الى صديقي الشاعر الراحل على الرقيعي بمناسبة الذكرى الرابعة والاربعين لميلاده السماوي


(تشهد العاصمة الليبية اليوم) (2010/12/8) احتفالية كبرى بالذكرى الرابعة والاربعين لرحيل شاعر من رواد الشعر الحديث في ليبيا، وصانعي احدى اللحظات المتوجة في تاريخ الادب العربي المعاصر في الجزء المغربي من الوطن العربي، هو علي الرقيعي وكان الشاعر صديقا حميما، كنت التقي به بصورة يومية، وكان اخر لقاء في ليلة لقائه المفاجع، الذي كان موضع قصة قصيرة كتبتها من واقع الصدمة التي اصابتني عند سماعي بخبر موته في حادث سير اليم، وقد كتبت عددا من المقالات احداها يوم ان اودعنا جثمانه التراب، نشرتها في صحيفة الرائد التي كانت احدى الصحف التي ينشر قصائده بها،وهذه بعض الجوانب الشخصية التي كتبتها عنه وارجو ان استكملها في تاريخ لاحق باذن الله)

ما رأيت فيمن التقيت به من كتاب وادباء، كاتبا تتفق افكاره وتتجانس وتتواءم مع سلوكه اليومى ويخبر مظهره حقا وصدقا بباطنه، وتقرأ شعره الذى يفيض حبا وأملا فى الناس والحياة ثم تلتقى به فتجد ان ما قاله قد انعكس دفئا وحبا فى روحه وشخصيته وسلوكه معك.. كما كان على الرقيعى..

بل لعلك وانت تتعرف عليه ونلتقى به عن قرب تكتشف اشياء وجوانب وقيم فى شخصيته لم يعكسها شعره وادبه، واذا كانت اشعاره وكلمات نثره قد عكست ما نفيض به روحه من عذوبة ودفء وبساطة وتواضع انسانى فانها قطعا لم تعكس تلك الطاقة التى كان يتصف بها على القيعى من السخرية والدعابة والمرح حتى انك لتعتقد جازما انه لو كتب ادبا ساخرا لكان اعظم قلم فى هذا المجال..

وما كان ليتأتى له ان يكون صوتا هو بلاشك اكثر الاصوات صدقا فى ادبنا المعاصر لو لم تكن له هذه الشخصية التى لا تفصلها تلك الهوة من المتفاوت بين ما يفعله وما يقوله، بين افكاره وسلوكه بين اشعاره ومقالاته ثم تصرفاته وافعاله فى الحياة.
فلقد عاش على الرقيعى فى حياته بسيطا، وغنى كل غنائه لامثاله من الناس البسطاء، كان يعكس شوقهم للحب والحرية ويحمل هموم واقعهم ويحيا معهم لا بافكاره وانفعاله فقط، وانما يحيا بينهم جسدا وروحا، لم يكسب فى حياته مالا، فقد ظل موظفا باحدى اقسام الحسابات وترك الوظيفة قبل وفاته بقليل فى سبيل الحصول على سواها، موظف صغير يسكن باسرته بيتا متواضعا صغيرا بالايجار لا يزيد عدد حجراته عن حجرتين صغيرتين، لم يجر يوما فى يده مال وفير، او يبنى لنفسه عقارا، او يبحث عن شئ اكثر من ضروريات الحياة.. كل ما كان يملكه فى الحياة هم احبابه.. حيث كان يتمتع بقدرة فياضة متفجرة على صناعتهم وحبهم جميعا..

جموع الناس الصغار البسطاء.. الذين احبهم فى صدق وانتمى اليهم، واحس بالدفء بينهم.. حتى عندما بدأ النفط يتدفق وبدا المجتمع يتغير وبدات الصفقات المشبوهة هى مقياس النجاح، وعمت المجتمع تلك الهستيريا من التسابق الاعمى نحو الثراء السريع والصعود السريع، وبناء العقارات وتجميع الارصدة فى المصارف وصارت تعقد تلك الحلقات الابليسية للبيع والسمسرة والشراء، وعم المجتمع طفح من قيم المجتمع التجارى النفطى الجديد.. كان ذلك شيئا اكبر من ان تحملته نفسيته المرهفة المشبعة بالمثاليات.. وصدمة اقوى من ان يقاومها حسه المرهف العذب، عن قول الشعر الا فيما نذر.. حتى عندما انتهت مفاجأة الصدمة وعاد ليكتب من جديد، كانت كتابته هى ادانة لهذه القيم الجديدة التى انتشرت كالطفح على وجه المجتمع.. فيخاطب مدينته، ويصور خيبة امله فيها في قصيدة شابتها بعض المباشرة، ممثلا اياها بصبية تخون حبها القديم من اجل خاتم مزيف الاحجار..

