صلاح سليمان من ميونيخ: يعتبر كتاب quot;بلالquot; للصحافي الإيطالي quot;فابريزيو جاتيquot; وثيقة مهمة في عالم الهجرة السرية الإفريقية نحو أوروبا، دوّن فيها الكثير من الأسرار الخفية لضحايا الهجرة التي تسلك طرقًا وموانع وحيلاً لا حدّ لها في طريق تحقيق حلم الهجرة، أصعبها على الإطلاق هو التيه في الصحراء، أو الموت غرقًا في المتوسط. استخدم مؤلف الكتاب مهارته وحسه الصحافي في تدوين فصول كتابه بواقعية شديدة، فهو لم يكتفِ بمقابلة المهاجرين غير الشرعيين ليحصل منهم على مادة كتابه، بل انه قام بالانخراط معهم وتقمص دور مهاجر كردي وسمى نفسه بلال، وانتقل فعليًا إلى القارة الإفريقية ليبدأ مشوار الهجرة بجرأة يحسد عليها، وسط كل تلك المخاطر والأنواء التي تحيط بهذا

النوع من الهجرة التي يصعب علي الإنسان العادي القيام بها تحت أي ظروف.
انتقل المؤلف إلى دولة مالي حيثشق من هناك طريقا يسلكه المهاجرين المتجهين صوب القارة الأوروبية، ووصف تلك المعاناة والإهانة التي يعانيها بشر ليس لهم مطالب في الحياة اكثر من العيش كأدميين، يصف الحال هناك بأن سماسرة السفر كثيرون في تلك المناطق يخططون وينظمون الهروب إلى أوروبا بطرق عديدة. اختار المؤلف مع مجموعة من المهاجرين الذين تعرف عليهم بسهولة هناك طريقًا للسفر إلى النيجر عبر السنغال متجهين إلى نقطة قرب الحدود الليبية، التي تعتبر مركزًا لتجمع المهاجرين الأفارقة لعبور المتوسط حتى الوصول إلى الشاطئ الأخر من المتوسط.

لحظات الرحيل
عندما حانت لحظة الرحيل في طريق الهجرة الطويل ركب جميع المهاجرين الشاحنة quot;المرسيدسquot; القديمة المتهالكة في طريق المجهول والمخاطرة غير المضمونة، والتي هي اول خطوة فعلية في الهجرة إلى شواطئ قارة أوروبا الثرية، تلك اللحظة التي ينتظرها المهاجرون بكل شغف حتى يبدؤوا في تحقيق الآمال والأحلام بعيدا عن مناطق الفقر والمرض الذين ترعرعوا فيها، ويقول المؤلف إن أحدًا لا يستطيع تغيير أمال وأحلام هؤلاء المهاجرين الراغبين في دخول القارة الأوروبية.

تعرف المؤلف علي رفقاء الرحلة علي ظهر الشاحنة القديمة المتهالكة، والتي كانت عنوانًا لما يمكن أن تنتهي به الرحلة، فالشاحنة عرجاء وآمال المهاجرين عظيمة والمناخ المحيط هو مناخ البؤس وعذابات الإنسان، يصف المؤلف الزحام والاكتظاظ على ظهر الشاحنة بأنه لا إنساني، ليس هناك أي نوع من أنواع الرحمة علي ظهر الشاحنة، فالروائح كريهة والأوساخ في كل مكان والأكل شحيح للغاية ويندر وجود الماء رغم السفر في قيظ الصحراء، ولكن سحابة الامل التي كانت تظللهم كانت تكمن في الامنيات الكبيرة بالوصول الى الجانب الآخر من شاطئ المتوسط.

مشاق رحلة إلى المجهول
عبر نقاط التفتيش المنتشرة في النقاط الحدودية في الدول الأفريقية التي مرت بها الشاحنة في اتجاه الصحراء الليبية، كانت كلها قطع من الجحيم وفق وصف المؤلف، فيها انتهاك صارخ لأدمية المهاجرين من قبل قوات الجيش والشرطة في تلك الدول، اللاجئين العزل يتعرضون لأبشع أنواع المضايقات وسرقة أي شئ معهم وعلي الذي يريد المرور عبر تلك النقاط أن يدفع الرشوة والذي ليس معه يُمنع من المرور ويُترك وحيدا حيث تتقطع به السبل في الصحراء، وغالبًا ما ينتهي المطاف بهؤلاء الممنوعين بالاتجاه إلي منطقة تجمع لهؤلاء المهاجرين تسمي quot;واحة العبيدquot; حيث يعملون بالبغاء والتسول وتجارة الرقيق وكل أعمال العبودية واستغلال الإنسان.

