الولادةُ
أيُّ ولادةٍ...
مِسخ ٌكونيٌ مدمِّرْ... ثقبٌ مأفون في جسد التاريخ... عاهة وجودية تئنُّ من وجع روحها المعذَّبة بِجبْر الخروج من (ظلمة العدم إلى نور الوجود)!
كذلك قال صماموئيل بكت..
وهكذا أمضى عُزلتَه الكليَّة... الهائلة... المهيبة... العزلةُ الصوفيةُ المتمرِّدةُ على قدر الولادة التعس... العزلةُ هذه هي الرد الحقيقي على جبْر الولادة... وإنْ لم يكن كذلك فدعني أتوهمُ هكذا...
تُرى أحقا إنَّنا نولدُ أبرياءَ ولكننا ننمسخُ فيما بعدْ؟
كانَ الأَجدرُ لو أنَّ الغايةَ من وجودنا هو الخيرُ أنْ تواصلَ البراءةُ مسيرتَها حيَّةً خارقةً متحديةً، ولكنَّ البراءةَ سُرعان ما تختفي وإلى الأَبد، منذ أن يعي الإنسانُ وجودَه!

كان الاجدرُ بهذه البراءةِ المزعومةِ أن يكون الكون في خدمتها، ولكن نرى... هي لا غيرها... هي الضحية الاولى من ضحايا هذا الكون الأجرب القاسي!
البراءةُ شهيدةُ الوجود بامتياز...
كان الاجدرُ بهذه البراءة الموهومة أن تملأ وجودها إنْ وجدت، لا أن تكون نهب التمزُّق الدامي منذ اللحظة التي يقول فيها الإنسان : ـ
أنا هنا...
يتمزّق البشر بين الطموح ِالذي لا نهايةَ له وبين ممكناته المحدودة، فلماذا هذا التناقضُ الذي جُبِلنا عليه؟ وهو دليلٌ إنَّنا وجدنا للعذاب، وليس هناك عذاب اشد ألماً وقسوةً وحقداً وتدميراً وتمزيقاً من عذاب الترواح بين المطلق والنسبي!
كلُّ ما نهدف إليه مجرَّد مشروع، ما أنْ ينتهي حتى يستعبدنا مشروع أخر، وبالتالي، سنموتُ وهناك مشروعٌ قيد التنفيذ، فما قيمةُ هذا الوجود الذي ينتهي وهو يَحِنُّ إلى كمال لم يحصل عليه أبدا؟
الموت ُإختيارا حلٌ لهذا التناقض، إنّه يعبِّر عن خلاص، أو يعبِّر عن شكٍ بهذا الوجود، أو هو ثورةٌ على المفارقة المؤلمة،، قد لا يكونُ حلا،ولكنَّهُ على أقل تقدير إعتراضٌ ناجحٌ وإنْ بلغة الوهم.
كم كان صموئيل بيكت رائعاً عندما كان يحاولُ العودةَ إلى ما قبل الوجود، في بطن أمه تحديدا، ولكن كان ساذجاً بطبيعة الحال، لانَّه وجودٌ على كل حال.
أيُّ طبيعةٍ وِجدْنا لإعمارها وهي لا تتجلَّى لنا إلَّا بجبروت من المسير، تُرغمنا أنْ نكونَ طوعَها مهما قهرنا بعضَ مفرداتها؟ تلك خرافةٌ ميتافيزيةٌ جاءت تعلل اللحظةَ الاولى من ولادتنا،لكنَّها وقعتْ صريعةَ غضبِ الطبيعة ذاتها.
لنفترض أنَّ الطبيعةَ ليست مخاضَ خطأ أو خطيئة، ولكن لماذا ينتصرُ الخطأ دائما، وتنتصرُ الخطيئة دائما؟ هل هناك شكٌ أن تاريخ الانسان هو تاريخ الآلات القاتلة بالدرجة الاولى؟ وهل هناك شكٌ إنَّ تاريخ الانسان هو الحرب وليس السلام؟
لماذا لا تتماهى غايةُ الخلْق مع مسيرةِ الخلْق يا إلهي؟
غايةُ الخلق السلامْ، لكنَّ مسيرةَ الخلق الحربْ! مُفارقةٌ لا حلَّ لها سوى الموت إختيارا، كي نخلص من هذا العذاب، الحلُّ يكمن في الهروب وليس في العلاج، الهروبُ ليس علاجا، لكنَّه خلاصٌ في المطاف الاخير.
لقد سُلِب (بروموثيوس) كبَدَه لانَّه سرقَ النارَ وقدَّمها هديةً طازجةً للإنسان، مَنْ يُعيدْ له كبَدهُ وهو يعاني من خواء الوجود بعد أن صرع أكبر إله؟
هل وعينا إذن أنَّ الولادة مِسخٌ كوني؟
كلَّما يأتي إنسان إلى ساحة الوجود كلما يمعن الشر بالاتساع... تتكثر إحتمالات الحرب...تغفو على أهداب الإله أُمنياتُه التي خانتهُ أصلا، فكيف لا تخونُ الإنسان؟
(كنتُ كنزا مخفيَّاً فخلقتُ الخلْقَ كي أُعَرف)، هكذا تروي لي جدّتي عن علّة الخلق هذا، ولكنْ فيما جاء الخلقُ وفيرا توارى الخالقُ في غياهب نفوسنا المظلمة!
إلهي أمَا من موتٍ يُشترى؟
إلهي أما من خلاصٍ بان نكون شجعانا فنصُّكُّ يدنا على زناد الرحمة المُزْجاة من رصاصةٍ هي الأُخرى تريدُ أنْ تموتَ إختيارا؟
منْ يُعيدُ لبرومثيوس كبَدهُ المسروق؟
لا أحد...
إذ لا صوتَ حقيقيا يَخرجُ من أعماق برومثيوس، لقد خانه الذين قدَّم لهم عُصارة روحه، فشكَّ بكلِّ شيء، ولعنَ كلَّ شيء، وبَصَقَ على كلِّ شيء، وشتمَ كلَّ شيء، وهجرَ كلَّ شيء، ورمى كلَّ شيء على قارعة الطريق، ليمتحن نفسَه فيما بقي مخلصاً للعدم والخواء!
يريد أنْ يبقى بلا كبدٍ كي يلقى الله كافراً بما يسمونه (نعمة الوجود).
مَنْ لـ(حميدة) بطلة زقاق المدق؟
لا أحد...
نجيب مفحوظ نفسُه خان (حميدة) عندما صمَّم أن يعيش أكثر من تسعين عاما...
لا أحد...
فإن (الكولونيل الذي لم يجدْ من يكاتبُه) قد ماتَ منذ زمانٍ بعيد ْ، ولم يبقَ معه، ولم يبق له، غير ديكه الرومي المسكين.