خالد الجابري
في منطقة الكبرات العتيقة المنهكة ، قررت السماء ان تتحد مع الارض ليتخذا اللون الاسود الكاحل الذي صبغ الوجود كله بذلك اللون الكئيب ما عدى بضع بؤرات مضيئة تسللت من النوافذ الضيقة المائلة ومن تلك الشقوق الطويلة في الواح خشب البليود المتهالكة..
تعجبه تلك الرائحة التي يبعثها الليل، رائحة رطبة جديدة تعوض ما فعلته شمس النهار الحارقة التي التهمت كل شي بلا رحمة حتى ذكريات هذا اليوم الحافل، لقد اعتاد تسلق شجرة الصفصاف الزلقة ليتمسك بأغصانها ذات الاوراق الطويلة الرفيعة كحبات الموز، انه يسمع نداء امه في حوش الدار لكنه حينما يكون على ذلك العلو من الارض ينتابه شعور غريب غير مألوف بالعظمة وينفصل جسده مؤقتاً عن ذلك العالم الذي يدنو قدميه وتصبح نظرته واسعة وشاملة.. وحينما كانت الشجرة تتمايل يمنة ويسرة في حديثها الطويل الهامس مع الرياح كانت عيناه تحدقان في الواح الاسبستوس التي زحفت لتغطي كل الاسقف بلا استثناء، ومن خلال ثغرات صغيرة تبعث على الفضول والتلصص، كان يرى كل شيء ويسمع كل شيء كحاكم غير منصب على الكبرة.. ريا المصرية تغلي ابريق الشاي وهي تثرثر بنهم مضحك مع اختها عزة التي تشبه عود فارع من القصب لشدة نحافتها.. ام سليمان تزمجر في حوش البيت بحنق لا يتغير، وصوت بعيد لعمرصدّيق وهو يصرخ لانه استطاع اخيراً تسجيل هدف بعد معاناة..
تنهد بعمق وتركيز كأنما يمارس نوع من اليوجا وترك الرياح تثرثر واغمض عينيه وهو يتشبث بالشجرة في حنان، احياناً تتدفق المشاعر من قلبه مجتمعة فيبحث عن صدر دافئ يحتويه، وحينما ييأس من العثور عليه يحسد تلك القطط الصغيرة المتشبثة بأمها ويتسلق شجرة الصفصاف ليحتويها وراضياً بتلك الام البدائية. من قلب تلك الشجرة يتدفق الحنان كما يتدفق من صدور الامهات والعاشقين فبحكمة مبكرة على سنه ادرك ان مشاعر الشوق والحنان ما هي الا اطياف هائمة تتدفق حينما نحتاج اليها، سواء تدفقت من صدر ام او من شجرة.
استنشق ذلك الهواء الرطب المسافر من الصحراء وعاد يراقب كل شيء بخمول وتكاسل.
وفجأة دوى صوت انفجار مكتوم من بعيد..
وزاد تشبثه بالشجرة في رهبة وخوف..
ياإلهي! عبوة غاز اخرى انفجرت في الحارة!
اختلطت الصرخات الملتاعة والمتالمة لتثير الرعب في اوصاله، وحملق في اعمدة النار المتصاعدة من بين الالواح الخشبية البعيدة وايادي يائسة تحاول ان تروض وحش النار الغاضب بالماء. رأى سليمان القطو quot;كما يطلق عليهquot; يركض بخرطوم بلاستيكي ويصوبه نحو فم الوحش الذي بدأ يصرخ متراجعاً منكسراً حتى قتله سليمان بخرطومه وغرسه في قلب الوحش إلى الابد.
وعندما تلوث النسيم بالدخان المتصاعد، اقسم انه قد سمع وحش النار يصرخ متوعداً بعودته في حريق قريب قادم، وحينها رأى سليمان يرفع خرطومه في نصر وهو يعود ادراجه مستعداً لمعركة قادمة مع الوحش المتعطش للخشب.
quot;خالد، تعال عشا!quot;
عاد ذلك النداء يتردد في حوش دارهم بأصرار مزعج، فتلقاه بفتور كما اعتاد ذلك كل مرة، لكنه ادرك بعد فترة ان تلك الروائح المختلطة برائحة الدخان النفاذة كانت رائحة لحم ضان مشوي بتمهل على الفحم، وتعمدت امه ان تتبله ببهارات عدة تثير اللعاب، الآن فهم لما الحوش خال من القطط؟ لقد اندفعت كلها نحو المطبخ لتنال حصتها من اللحم، او على الاقل من الرائحة!
وحينها قبل الملك الغير متوج ان ينزل من على عرشه ارضاء لرغبات جسده، فقبّل الشجرة وتناول فرع صغير من على احد اغصانها وضعه في فمه حتى يظل مذاق الشجرة يملأ كيانه حتى بعد ان فارقت يداه اخر اغصانها ولامست قدماه الفتية ارض الواقع.


ابوظبي
6/11/2010