عمرو زكريا عبد الله: ما أشبه اليومَ بالبارحة! حقًّا إن التاريخ لَيُعيد ذاتَه في مصر، وليته إلى الأحسن، فمن سوء الحظ أنه يرتد نكوصًا إلى الوراء. كان الشعب المصري في عشرينات القرن العشرين مُغَفَّلاً عن الناحية النيابية البرلمانية، وإذا بالزمان يدور بعجلته على مُدَرَّج التاريخ ما يقارب المئة عامٍ، ولا يزال المصريون على ما كانوا عليه من تغفيل برلماني. ومؤشرات الانتصار الساحق الذي ناله كلٌّ من حزب quot;الحرية والعدالةquot; الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين وحزب quot;النورquot; ممثِّل الجماعات السلفية لَهو خير دليل على تغفيل المصريين برلمانيًّا؛ فهم لا يدركون أن الإخوان أو السلفيين إذا وصلوا إلى السلطة سيرجعون بنا إلى عصور الظلام التي حاولنا أن نخرج منها منذ النهضة التنويرية في القرن التاسعَ عشرَ. لم يصل المصريون بعدُ إلى مرحلة الوعيِ التامِّ بفكرة البرلمان ممثِّلِ الشعب والنائبِ عنه ولسانه الذي يعرض من خلاله مشاكله وآلامه ويُشَرِّعُ فيما بعد ذلك قوانينه ودساتيره. إن المصريين حتى هذه اللحظة لا يزالون يفكرون في النائب البرلماني باعتباره quot;المخلِّصquot; بالمعنى اللاهوتي المسيحي للخلاص salvation. فالإخوان بالنسبة لقطاع عريض جدًّا من الشعب المصري هم المخلِّصون (بألف ولام العهد) له من مشاكله، ولا يدرك هذا القطاعُ أن للإخوان مكرًا هو أشدُّ من مكر الثعالب، وأنهم رجعوا إلى مصر بالإضافة إلى السلفيين بروح انتقامية من الشعب بعد أن كانوا مطرودين أو مذلولين من قِبَلِ النظم السياسية الثلاث الحاكمة. إنهم يخدعون الناس الآن بالطعام والشراب والدواء والخدمات المجانية التي يقدمونها لهم، والناس من العامة تفكر في احتياجاتها الضرورية ليومها، وهذا بلا شكٍّ وضعٌ سلبيٌّ جذَّرته سياسة مبارك؛ إذ نجح مبارك في إذلال المصريين وجعلهم لا يفكرون إلا في الخبز وكيفية الحصول عليه فتحولوا من صفة الإنسانية إلى الحيوانية وما يتبعها من أخلاق وسلوكيات سافلة نراها ممارَسَة أمام أعيننا كل يومٍ في الشوارع ونقرأ عنها في الجرائد اليومية. نزع مبارك بسياسته الداخلية العدوانية الأفكار التي تزرع في المصريين صفات الإنسانية من حرية وديمقراطية وشفافية وما إلى غيرها من أفكار ترتقي بالإنسان المصري درجات أعلى مما هو عليه. ثم استغل الإخوان نقاط الضعف هذه بحِرَفِيَّةٍ سياسية عالية، فلعبوا على أوتارها فسال لعاب المصريين المساكين الذين طال حرمانهم من أساسيات الحياة، ومن ثم تَمَّتِ الصفقة بين جماعة الإخوان المسلمين والشعب المصري، فكانت صفقة غير رابحة بأي حال من الأحوال للشعب المسكين، وكيف تكون كذلك؟ والحقيقة أن أمر هذه الصفقة أمر شكل لا أمر مضمون؛ فإن الطرف الأول في هذه الصفقة quot;الإخوانquot; ينظرون إلى السلطة على أنها فرصة لم ولن تُعَوَّضَ، وفي سبيل نيل هذه الفرصة، فإنهم يسلكون كل طريق من أجل إرضاء الطرف الثاني quot;الشعب المصريquot; من الفقراء ومحدودي الدخل أو حتى معدوميه، وهو إرضاء وقتي كما يتبدى من وقائع الأمور والخدمات التي يقدِّمونها للناس، إنهم يقدمون الطعام والشراب، فإنهم يعرفون أن أسهل طريقة إلى قلب الشعب المصري هو quot;بطنهquot;، ولعلك ستضحك من ذلك، فعند المصريين عبارة متداولة دائمًا ما تقولها النساء العجائز للنساء حديثات الزواج quot;أسهل طريق إلى قلب زوجك هو معدتهquot;. إنني دائمًا ما أتذكر ذلك الحوار الذي دار مسرحية quot;شجرة الحكمquot; للأستاذ توفيق الحكيم بين quot;رضوانquot; حارس الجنة وquot;الخواجةquot; الذي ذهب إلى الجنة ليبحث عن أصدقائه من المسؤولين المصريين، حيث يسأل رضوان الخواجة عما إذا كان الشعب هو الذي ينتخب حُكَّامَه، فيجيبه الخواجة بالإيجاب، ثم يدور هذا الحوار:
رضوان: وماذا كان يقول الشعب عنهم؟
الخواجة: لستُ أدري، ولكني أذكر أني كنتُ أمرُّ يومًا بجماعة من الفلاحين أثناء صيدي البطَّ فقلتُ لهم: مع أي الأحزاب أنتم؟ فهزُّوا جميعًا رؤوسهم وأشاروا إشارة معناها لا مع هذا ولا مع ذاك. وتشجَّع أحدهم وقال: quot;إحنا مع حزب رغيف العيشquot; فقلتُ لهم باسمًا: إن رغيف العيش لم يؤلف بعدُ حزبًا؛ لأن الذين يؤلفون الأحزاب هم الباشوات.
