إعداد عبدالاله مجيد: يعتبر كثير من النقاد ان القلعة أجمل اعمال كافكا، وربما كان فيها أشد انفعالا منه في رواياته الأخرى. فالمحاكمة والمسخ مترعتان بعمقهما الخاص وحزنهما المعقد ولكنهما ليستا بقوة القلعة، رواية كافكا الأخيرة.
تروي القلعة قصة ك الذي يعمل مساحا ارسله مجهول لغرض مجهول الى قلعة هي نفسها كمية مجهولة. ولا نعرف حتى النهاية ما يُفترض بالمساح ك ان يحققه من الزيارة الى القلعة. وبدلا من السرد الذي يمضي الى نهاية حبكة مرسومة بعناية فان كافكا يواجه القارئ بسلسلة من الاحباطات، حيث حاول ك المرة تلو الأخرى ان يتقدم في عمله لكنه لا يصل ابدا الى ابعد من محيط القلعة.
تبدأ الرواية بوصول ك الى القرية التي تقع في ظل القلعة ويبدو انها تخضع لسيطرتها. المكان غارق في الثلوج والقلعة يلفها الضباب حتى من دون بصيص ضوء يشي بوجودها. ويصف كافكا المكان وصفا يكاد ان يكون كله ايحائيا على نحو لا يُطاق. وهو يقود القارئ الى منطقة ذات طبيعة قاسية، كأنها رقعة من القطب حيث بالكاد يوجد ضوء، ويشعر المرء بالمجهود العضلي الذي يبذله عبر الثلوج الكثيفة. ويقترح وليام بوروز في صحيفة الغارديان ان القلعة رواية تبدو كما لو انها فُصِّلت للقراءة في عز الشتاء وخاصة حين تدور الحياة في حلقة شيطانية من التوجه في عتمة الصباح الى العمل والعودة في ظلمة المساء الى البيت.
جو الرواية ومزاجها هما لحمتها ولكن من الصعب وصفهما. يمكن فهمهما بدقة ولكن لا يمكن اكتناه معنى الكآبة التي تقترن بهما. وهذا ما يريده كافكا ـ ان يهز استقرارنا الداخلي بالكتابة عن المألوف ورتابة الحياة اليومية ولكنه يتعمد التمويه ليبدو المألوف وكأنه حلم غريب. وحين ننتهي من قراءة الكتاب نعود الى الواقع وقد فتحت الرواية عيوننا على مشاعر الخيبة والاحباط التي ننحيها الى ركن منزوٍ في تلافيف الذاكرة لكي نواصل حياتنا اليومية الاعتيادية وكأن كل شيء على ما يرام. فان كافكا هو الطبيب الذي يسحب دم القارئ ثم يتحول الى الكاتب الذي يستخدمه مدادا لرواياته.
ويرى وليام بوروز ان من الخطأ النظر الى القلعة أو حتى المحاكمة على انها رواية مهجوسة بالبيروقراطية والقوى الغامضة التي تقف وراء اغتراب الانسان فحسب. فمثل هذه القراءة تبخس مشروع كافكا الفني، وهي قراءة اختزالية من حيث الأساس لأن كافكا يتناول قضايا بسيطة ومهمة في آن مثل الوحدة والألم والبحث عن رفقة انسانية والتوق الى الكرامة والفهم فضلا عن قضايا مثل الحياة الجنسية والصراع اليومي مع العمل. وقلعة كافكا تبعث على الحزن بسبب كل ما هو مفقود من هذه الأشياء البسيطة في حياة الانسان. وهي تفرض على القارئ ان يواجه حاجة انسانية اساسية. وفي رواية القلعة يقف القارئ شاهدا على نضال ك من اجل الاعتراف بكيانه واحترامه لأن اساس كينونته برمته يُقوض على ايدي اولئك الذين لا يعترفون بعمله أو حقه في الوجود بينهم. ويبحث ك عن رفقة (يقيم علاقة مع امرأة ترتبط بسلطة القلعة) لكنه لا يطيق صحبة مساعديه.
ان كافكا في هذه الرواية الشتائية ينتشلك من حياتك بكل توتراتها وبؤسها المستور ليعيدك منهَكا الى واقع جديد عليك ان تواجه فيه تلك الحقائق التي تفضل لو تنساها. وبذا تكون قلعة كافكا وفية للقول بأن الكتاب ينبغي ان يكون فأسا نكسر به بحر الجليد الكامن في نفوسنا.