يستمر الصحافي الإيطالي عبر صفحات كتابه في سرد الأحداث ففي quot;اجايزquot; في مالي احدي محطات الرحلة المثيرة تعرف علي احد الشباب الذي يرتدي قميصا عليه صورة فريق كرة القدم الإيطالي quot;انتر ميلانquot; ويتحدث الشاب الإفريقي عن إعجابه بهذا الفريق ويقول انه يرتدي هذا القميصتعبيرا عنحبه لإيطاليا، في وقت يعرف فيه إن إيطاليا وأوروبا لا تريد المهاجرين الأفارقة في الدخول إلى أراضيها، هكذا سعي الصحفي الإيطالي في التعرف اكثر علي quot;سفيانيquot; هذا الشاب الأفريقي الذي راح يكشف له الكثير من اسرار عوالم تلك الهجرة الأفريقية إلى أوروبا، أخذه سفياني إلى فناء السيارات في quot;اجايزquot; حيث احد اهم النقاط التي يتجمع فيه الأفارقة الراغبين في الانتقال إلى شواطئ المتوسط من اجل الهرب إلى الضفة الأخري منه، يصف المؤلف المشهد بان اكثر من ألف شخص كانوا يفترشون مساحات من الأرض في ذلك الفناء ويقيمون فيها بلا مأوى، الإعياء والتعب يبدو عليهم، اجسادهم نحيلة من سوء التغذية والمعاناة اليومية والتي اقل ما يمكن وصفها به إنها غير إنسانية ومهينة للإنسان، رجال الشرطة والجيش يتجولون بينهم ومن يقع في ايديهم يتم سرقته وانتهاكه والإساءة له ومعاملته بشكل مهين.

طوال الرحلة يحاول الصحافي الإيطالي إخفاء هويته الأوروبية ويبقي أمام الجميع هو متنكرًا كـquot;بلالquot; الكردي وعلي الحدود الليبية لم تفلح محاولاته في الحصول على تأشيرة لدخول ليبيا، مما يعني انفصاله عن بعض رفقاء الرحلة خاصة quot;جيمسquot; وquot;جوزيف quot; النيجريين الذين سيتواصل معهم فيما بعد عبر البريد الاليكتروني بعد أن نجحا بالفعل في الوصول إلى إيطاليا، ليسجل وقائع ما حدث للفريق الذي استطاع دخول الأراضي الليبية، أما هو فقد اتجه إلى تونس حيث انتقل منها إلى إيطاليا.
لم يفت الكاتب أيضا أن يصف معاملة رجال الشرطة الليبية مع المهاجرين غير الشرعيين بالسيئة، ويقول إنها ليست بأحسن حال من مثيلتها الأخري من البلدان الإفريقية التي مر بها، فهي تتجاهل المهاجرين في الصحراء وتتركهم وشأنهم، ويموت الكثيرون منهم في الصحراء من جراء العطش والجوع ومن يتم الإمساك به يودع معسكرات الاعتقال حيث التعذيب والإساءة.

الوصول إلى القارة الثرية
عندما وصل المؤلف إلى نقطة النهاية مع مجموعة من الناجين قبالة السواحل الإيطالية قفز كغيره إلى البحر واستمروا في السباحة حتي وصلوا إلى الشاطئ الإيطالي وهناك يستمر في التخفي ومحاولة وصف واقع المهاجرين علي الضفة الأخري من المتوسط، وفي اول نقاط الوصول إلى القارة الثرية يرصد المعاملة السيئة من قبل الشرطة الايطالية ورجال حرس الحدود ضد المهاجرين البؤساء.
في هذا الإطار يصف المؤلف خيبة أمل المهاجرين في انطباعهم الأول عن القارة الثرية ويقول انهم يعاملون بكثير من الضرب والإهانة والشتائم من قبل الشرطة الإيطالية لحملهم علي الاعتراف ببلدانهم الأصلية حتى يتم ترحليهم مرة اخرى إليها، ويرى أن استجوابهم فيه كثير من الظلم وعدم احترام أدميتهم ويصف المعسكرات التي يعيشون فيها بأانها سيئة ومكتظة وغير صحية وغير أدمية، وينتقد الحكومة الإيطالية بشدة في هذا الشان ويكشف النقاب عن اتفاقات سرية بين إيطاليا وليبيا يتم بمقتضاها ترحيل المهاجرين في غضون خمسة أيام فقط إلى خارج الحدود الإيطالية عائدين إلى ليبيا، أما من يستطيعون الإفلات من كل تلك العوائق وينطلقون داخل الأراضي الإيطالية فإن ثمة مشاكل اخري تقابلهم وهي انهم يعملون في أعمال شاقة جدًّا وفي مزارع الطماطم الإيطالية بأجور زهيدة مذكرين بعهود العبودية التي شهدتها أوروبا قبل.
جدير بالذكر أيضًا أن الصحافي الإيطالي اهتم بهذا الجانب من هجرة اللاجئين من قبل وكان قد لفت الانتباه في سلسلة مقالات سابقة عن محنة لاجئين البان كوسوفو في رحلة هروبهم إلى سويسرا أثناء حرب البلقان، حيث كانوا يتلقون معاملة سيئة من قبل الشرطة السويسرية وعدم الترحيب بهم وكان قد ركز أيضا من قبل علي اضطهاد الرومانيين الغجر في أوروبا والتميز الذين يلاقونه أينما ذهبوا في أرجاء القارة الأوروبية المتسعة.