وهذا ما يمكن قوله عن العلاقة القائمة الآن بين جماعة الإخوان المسلمين والشعب المصري الطرف الأضعف ماديًّا ولكنه الأقوى حاليًّا، لأن له أن يبيع صوته للإخوان الذين اشتروا هذا الصوت بثمن بخس. فالأمر كما ذكرتُ آنفًا أمرُ شكل لا أمر مضمون، وهذا للأسف ما تدركه جماعة الإخوان المسلمين إدراكًا تامًّا ولا يدركه الشعب المصري الذي هو الآن في قمة تغفيله وسباته. وإنني شخصيًّا متوقِّعٌ أن يحصل الإخوان وحدَهم في المرحلتين الإنتخابيتين القادمتين في الرابعَ عشرَ من هذا الشهر وفي الثالث من يناير على نسبة تفوق النسبة التي حصلوا عليها في المرحلة الأولى، فإن نشاطهم في القاهرة رغم ملموسيته محدودٌ، فما بالك في باقي المحافظات الفقيرة التي تعاني مشاكل كثيرة لا حصرَ لها، لا سيما محافظات الجنوب!! إن الوضع جد مأساوي فيما أتصور.
عذرًا إن كنتُ قد أطلتُ عليك ndash; أيها القارئ- فإن كل ما يجري في مصر الآن عجيب وغريب، والأغرب أن المصريين ينظرون إلى ما يجري الآن على أنه أمر مألوف بل إن الجُهَّال يقولون إن الوضع في quot;مصر الإخوانquot; مما يبَشِّر بالخير. وفي ظل هذه الأزمة البرلمانية والحكومة التي تعثَّر على الدكتور الجنزوري تشكيلها حتى الآن، إذا بي أجد نفسي أقلب في مكتبتي الخاصة باحثًا عن كتاب كان قد أعطانيه صديقي وأستاذي الدكتور حمدي عبد العزيز كهدية على عادته الجميلة في إهدائه إياي ما في مكتبته من كتب كثرت نسخها، وهو كتاب quot;مسرحيات أمين صدقيquot; دراسة وتقديم وتحقيق الدكتورة نجوى عانوس. فتحت الكتاب على مسرحية quot;الانتخاباتquot;، فإذا بها تبدأ على النحو التالي:
هس ما حدش منكم يتنفس.. هس ما حدش منكم يتفلسف
لحسن دي جلسة همايوني.. أشغالها ألا مركـــونــــــي
سياستنا هنا بسماركاوي.. وخطتنا نابوليونـــــــــــــــي
اللي يقول لك كاني وماني.. قل له دكان الزلبانـــــــــي
شغلنا كله كشري في كشري.. ونقرر كده عالعميانــــي
ياما ناس بتبيع أصواتها.. وبتعمل عنها مــــــــــزادات
حق الحكومة تراقــــــــبهم.. تعمل لهم تعريـــــــــــــفه
ما دام ضميرهم كوتشو.. والذمة دي مش نضيــــــــفه
هس انكتم بقى.. أحسن سكرتير البيه آهـــــــــــــــــــه
ما دام بتاع بلف.. ابلفوه وحيوه وطاطولــــــــــــــــــه
يا مرحبتين يا بيه.. فين البيه الرئيــــــــــــــــــــــــــس
نتلف حواليه.. نفضل نقول له ييـــــــــــــــــــــــــــــس
دلوقت ييجي حالاً.. بس ابقوا سقفوا لـــــــــــــــــــــــه
في كل كلمة اهتفوا له.. بالقوي وقولوا لـــــــــــــــــــه
ليحيَ رئيسنا رئيس الحزب.. من غير مواجهة ومن غير كذب
.............................................