مدينتى المسروقة النجوم
تضحك فى استهتار
صبية تخون حبها القديم..
من اجل فستان قصير ازرق الاكمام
من اجل خاتم مزيف الاحجار
رايتها تهيم
بالامس طفلة طائشة الازار
تضحك فى استهتار
تفتح صدرها العارى
تحلم فى سوار..
مذهب.. وان وان

وظل ينظر الى هذه التحولات التى تحدث فى المجتمع باسى يعصر قلبه الحزن للذين يذهبون ضحايا هذه التحولات، مشفقا على ضعفهم وظل هو صلبا قويا راسخا محافظا على مبادئه واصالته وصدقه وشرف الكلمة التى كان على الرقيعي واحدا من اعظم فرسانها..

وكان الرقيعى يرتبط بعلاقة حميمة مع كل زملائه فى الحرف، حتى الصغار الناشئين.

كان يسعى للالتقاء بهم عندما يتاخرون فى السعى اليه والالتقاء به، وعندما التقيت به لاول مرة كنت سعيدا بان اتعرف اليه، وان التقى به كواحد من المعجبين بشعره، ورغم اننى وجدته فى مظهره مخالفا لظنى، فقد كان تصورى انه اكبرنا سنا مما يدل عليه ن وانه اطول قامة واكثر اناقة ووجاهة، فقد وجدته صغيرا فى سنه وحجمه، لا وجيها ولا متانقا، لقد صار مع الزمن احد اقرب الاصدقاء الى قلبى او احبهم الى، وكنت افتش عنه فى لحظات الضيق واذهب اليه لا ستضئ بشئ من فكره وصدقه وافهم منه ما غاب عنى فهمه، وارى ما اعجزنى قصورى عن رؤياه.

فقد كان اكثرنا صدقا وشجاعة ونبلا وثباتا على المبدا، اعمق منا فهما واعظم منا قدرة على الرؤية الواضحة، واكثرنا ودا وولاء واخلاصا واصدقنا تعبيرا وقولا واكبرنا موهبة وقدرة على الابداع..

والان وانا اكتب هذه السطور واسترجع ذكراه وقد مر بنا كانه الطيف، واقرأ سطور الاهداء التي كتبها وهي يهدي لي كتابه الاخير (( تحية تاكيد لذكرى طريق جمع بيننا.. يجدد علاقتنا.. ويجدد صداقتنا على مدى الزمن )).. الان احس بالخجل العميق لكل الجحود الذى قابلنا به على الرقيعي بعد رحيله و كل ما كان يحمله قلبه النبيل من حب وولاء واخلاص لنا وللكلمة التى نذر نفسه لها.. فقد مات دون ان يفكر احدنا فى تجميع تراثه المتناثر من قصائد ومقالات ودراسات وتاملات ومساجلات فوق الصحف، تمر ذكراه عاما وراء عام فلا نذكره الا لماما، لم يتطوع احدنا بكتابة دراسة تشمل كل ما قدمه من عطاء.. الان وقد انتهت رحلته الى الابد.. مثله فى اوطان اخرى تؤلف مئات الكتب لا عن ادبهم فقط انما عن سيرتهم الذاتية وحياتهم وظروف معيشتهم.. اما نحن فانه يحيا بيننا غريبا.. ثم يبقى انتاجه من بعده غريبا..
استثناء واحد للزميل بشير العتر الذي كرس وقته وجهده لتجميع عدد من مقالاته واشعاره التي لم تنشر واصدرها في اكثر من كتاب.
اننى اذكر الان يوم وفاته، وقد اختفى من بيننا مبكرا، فى ذهنه الاف المشاريع الادبية التى لم يحققها والاف الاغنيات التى لم يقلها..

اذكر اخر لقاء لى به ليلة وفاته فقد كان يجلس فى المقهى يكتب عن الموت ليلة موته تمثيلية للاذاعة والتى كانت ثانى تمثيلية يكتبها للاذاعة، وكان مستغرقا مع احداث المسرحية استغراقا غير طبيعى كانه يتنبا فيها بما سيحدث له تلك الليلة.. حتى انه لم يتنبه لى عندما جلست لم يرفع راسه عن الورق.. او يتوقف لحظة عن الكتابة، اطلقت التحية وردها وهو كابيا على الورق وعندما انصرفت لبعض شانى كى اعود اليه بعد ذلك وجدته قد ذهب.. وفى صباح اليوم التالى رن الهاتف فى بيتى مبكرا وكان الخبر..

مات على الرقيعى..
وتصورت لاول وهلة ان عليا اخر من العليات قد مات وان على الرقيعى الدفق والنبض والحياة لا يمكن ان يموت هكذا فى رمشة عين، فى حادث سيارة لعين، وينتهى الى الابد هذا الدفق والعطاء الذى يملا حياتنا الفكرية.
وهكذا مر على الرقيعى فى حياتنا كانه الشهاب اضاء لحظة ثم اختفى تاركا وراءه فراغا موحشا فى حياتنا الادبية والفنية..