كامل الشيرازي الجزائر: كان افتتاح مهرجان الجزائر الدولي الثالث للمسرح بحاضرة بجاية (260 كلم شرقي الجزائر)، منعشا من خلال باقة quot;إلى ما وراء البحرquot; وهي مسرحية أمازيغية موسيقية بتوابل كوميدية دامعة، منحت كثيرا من الفرجة والألق في تظاهرة اختارت أن تكون عنوانا كبيرا للمسارات والبصمات.
على امتداد 85 دقيقة من الزمن الركحي، سافر رواد القاعة الكبرى بمسرح بجاية، مع كوميديا موسيقية ساحرة مستلهمة من نص الراحل الفذ quot;مالك بوقرموحquot; (1946 ndash; 1989) أحد كبار قامات أب الفنون في الجزائر.
وعبر سياق أرجواني مازج بين الإشارة، القيثار، وتعبيرية الفعل ولواعجه، نقل المخرج فصولا من ذاكرة الاغتراب والتمزق التي كابدها جزائريو أواسط القرن الماضي، من خلال نموذج رجل أمازيغي بسيط اضطر لترك زوجته الحامل العام 1946، والارتماء في أحضان المجهول الفرنسي، تماما مثل الآلاف من مواطنيه ممن أرغمتهم الفاقة وألوان البؤس للعمل خارج البحار.
ووسط ركام من المشهديات والمواقف، يغوص المشاهد فيما انتاب يوميات الأمازيغي المهاجر وتخبطه الدائم بعيدا عن دفئ الوطن الأمّ، ووظف طاقم الإخراج quot;بازو- بلقاسم كعوان ndash; ياسر نصر الدينquot;، أغنيات خالدات لكوكبة من فحول الجزائر وحناجرها الحية على غرار سليمان عازم (1918 ndash; 1983)، الشيخ الحسناوي (1910 ndash; 2002)، دحمان الحراشي (1925 ndash; 1980)، وزروقي علاوي (1917 ndash; 1968) فيما بدا بورتريها لعمالقة الأغنية الجزائرية وعكسهم حجم معاناة الذات الجمعية طوال عشريات من المكابدات المنهوكة.
وأتاحت الاستخبارات العناقية العتيقة والآهات الحالمة محيطا quot;أزموزياquot; ولّد حميمية ومتعة زادت من التصاق المتلقين بأفانين العرض، خصوصا وأنّ عرّابي quot;إلى ما وراء البحرquot; أبدعوا في حبك الموضوعة سينوغرافيا عبر واجهة ورقية وشاشة سينمائية، وسياقيا من خلال ذاك الربط بين اغتراب الأب المتهالك ومغامرة الابن ضمن ظاهرة الهجرة السرية التي ملأت الجزائر وشغلت الناس خلال السنوات الأخيرة.
وتبعا للريتم الخفيف الذي طبع العمل وانطوائه على أكثر من جمالية على أصعدة ، الموسيقى، الغناء والتعبير الجسدي، وتغليفه بطابع نوستالجي رمزي شائق، لم يحس المتفرجون بالضجر، بما فيهم الأفارقة والأوروبيين والآسيويين، حيث تلاشى وهم اللغة أمام ذائقة الانخراط في ماهية الفعل الدرامي وكوميديته الدامعة التي أنهت العرض بترسيخ عبق الانتماء للوطن والتفاخر بالانتساب إليه رغم الرزايا والمحن.
وتبشّر أداءات بلقاسم كعوان، مونية آيت مدور، نسرين عيطوط، وردة خيمة، سميرة شعلالي وغيرهم، بميلاد نجوم خلاّقة سيغدو صداها قويا في بلد تعوّد على إنجاب الفطاحل.
مسرحية quot;إلى ما وراء البحرquot; التي أحرزت جائزة لجنة التحكيم لمهرجان المسرح المحترف ndash; دورة آيار/مايو 2011 ndash;، تؤشر على حظوظ المسرح الموسيقي لاستعادة روح الفرجة، خصوصا مع توفير هذا اللون المسرحي للمرح واقتراحه نمطا تواصليا مرنا ينسجم مع متطلبات جماهير جزائر 2011.
ولعلّ هذا هو المعنى الذي قصده الناقد المسرحي الجزائري البارز quot;أحمد شنيقيquot;، بتأكيده على أهمية إحياء مكانة الأغنية في الـتأليف المسرحي الجزائري لأنها أريج يجتاح القلوب، محيلا على التعايش البديع بين الأغنية وفرسان الخشبة في مراحل سابقة، ما جعل الدراما تتكرّس كحديقة تنمو فيها أشكال فنية منسجمة بملامح بنيوية أصيلة ومتميزة.
إلى ذلك، كان رفع ستائر مهرجان المسرح المحترف مختلفا، حيث حرص المنظمون على استحضار عراقة العاصمة التاريخية للحماديين وما تكتنزه من فنون الكلام، في تصميم لوحات الافتتاح، حيث استرجع المسرحي quot;عمر فطموشquot; عبر شاشة فضية، أمجاد المسرح الجزائري منذ عشرينيات القرن الماضي، وشدّد على استمرار quot;الحفلةquot; برغم فقدان جيل هام من الراحلين.
كما تضمن حفل الافتتاح، أيقونات تعريفية بإرث بجاية وأعلامها، ورمزها quot;يما قوراياquot;، على إيقاع موشحات أندلسية تغنّت بمفكري بجاية ومراياها التي ستكتسي حلة مسرحية إلى غاية الثلاثين من الشهر الجاري.
وعرف الحفل تكريم الكاتب المغربي حسن المنيعي، فضلا عن الكاتب الجزائري الراحل quot;أحمد رضا حوحوquot; ومواطنه المخضرم quot;حبيب رضاquot;، والأكاديمية السعودية د/ملحة عبد اللهquot;، إضافة إلى تكريم فقيد الخشبة الجزائرية quot;مالك بوقرموحquot;، في حين جرى توزيع تشجيعات على كل من جمعية التاج المسرحية لمدينة برج بوعريريج، وكذا الكاتب والمخرج هارون الكيلاني.