ونحن نرتشف الشاي سأحدثك عن حكاية غرائبية. ربما لن تصدق تفاصيلها، لكنها تشغل بالي منذ أيام، حال نهوضي من النوم.
هل ترى تلك السجادة العتيقة الملفوفة، والموضوعة جانبا؟.. كانت ثمة سجادة أخرى تشبهها تماما الا في ألوانها التي كانت تبدو غامقة أكثر.
في ذلك اليوم كان ثمة زبون في المحل، وكعادتي بدأت أعرض له مختلف السجاجيد، وأبسطها أمامه ليختار منها مايروق له.. لكنه اكتفى فقط بالتطلع إليها،ثم غادر المحل دون ينبس بكلمة.
quot; ضع الشاي هنا ياولدي! quot;..
أجل ماذا كنت أقول؟.. بدأت بجمع السجادات وإعادتها إلى مكانها. لم يبق أمامي إلا تلك السجادة. حين وضعت قدمي فوقها وتهيأت للفها، حدث مايشبه الزلزال.
من العسير عليّ جدا أن أشرح لك ما أحسست به من خوف وجزع، وأنا أحاول أن أسيطر على نفسي من هول المفاجأة، سقطت على السجادة. وقد بلغ رعبي مداه عندما أحسست أنها بدأت تتحرك وتطير بي رويدا رويدا. كنت مستلقيا على بطني من الرعب.
لك أن تتصور حالتي ياعزيزي في مثل هذا الموقف المحير!.. المهم،دارت السجادة داخل المحل دورة واحدة، قبل أن تنطلق إلى الخارج، وتبدأ بالارتفاع.
وجدت نفسي فوق (سوق القورية). كنت أسمع نداء الباعة، وأرى الناس في دبيب دائم بين الدكاكين المختلفة. نساء سافرات، وأخريات متلفعات بالحجاب والنقاب، وشيوخ وشباب يبتاعون ماتشتهيه أنفسهم من اللحم والخضروات والفواكه. لم أر السوق من قبل بديعا بهذا الشكل وأنا أتطلع إليه من فوق.
أجل هو كما تقول تماما quot; شيء لا يصدق! quot;. كنت قد بدأت الجلوس فوق السجادة المدهشة.
كنت أرى الجميع، لكنهم لم يرونني على الإطلاق. كان شعوري لا يوصف. كنت أطير فوق مدينتي بفضل السجادة الغريبة. كانت السيارات تحتي، والمارة كذلك،والأبنية والبيوت والشوارع، التي كانت أضوية المرور تشتعل وتنطفيء فيها.
انحرفت السجادة يسارا، ومرت من فوق مقابر المدينة المنسية، وفوق أشجار السرو،وجامع النبي دانيال في (قلعة كركوك) التي أصبحت أثرا بعد عين.
كنت لا أزال أحس بالجزع والخوف، لذلك أخذت اردد سورة (الفاتحة) باستمرار. بدأت السجادة تنحرف يمينا في اتجاه آخر. كان مصيري بيد السجادة العجيبة فهي تقودني رغما عني أينما شاءت.
لكنني حمدت الله مثنى وثلاث ورباع عندما عادت للطيران، مستديرة فوق المدينة. خيل إليّ لحظتئذ وكأن السجادة تبحث عن مكان معين.
من بعيد لاح (شارع الجمهورية) وهو يحتضن البيوت، والسيارات، والمخازن، وعيادات الأطباء، والمطاعم، والمقاهي والبارات. لم أشاهد في حياتي مدينتي من مسافة عالية، كما شاهدتها من فوق ظهر السجادة الطائرة.
انحرفت السجادة في طيرانها نحو (طريق بغداد) حيث البيوت الفخمة التي تفصح من تلقاء نفسها عن ثراء أصحابها من خلال حدائقها المنزلية، التي تبدو من رونقها وأزاهيرها الزاهية وأعشابها
الشديدة الخضرة، بأنها تنتمي إلى طبقات مترفة. كانت البيوت توحي للناظر بأنها تنتمي إلى عالم آخر.
فجأة رأيت السجادة تدخل من نافذة مفتوحة إلى صالون أحد البيوت. وتهبط بهدوء في الصالون الذي
كانت تزين جدرانه بعض اللوحات الزيتية، واصص للورد، وثريا ضخمة من الكريستال.
كانت ثمة نساء في الصالون، أطلقن بصوت واحد صرخة رعب حال هبوط السجادة وسط الصالون.
فعلا كان مشهدا لا يخطر على بال أحد، مهما أطلق لخياله العنان. أن تهبط سجادة وفوقها رجل إلى صالون بيت، النساء فيه في عز الثرثرة.
لم أجد إلا أن اصرخ بأعلى صوتي:
ـ لاتجزعن يا اخواتي!
حل عليهن فجأة سكون مهيب. لكن امرأة على أبواب الشيخوخة، بدت لي انها صاحبة البيت، وجدت في نفسها الشجاعة للاقتراب مني، وهي تتفحص السجادة التي أقف فوقها. ما لبثت أن صرخت بأعلى صوتها:
ـ ياللغرابة.. هذه سجادتي!.. سجادتي التي ورثتها عن المرحوم أبي. وقد فقدتها بعد سرقتها من البيت!.. حمد لله لقد عادت لي بعد سنوات طويلة.
وسقطت من هول المفاجأة مغشيا عليها. وقد تجمعت بقية النسوة حولها للعمل على إفاقتها. وهن يدعكن جبينها بقطرات من ماء الورد.
استردت المرأة وعيها بعد دقائق. اقتربت منها قائلا لها بهدوء:
ـ سيدتي.. هذه السجادة لي، وهي موجودة في محلي منذ خمس سنوات.
اعترضت بصوت عال ومنفعل:
ـ كلا.. مستحيل ّ! إنها السجادة الإيرانية التي ورثتها عن أبي!
لقد بقيت يا عزيزي في حيرة من أمري. لم يكن أمامي إلا الفرار من البيت.كنت عاجزا عن إيجاد تفسير مقنع لكل ماحدث.
لم تتحرك السجادة اللعينة من مكانها، وكأنها مثبتة على أرض الصالون بالأسمنت. لم أجد بدا من تركها هناك، والخروج قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.
تسألني كيف انتهت هذه القصة العجيبة؟.. ببساطة، انطلقت مسرعا من البيت. استأجرت سيارة أجرة أوصلتني إلى المحل. بينما بقيت السجادة اللعينة هناك.
منذ هذا الحادث لا افرش السجاجيد على الأرض ليراها الزبون عن كثب.
عزيزي ما رأيك لو تناولنا قدحا آخر من الشاي؟