كنت أشعر بالضيق بسبب القيظ الذي لايحتمل. كانت شوارع المدينة شبه مهجورة تبدو وكأنها تصطلي بنيران الجحيم. لم أعد أتذكر عدد أقداح عصير الرمان التي أفرغتها في جوفي.كانت الأواني النحاسية والقدور تلمع تحت لفح الشمس أمام بعض الدكاكين بلمعان غريب.
فاجأني صوت بائع للأشياء القديمة يدعوني للاستراحة في محله لأن المشي في مثل هذا الوقت مضر. كان صوت البائع أنيسا، ويبعث على الطمأنينة. حال جلوسي قدم لي قدحا من الماء البارد. كنت أظن أنه دعاني للجلوس بسبب القيظ الشديد، لكنني سرعان ماعلمت السبب عندما بدأ يدعوني لإلقاء نظرة
على مواد نحاسية قديمة في محله. لم أهتم لأنني لا أهوى شراء هذه المواد، ولا أعرف شيئا عن قيمتها ومزاياها. لكن الرجل بدأ يقودني من يدي وهو يسعل بشكل متقطع:
ـ تأمل جمال هذا المصباح الصغير الذي على الرف الأيمن، الا يعجبك؟
حركت كتفي دليلا على عدم اهتمامي. لكن قدري أبى الا أن يكون المصباح المغبر من نصيبي.وجدت الرجل يقول لي:
ـ خذه.. انه هدية مني إليك. أزل عنه الغبار وضعه في ركن بغرفتك.

في طريق العودة، توقفت في مكان ظليل. تفحصت المصباح الصغير باستخفاف. نفخت فوقه لإزالة الغبار المتراكم، وأخذت أعمل على تلميعه وأنا اصفر لحنا لأغنية شعبية منسية.
فجأة انبعث دخان كثيف من المصباح كما في الأفلام والقصص الشعبية التي تتحدث عن علاءالدين ومصباحه السحري. فوجئت بظهور رجل قميء، رث الثياب، يحاصره البؤس من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، يخرج من المصباح، كان يبدو رجلا منسيا، أهمله الزمن في زاوية ما، ولم يلتفت إليه قط. لعنت حظي الذي أخرج لي من المصباح المغبر، رجلا بائسا، بدلا من مارد جبار يحقق لي أمنياتي ( وما أكثرها) كما في الأفلام والأساطير بعد أن يقول لي:quot; شبيك لبيك..عبدك بين يديك!quot;
نظر إليّ بصمت طويلا، وكأنه يبحث على الكلمات المناسبة للحديث معي:
ـ هل تدعى علاءالدين؟
كادت المفاجأة أن تلجم لساني. الا إنني وجدت نفسي اسأله:
ـ وكيف عرفت اسمي؟
ـ لأن الذي يعتقني من أسر المصباح لا بد أن يحمل هذا الاسم.
لم يخطر ببالي قط وأنا أخرج من داري هذا الصباح للتجول بلا هدف في الشوارع، أتأمل المحلات والدكاكين والسيارات أن أعيش يوما استثنائيا مع مصباح مغبر قديم.
سمعت الرجل البائس يقول لي بعد أن رأى ترددي وصمتي:
ـ الجو نار ياعلاءالدين.. هل تستطيع أن تشتري قدحا من عصير الرمان؟ أعتقد أن ضغطي قد
بدأ بالهبوط..لقد بدأت أرى الأشياء مضببة.
توقفت عند بائع العصير، بعد أن رأيته يترنح في مشيته مثل السكارى عند عودتهم إلى بيوتهم في منتصف الليل.
ثم أردف قائلا:
ـ ان المكوث لمدة طويلة في داخل مصباح صغير وسط ظلام حالك ليس بالأمر اليسير.
رأيت ظلالا من الحزن وخيبة الأمل على وجهه الذي يحاول أن يرسم عليه ابتسامة فاشلة:
ـ لقد تغير الزمن ياعلاءالدين.. لقد عشت في هذه المدينة دائما وكأنني فائض عن الحاجة. ربما بسبب قصر قامتي، لم يعرني أحد اهتمامه، فعشت خارج اهتمام أي مخلوق، نسيا منسيا. أجد بالكاد مايقيم أودي. وكانت معجزة حقيقية أن أجد رغم ذلك من ترضى بي زوجا، قبل أن أكتشف جشعها المفرط للمال وبشكل يصعب تفسيره.
لم تهتم قط بجراحاتي. كانت السيكارة التي تدخنها بشراهة عشرات المرات في اليوم الواحد أكثر أهمية مني بالنسبة إليها. تحملتها رغم صلفها. لكنها رغم ذلك فضلت الاختفاء من داري وحياتي إلى الأبد.
في ذلك اليوم لم أعد أعرف نفسي. ظللت أهرع في شوارع المدينة. كان قلبي يبكي بحرقة. لم تهتم السيارات والشوارع والمارة بضياع عقلي في تلك اللحظة التي صرخت فيها عشرات المرات: انقدني يا إلهي!.. أبعدني عن الناس في ظلمة كظلمة جب النبي يوسف!
وجدت نفسي فجأة وسط ظلمة معتمة، متكورا على نفسي. وسمعت خلفي صوتا مجهولا يقول quot; لن ينقذك إلا من كان يدعى علاء الدين quot;. ولم أعلم إنني كنت طوال هذه المدة داخل مصباح إلا عندما خرجت منه بفضلك هذا الصباح.
سألته السؤال الذي يشغل بالي، وأعتقد انه يشغل بالكم أيضا منذ بداية هذه القصة:
ـ يدفعني فضول جامح لسؤالك، مادمت كنت داخل المصباح فعليك التمتع ببعض القدرات الخارقة.
أجابني والحزن يتقظر كالمطر من كل كلمة ينطق بها.:
ـ لماذا لاتصدق بأنني لست بمارد أو جني في مصباح؟ أنا مجرد إنسان بائس عليّ الآن البحث عن عمل..
نظرت إليه طويلا.كان الضعف والنحول باديان عليه.قلت له بإشفاق:
ـ إنك متعب للغاية.. هيا بنا لنتناول شيئا ما معا.
لم ينقطع عن الدعاء لي ونحن في طريقنا إلى مطعم شعبي.

