تحت ضغوط كثيرة كانت تدفعني نحو طرق غير مأهولة كالانتحار أو الحقد على عامل الفنار إذ كان في عزلته الباردة يمثل أحد أوجه الوقاية من الطريق الأولى، و بعد أن وجدت نفسي منغمسا في البورنو باعتباره أحد أكبر النشاطات المنظمة فنيا و الغنية تنظيريا وفق مبدأ مكرس لاحتقار الحياة و على غير المتوقع من ريفي النشأة صار العاملون في هذا المجال محل احترام انضم بدوره إلى مجموع الضغوط المذكورة أعلاه فكان لابد لي من اختيار محكوم بحب لا يصل حتى الانتحار و كراهية لا ترقى إلى الانخراط في خدمة الفنارات حيث الملوحة و صخرية التربة و الصورة الموروثة لا تعد سوى بخيالات مشنوقة لأبطال هلاوس ساخنة و أنصار ثورات مغدورة و عشاق ضاقوا بضغوط كالمستمرة في دفعي لاختيار طريق.... و هكذا بعد قراءات مرهقة و حضور جلسات علاج كئيبة و استشارات ملغزة لأطباء نفسيين اخترت الجنون في صورته الآمنة هكذا ظننت أو هكذا ظن ريفي نشأة لا قبل له ــ رغم احترامه الشديد للبورنو ــ بالجري عاريا في الشوارع أو بالصراخ الهيستيري رغم رغبته الملحة في عمل مسح للمدى الشاسع الذي يحتكره عامل الفنار بصمت كان يجلس منزويا في حانوت المرهونات كعادية لأرملة أتهمها أهل القرية بالسوء حتى فاتها موعد السداد . و هكذا حفزتني القراءات المرهقة و جلسات العلاج الكئيبة و الاستشارات الملغزة مع إمكانية التدريب على تلك البضاعة التي لا تثير شبهة إذا قررت الاعتماد عليها أو التراجع عنها حفزتني على التقاطه و مسح غبار التجاهل من عليه و بدأت في تدريبات تشبه الحقن الوقائي للنفس بأقصى أنواع السموم يمارسه ديكتاتور محاط باعداء و محظيات و عمليات نهب منظم، فكنت أقضي اليوم جالسا في صمت لا أتكلم إلا لضرورة أخذت مع الأيام تذوي كشمعة أشعلتها الأرملة على ضريح شيخ قرية بعيدة، معتقدا لوقوعي تحت سطوة الذهب و بريقه الحكمي أنه بلا آثار جانبية، لكنه راح يملؤني و يعدل صيغة وجودي ككائن تم زرعه في ظروف بيئية مغايرة في البدء الثقل الشديد يمهد لفقدان التوازن و الحركة المشوهة ثم تغادرني العناية الإلهية تاركة إياي لاستعادة وعيي بأذني اللتين صارتا جمرتين تدفعان الألم في رأسي و جسدي الممتلئ صمتا حتى انفصال داخلي عني؛ فصرت أعيي ذاتي كرسم أنجزه الديكتاتور في طفولته رأى فيه الجميع عبقرية مبكرة في نقد فني تم تعديله بعد حياة مليئة بالدسائس إلى تنقيب عن نفس شوهتها ضغوط و سوء رعاية و اضطراب تفكير و تعاقب أيام يمرر فيها الصمت أعصابي على شمعة الأرملة و قد أبت الانطفاء في معجزة بهت لها أهل القرية متوافدين على الضريح للتأكد من صدقها الذي يسير عكس تقديرهم لذواتهم التي هي أيد تصفق مع الديكتاتور و أنياب تنهش مع الأرملة و مع المعجزة احتشاد سنوي يلتمس الغفران في ذكر حكيم و مراجيح و عروض سحرة و وعود الملبن اللذيذة لمن يغمض عينيه جاءت كضربة لازب فخلصتني النصيحة الأولى لثلاث قرود حكماء من عذاب جنون الصمت . خلعته في صرخة عالية أفقدت عامل الفنار بعض احتكاره للمدى الشاسع و أجهز على بقيته تقاعد انطلق على إثره يظلم شقته كل ليلة و يستوي على قمة سلم خشبي نصبه في الحمام لقضاء الليل ملوحا بمصباح لحوض الاستحمام حيث عشرات السفن الورقية لن يعصمها الضوء من صباح مدركها باهتراء يجعلها تشبيها تمثيليا لحياة تسير مذعنة لضغوط كثيرة نحو طرق غير مأهولة كالانتحار أو الصمت أو الشفقة على عامل الفنار و هو يصرخ كل صباح أمام السفن الغارقة: يا أولاد الكلب... لست نبيا متقاعدا.

الإسكندرية