...........................................
(ضحك) هس
بزيادة يا جماعة.. ويالله نخش في دور الجـــــد
اللي أساسه حقاني.. موش ممكن ينهــــــــــــــدّ
طهروا النوايا.. حتى النهايـــــــــــــــــــــــــــة
مصلحة بلادنا يا مصريين.. فوق كل مصلحة
فوق كل غاية
فوق الدنيــــــــــا.. وفوق الديـــــــــــــــــــــن
هكذا يستهل أمين (أفندي) صدقي مسرحيته quot;الانتخاباتquot; التي قدمتها فرقته بالاشتراك مع الفنان الكوميدي على الكسار quot;الماجستيكquot;. تذكر الدكتورة نجوى عانوس أن الفرقة قدمتها يوم 26 أغسطس 1923، إلا أني عندما راجعتُ إعلانات هذه المسرحية في دوريات تلك الفترة من جرائد وجدْتُ أوَّلَ إعلان عنها منشورًا في جريدة quot;المقطمquot; يوم الجمعة أيام 5، و9، و21 أكتوبر 1923، وجريدة الأهرام من 17 إلى 24 أكتوبر، وجريدة quot;البلاغquot; من 19 إلى 23 من الشهر نفسه. والغريب أني لم أجد أثناء البحث في هذه الدوريات أو في غيرها أيَّ مقال يتعرض لهذه المسرحية، ولم يستمر عرضُها إلا شهرًا واحدًا فحسبُ؛ فإن مسحًا للجرائد والمجلات في عامي 1923 و1924 يكشف إنها لم تُعْرَضُ فيما تلا ذلك الموسم من مواسمَ مسرحيةٍ. وقد لحَّن الشيخ سيد درويش جزءًا منها إلا أنه تُوُفِّيَ فأتم التلحين إبراهيم فوزي.
تعتمد هذه المسرحية على كوميديا الصدفة، وهي فودفيل Vaudeville ظريف جدًّا جدًّا تدور حول شخصين يُرَشِّح كلٌّ منهما نفسه في البرلمان نائبًا عن عدة دوائر. وهما quot;رجب بيهquot; زعيم حزب quot;المقايسينquot;، وquot;شوال بيهquot; زعيم حزب quot;المليسينquot;، ولتلاحظْ معي الأسماء التي يستخدمها أمين صدقي وما تشير إليه من دلالات رمزية. يحدثُ أن quot;زبيدةquot; زوجة quot;شوال بيهquot; تقابل بالصدفة quot;رجب بيهquot; وكلاهما لا يعرف الآخر فلا هو يعرف أنها زوجة مُنازِله في الانتخابات ولا هي تعرف أنه عدو زوجها. ويبدأ quot;رجبquot; في مغازلتها، وتجاذُب أطراف الحديث معها، وتتجاوب هي معه راضيةً مرضيَّة وتخدعه فتدَّعي أنها زوجة رجل اسمه quot;شاكر بيهquot;. ويعرف منها أنها تريد أن تسافر إلى مدينة طنطا كي تشتري عدة أفدنة، فيقرر السفر وراءها، وتخدمه الصدفة، فبينما يدبر الحيل ليتذرع أمام زوجته وحماته بحجج للسفر لجمع أصوات من الناخبين، إذا بحماته تخبره بأن أحد العُمَدِ (جمع عُمْدَة) يُدعَى quot;رمضان سالم أبو حويجة الدنفquot; من أعيان طنطا قد حضر في غيابه سائلاً عنه ومبلِغًا إياه بأنه على استعداد لمؤازرته في وجه عدوه اللدود quot;شوال بيهquot;، فيطير quot;رجبquot; سعادةً لهذا الحظ السعيد ويُسافر لتوِّه وراء quot;زبيدةquot; وهناك تحدث العديد من المفارقات المضحكة، حيث يظن الناس أن quot;رجبquot; هو quot;شوالquot;، إذ يدَّعي أنه زوج quot;زبيدةquot; ويبدؤون في حمله على أكتافهم طائفين به شوارع المدينة هاتفين باسمه، وبعد عدد من المفارقات تنكشف الحقيقة وتنتهي المسرحية بفوز حزب quot;المقايسينquot; بزعامة quot;رجب بيهquot;. وإذا أراد القارئ تفصيلاً فليرجعْ إلى كتاب الدكتورة نجوى عانوس سالف الذكر.
