صالح كاظم من برلين: على العكس من العديد من كبار موسيقيي جيله والجيل السابق له، الذين أنصرفوا للتوليف الموسيقي في سن مبكرة، أكتشف روبرت شومان (1810-1856) ميله الى تأليف الموسيقى عند بلوغه العشرين من العمر، اي في فترة دراسته للقانون في جامعة لايبزغ، وذلك رغم أنه كان قد تعلم العزف على البيانو في السنوات الأولى من عمره، بتشجيع من والدته التي كانت تعشق كل ما له علاقة بالموسيقي وأبيه الناشر والمترجم المعروف (عن الإنجليزية) أوغست شومان (1773-1826). لذا فأنه ليس من المستغرب أن يتوجه هذا الصبي الذي نشأ وسط محيط أدبي في بداياته الى الكتابة الأدبية، حيث كتب العديد من القصائد والمقالات ومسودات لروايات لم ينته من كتابتها متأثرا بأعمال جان باول (يوهان باول فريدرش رشتر) الذي غير أسمه تيمنا بالفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
وتقيم مدينة زفيكاو الواقعة في محافظة ساكسونيا الألمانية العديد من الفعاليات الموسيقية والندوات العلمية إحتفاءا بشومان، ذلك في الفترة الواقعة بين 21 الى 24 يناير 2010، يساهم فيها عدد كبير من الموسيقيين والباحثين من مختلف أنحاء العالم. ومن ضمن المفاجآت التي ستقدم للجمهور خلال هذه الفترة أعمال لم ترد في فهرس أعمال الموسيقار ومن ضمنها كورال quot;حسرةquot; وكورال quot;أغنية خريفيةquot; تقدمها فرقة كلارا فيك. كما سيقدم للمرة الأولى دويت quot;جنينة الزهور الألمانيةquot; الذي أستخدم فيه شومان نصا للشاعر والمستشرق الألماني فريدرش روكرت (1788-1866). ولن تقتصر المناسبة على الأعمال الموسيقية لشومان، بل ستضم كذلك ندوات تتعلق بنتاجاته الأدبية، وكذلك بدراساته النقدية حول الموسيقى التي أسست لما سمي بـ quot;النقد الشاعريquot;، الذي يتجاوز الحدود التقليدية لنقد الموسيقى من خلال التأكيد على الجانب الذاتي للنقد وإستخدام بعض عناصر العمل الأدبي وتوظيف السخرية و quot;النقد الهدامquot; في معالجة الأعمال الموسيقية، وكذلك توظيف شخصيات أدبية quot;متخيلةquot; تقوم بمعالجة موضوع النقد (بالنسبة لشومان: فلورستان (شومان المتحمس) وأويسبويس (شومان المتأمل) و مايستر رارو (الناصح ndash;فريدرش فيك). وقد أفادته معرفته الجيدة لعدد من اللغات الأوربية في الإطلاع على التوجهات الموسيقية التي كانت سائدة في أوربا حينذاك، مما دفعه الى تأسيس مجلة خاصة بشؤون الموسيقى عنوانها quot;المجلة الجديدة للموسيقىquot;،

وجهت إهتمامها الى إبراز التيارات الموسيقية المعاصرة وعكست بهذا الشكل أو ذاك ما كان شومان والمجموعة المحيطة به في لايبزغ من الموسيقيين الشباب الذين ضمتهم quot;عصبة داوودquot; يطمحون إليه في التأسيس لنهج موسيقي جديد يتعارض مع التوجهات السطحية والتبسيطية للنهج السائد، ويرتبط بشكل مباشر مع التوجهات الرومانسية التي بدأت تتجلى في فنون وآداب تلك المرحلة بالتوازي مع أفكار يوهان غودليب فشته (1762-1814) وفريدرش فيلهلم شيلنغ (1775-1812)، بكل ما تحمله من تمرد على المفاهيم السائدة في ذلك الوقت.
ومن الملفت للنظر أن توجه شومان لإحتراف الموسيقى جاء بهدف أن يصبح quot;أفضل عازف بيانوquot; في محيطه وعصره، لذلك وقع إختياره بدعم من أمه على المربي فريدرش فيك (1785-1873) الذي كان قد وضع نهجا خاصا وقاسيا في تدريس الموسيقى، طبقه في البداية على أبنائه وبشكل خاص على أبنته كلارا التي تزوجت شومان لاحقا رغم رفض والدها وكانت واحدة من أشهر عازفات البيانو على المستوى الأوربي في القرن التاسع عشر، إضافة الى مساهمتها مع زوجها في تلحين مجموعة من القصائد الرومانسية.
