيكوف.
ربما ليست فكرة شراء الأقنان الموتى، ما أطلق عليه بالأرواح الميتة (حتى ولو مات قن يظل مسجلا لدى الدولة وكأنه ما يزال حيا، ويؤدي عنه المالك ضريبة حتى ينجز إحصاء آخر. ومالك عدد كبير من الأقنان (الأحياء بطبيعة الحال) بهدف استعمالهم في أرض مهجورة تؤدي عنه الدولة)، هي الفكرة الأهم في عمل غوغول وليست هي المشكّلة لفرادة وجدّة ابتكاره الفني في عالم الكتابة الأدبية. سبق أن قلنا بأن الفكرة تأتت من واقعة راجت حينها في بقعة من روسيا، وأن بوشكين هو من فكر في البدء في جعلها نواة لصياغة نص أدبي. إن ما يعود إلى غوغول إذن ليست هي الفكرة في حد ذاتها، وإنما، وهذا يلاحظ أثناء قراءة المتن، هو طريقته في ذلك، وقيمة تناوله الفلسفي ووصفه الجذاب لأرض روسيا، ولعلاقات الناس بعضهم بالبعض، ولعاداتهم في الأكل وفي الشرب وفي حسن الضيافة. أما النقد اللاذع للفساد الإداري والسياسي فيشكل لب الحكاية. وفوق كل ذلك هناك جمالية سبك quot;الأرواحquot;. بالرغم من أن غوغول قد نجح في فضح الفساد الرائج في روسيا زمانه، فإن روايته تظل مفتوحة على تأويلات كثيرة.
أراد غوغول أن يكتب أوديسة روسية. ولما كانت الملاحم العظيمة والروايات الكبرى تتسم بالخروج والسير، مثل من يدلج ويسري في الشعر العربي القديم، أو دون كيخوته والحمار الذهبي وغيرها، حيث يخرج البطل في إتجاه تحقيق هدف معين، وتكون الطريق إلى إيتاكا حسب كافافي، هي الحافلة دوما بالاكتشافات والغرائب، وقلما يهم الهدف في حد ذاته، فإن quot;الأرواح الميتةquot;، بالنسبة لي، هي رواية خروج تشيتشيكوف الذي يرعاه غوغول. فإذا كان جشع الأول هو محفزه في خروجه، فإن الثاني لم يكتف بحصر اهتماماته حول دناءة أمور الأول، إذ يمضي محللا وشارحا ومتدخلا بشكل مكثف على طول الرواية؛ وليس باعتباره راويا فقط وإنما بكونه غالبا، وبشكل مباشر، كاتب النص. قال غوغول أن مفردة السفر مثيرة ومدهشة، أولم يسع هو أيضا إلى التنقل والرحيل، معتبرا ذلك بلسما ناجعا لعلل الروح؟
لم يعرف بطل غوغل، ومنذ بداية الرواية مستقرا. فقد نزل أول ما تعرفنا عليه بخان حقير، حيث تنتشر وفي كل أركانه حشرات الصرصار بحجم حبات البرقوق الأسود. وظل يتنقل عبر منازل مضيفيه ويعود من حين إلى آخر إلى ذات النزل، حتى طرد شر طرد من تلك المدينة الصغيرة_ التي نُشرت فيه لشخصيته، مع ذلك، صورة متألقة_ لما سعى أحد قدماء مستضيفه في الريف(نورزدوف)، إلى فضح نواياه، ذات حفلة في المدينة، أوان استشاط ذهنه جراء خمر مشعشعة، وأفشى للملأ أجمعين فضيحة شراء تشيتشيكوف للأرواح الميتة!