في هذه المسرحية صوَّر أمين صدقي في أسلوب ساخر قضايا اجتماعية أثناء معالجته لقضية الانتخابات التي حُرِمَ أبناء الطبقات الشعبية من الحرمان منها، حيث عبَّر الفلاح عن استيائه من ذلك:
الفلاح: ... وتطلبوا من سعادة الحكومة إنها تعمل لنا برلمان فيه من كل جنس وكل فُرمهْ
الجميع: وَضَّحْ وَضَّحْ وَضَّحْ
الفلاح: أيوه. يعني تعمل لنا في البرلمان ده مجلش شيوخ ومجلس أفنديه ومجلس خواجات، لأجل ما يبقى برلمان سكالنس.
كما تعرَّض لمشكلة الغلاء بأسلوب فيه سخرية مريرة:
جعلص: الغايه. كل دا يا إخواني والعربجي متنيل على عينه وساكت. الخيل برضها غاليه نار. العليق أغلى وأغلى. طقم الخيل بالشيء الفلاني. يعني بالله عليكم شوفوا بِدِّنا كل يوم ناكل بكام أنا وأم أحمد والبهايم.
ومن الشخصيات النمطية التي تكرَّرتْ في مسرحيات أمين صدقي شخصية الفقيه المُعَمَّمِ، وهي الشخصية التي تمثل قضية الصراع بين القديم والحديث، وفي هذه المسرحية سمَّاه أمين صدقي quot;الشيخ أبو قراعةquot;، ويطالب هذا الشيخ البرلمان بمطالب ثلاث:
أبو قراعة: لنا في هذا البرلمان مطالب ثلاث، ليس فيها شكٌّ ولا التباس. فلْتَكنْ لحزبنا كأساس، واعلموا بها أيها الناس.
أم أحمد: أحسنتَ يا شيخ رسراس.
.......
أبو قراعة: أولاً: مراقبة السيدات في لبسهن الموده، حريرًا كان أو سكروده، فلا نسمحْ لبناتنا بلبس البرقع الشفَّاف، ولا للإفرنجيات بالخروج عاريات الأذرع والأكتاف. هذا ما يجب من شرِّه أن نخاف...
أم أحمد: أعدْ يا شيخ لحافْ.
.....
أبو قراعة: ثانيًا: مراقبة الروايات الهزلية، لتكون مهذَّبة من جميع الوجوه وتطهير المراسح من رقص البطن...، فالذي يُقْبَلُ أَقْبِلُوا عليه، وإلا فقاطعوه وهزأوه وقولوا عليه اتفوه اتفوه.
.....
أبو قراعة: تغيير اسم شارع عماد الدين باسمٍ مناسبٍ جديد، فبدلاً من أن يُقال شارع عماد الدين، يُقَالُ شارع عماد الدينامبولي أو شارع عماد الدينالسكا.
ومن أهم القضايا التي تعرَّض لها أمين صدقي في هذه المسرحية قضية المرأة عمومًا ولا سيما في كونها عضوًا في البرلمان:
الحما: ... حانت الساعة اللي يجب فيها المرأة المصرية تستيقظ وتقوم تطالب بحقوقها المهضومة...
......
عزيزة: لتحيا الفتاة المصرية
دا وقتك دا يومك يا بنت اليوم. قومي اصحي من نومك بزياة نوم وطالبي بحقوقك واخلصي م اللوم. ليه ما نكونش زي الغربية ونجاهد في حياتنا بحرية... معانا شهادات ودبلومات ونعرف بولوتيكه ونعرف لغات. ليه ما نكونش زي الراجل ليه؟
لقد عبَّرت هذه المسرحية بحق عن مشكلات الطبقة البرجوازية والبروليتاريا. فهل تفيض قرائح كُتَّابنا المسرحيين بإبداع يعكس ما تعيش فيه مصر من فوضى وتقترح عليناعلاجًا لها؟ والسلام...
[email protected]