أثناء تدربه على يد فريدرش فيك فرض شومان على نفسه درجة عالية من الإنضباط، علما بأنه كان يشعر بالحيف بسبب quot;تبعية أصابع اليد من بعضها البعض وضعف وقع البنصر على مفاتيح البيانو.quot; لتجاوز نقاط الضعف هذه قام بإختراع جهاز ميكانيكي يزيد أصابعه قوة أثناء العزف، غير أن أستخدامه لهذه التقنية ادت في النهاية الى التهاب في أعصاب يده اليمنى، مما أدى الى ضرر أصاب البنصر، وجعله عاجزا عن مواصلة التدريب على العزف. لذلك أنصرف شومان الى التأليف الموسيقى، وبرز تأثير باخ عليه منذ أعماله الأولى التي كانت عبارة عن مقطوعات قصيرة وضعت خصيصا للعزف على البيانو مع التركيز بشكل خاص على إداء الأصابع الضعيفة (البنصر والخنصر) مما جعل تنفيذها صعبا على مجموعة كبيرة من عازفي البيانو. وكان بعض هذه المقطوعات مبنيا على أصول الـ quot;توكاتاquot;- كلمة توكاتا اللاتينية تعني اللمسة- القريبة من السوناتا، غير أنها تختلف عنها من حيث بنائها الحر الذي يميل نحو الإرتجال. ومن ثمار هذه الفترة أيضا ما أتفق على تسميته quot;دراسات سنفونيةquot; وهي عبارة عن تنويعات على ثيما معينة من خلال إستخدام أساليب تعبيرية مختلفة، وكذلك سنفونية الربيع والسنفونية الثانية. وقد تركت هذه الفترة التي تميزت بالعمل الدؤوب في مجال النقد الموسيقي وفي تكوين quot;عصبة داوودquot; بصماتها على نتاج شومان، حيث أن quot;لقاءات عصبة داوودquot; في quot;شجرة القهوة العربيةquot;، وهي مقهى مازالت قائمة في لايبزغ كانت غالبا ما تتعرض الى الأعمال الموسيقية والنقدية لأعضائها من موقع نقدي، لا يختلف حدة عن كتابات أعضاء العصبة. وقد خصص شومان واحدا من أعماله المهمة لهذه المرحلة تحت عنوان quot;رقصات عصبة داوودquot;. إضافة الى ما تقدم ألف شومان العديد من السنفونيات التي لم تجد لها الصدى المطلوب أثناء حياته، حيث أنها جاءت مختلفة عن المألوف في ذلك الوقت (إذ كانت أعمال بتهوفن، مندلسن بارتولدي، شوبين وسكارلاتي..الخ هي التي تشكل الوعي الموسيقى السائد)، وقام كذلك بتلحين مجموعة كبيرة من القصائد للكثير من شعراء عصره ومن ضمنهم هاينرش هاينة وأدالبيرت فون شاميسو (1781-1838) ، تشكل جزءا مهما من مخزون مغني الأوبرا المعاصرين.
بعد مغادرة لايبزغ مع عائلته وإستقراره في دوسيلدورف، حيث جرى تعيينه مديرا للفرقة الموسيقية هناك، بدأت عليه أعراض إختلال نفسي جاء على الأغلب نتيجة لإصابته في وقت مبكر بمرض السفلس-، دفعه لأن يحاول الإنتحار غرقا في نهر الراين، غير انه أنقذ من الموت، وتم نقله أخيرا بتوجيه من زوجته كلارا الى مستشفى للأمراض العصبية، حيث قضى ما تبقى من حياته، منصرفا بين وقت وآخر الى العزف على البيانو أو دراسة بعض أعمال الموسيقار الشاب الذي ساهم شومان في تطوير موهبته، يوهانس برامز (1833-1897)، وفي إستقبال الزوار الذين كان من ضمنهم إضافة الى برامز بعض مشاهير عصره، ومنهم الشاعرة الرومانسية بيتينا فون آرنيم.

تنبيه: يمنعأخذ اية مادة لي من دون موافقتي أو موافقة إيلاف....