غالبا ما تحضر المرأة في علاقتها المعقدة مع الرجل في الأعمال العظيمة، غير أن ذلك ليس هو تماما حال quot;الأرواح الميتةquot;. كتب غوغول بعد الصفحات الأربعين الأولى من الرواية ما يلي:quot;يسوؤني كثيرا أن أسوق الحديث عن النساءquot;. ذلك أن النساء اللواتي يظهرن فيها، غالبا بشكل عرضي، هن زوجات مضيفيه، أو النساء الحاضرات في الحفل الراقص الذي أقامه حاكم المدينة على شرف بعض الأعيان. فإذا استثنينا تلك القصة التي نسجها أحد المدعوين المدعين حول نية تشيتشيكوف في خطف ابنة الحاكم، ولما لمح الجميع تقرب بطلنا من تلك البنت الحسناء، فلم يعد هناك ما يمنع من تصديق ذلك الافتراء. فإن تشيتشيكوف ظل أعزب. خمن يوما: quot;النساء...أية كائنات معقدة هن!quot; ولو أنها تلمع بين لواحظه، كلما افتر له الحظ وابتسم، صورته كزوج لبنت جميلة ذات خدين بضّيْن!
فإن كان أحد خادميه يتعاطى معاقرة الشراب بإفراط، فإن الآخر يميل هو إلى معاشرة النساء، وإذا لم يعمد غوغول إلى وصف شيء من تسري الأول فإنه لم يجعل أدنى فرصة تفوته دون أن يعرج على موائد الندمان وسريان الخمر الحثيث في عروقهم. حتى تشيتشيكوف نفسه الذي لا يفرط عادة في الشرب ويتظاهر دائما بشيء من التعقل والرزانة في هذا المضمار لم يسلم من فضح جميل في وصف رائع لإحدى اللحظات التي يكون فيها المرء حسب تعبير الحسن بن هانئ الحكمي quot;فضيحة في الدارquot;، عندما نراه عائدا إلى الخان مترنحا لا يقوى سوى على الهذيان.
ليس ادعاء منه أن يقول غوغول أن مجال اهتمامه هو الروح. يريد فك لغز الحياة. يتحدث في إحدى رسائله عن الأرواح الميتة قائلا أنه لم يختلق كل تلك الكوابيس، فهي تضغط على روحه، وأن هذه الأخيرة لا تنضح إلا بما فيها.
رأينا كيف حاول تشيتشيكوف إقناع ناتاسيا بيتروفنا، وهي أرملة أحد الإقطاعيين، أن تبيع له أقنانها الموتى، مقارنا إياهم بتربية النحل التي يلزم تعهده والعناية به كي تكون الغلة جيدة، أما الأموات فلم يعودوا من شؤون هذه الدنيا وأنها لا تنفق شيئا بخصوصهم، بل بالعكس سوف تربح الروبلات التي سوف ينقدها ثمنا لهم. أجابته الأرملة أن الأرواح الميتة، بالنسبة إليها، بضاعة غريبة، لا تفهم شيئا في شأن الاتجار بها.
في الحقيقة نجد الكثير من تفاصيل حياة غوغول وانشغالاته ومخاوفه لدى أبطاله. يخاطب مورازوف تشيتشيكوف عندما احتجز في المخفر، ما يمكن اعتباره موجها بالدرجة الأولى إلى غوغول نفسه: quot;الجسد يتوقف على الروح. فكرْ، ليس في الأرواح الميتة، ولكن، في روحك الحية!quot;
عانى غوغول الكثير في خضم السنوات السبعة عشرة التي استغرقتها كتابة quot;الأرواح الميتةquot;، فإن نوى أن ينجزها في ثلاثة أجزاء، فإنه لم يتم حتى الجزء الثاني، إذ أنه قبل أن يموت رمى بحزمة كبيرة من الأوراق إلى ألسنة اللهب وأوى إلى سريره باكيا. ظل يهذي في الأخير، ومات صباح أحد أيام مارس من سنة 1852مجنونا تماما.
كتب منذ أيام شبابه: quot;أعرف أنني سوف أموت ويكون اسمي من بعدي أكثر تألقا من حياتيquot;!

[email protected]