كانت السيارات العسكرية تمر برعونة، وهي تكاد تدوس المارة وتنهي حياتهم تحت عجلاتها الضخمة. وكان ثمة حواجز عديدة في جانبي الشارع. كان الشارع مغبرا وكأننا نمشي في مدينة مفتوحة الجهات
على الصحراء. كان النهار أصفرا كالليمون من شدة الغبار. فجأة أنطلق دوي انفجار مرعب. في غمضة عين اهتز الشارع، وتهدمت البيوت وكأنها لم تكن قبل لحظات ضاجة بالحياة والحركة.واختفى عشرات البشر من المارة ربما كانوا في طريقهم على بيوتهم أو أعمالهم، أو إلى الجامع، أو إلى بار قريب، أو موعد سري لايعرف به غير صاحبه.
كان منظر الشارع بعد الانفجار مخيفا، أشلاء مقطوعة متناثرة هنا وهناك، دماء قانية تغطي الشارع والرصيف والبيوت التي اختفت من الوجود. أنين لاينقطع من الجرحى، وصرخات هستيرية تنطلق من المارة، أرعبهم الحادث يندفعون دون وعي بذعر في كل الجهات.
دون شعور وجدت نفسي مندفعا للابتعاد عن مكان الجريمة التي حصدت عشرات الأرواح في لحظات خاطفة كالبرق. رغم ذلك كنت أسمع صوته المذعور ينطلق من مكان ما خلفي:
ـ سيدي.. سيدي.. أرجوك أعدني إلى المصباح!

26/ 4/ 2010