(1)

زياد الدريس: بدأت العلاقة الثنائية بين غازي القصيبي ومنظمة اليونسكو في عام 1999م، ثم أصبحتُ طرفاً ثالثاً في هذه العلاقة حين صدر قرار تعييني مندوباً دائماً للمملكة العربية السعودية لدى اليونسكو في عام 2006م.

بدأت عرى العلاقة الثلاثية باتصال سريع من الدكتور غازي على هاتفي الجوال بعد صدور قرار التعيين، وبادرني هكذا:
- ألو.. سعادة السفير، معك غازي القصيبي.
- أهلاً.. معالي السفير والوزير والخبير.
- بمناسبة وصفك لي بـ(الخبير) لا بد أن أجلس معك جلسة خاصة قبل أن تغادر إلى باريس، وأعطيك (خبرتي) في اليونسكو ودهاليزها، من خلال تجربة الانتخابات السابقة.
- الخبرة الفانتازية حصلت عليها من رواية quot;دنسكوquot;، بقي لي أن أعرف منك الخبرة الواقعية.
- (دنسكو) شبه واقعية.
أردت أن أغيّر مجرى الحديث بعيداً عن جدليات (دنسكو) النقدية، فقلت:
-المهم أن تكون quot;سونياquot; بطلة الرواية، شخصية واقعية، أريدك أن تدلني في أي دهاليز اليونسكو هي؟!.

-أجابني فوراً: السيدة سونيا هي الفانتازيا الوحيدة في الرواية .. للأسف يا زياد لن تجد سونيا في
اليونسكو!.
-قلت له في ختام المكالمة: هذه صدمة.. فأنا من أهم ما دفعني لقبول العمل في اليونسكو هو البحث عن سونيا، والانتقام لك منها.

ضحك، رحمه الله، ثم اتفقنا أن نلتقي من أجل درس (الخبرة الواقعية). والتقينا بعد تلك المكالمة، التي جرت في إبريل/نيسان 2006م، أكثر من مرة، لكنه لم يعطني الدرس الموعود إلا في إبريل 2009م!!.

quot;2quot;
.. وكان اسم quot;غازي القصيبيquot; قد عاد، عام 2008م، يرن من جديد في ردهات اليونسكو. ما الذي عاد به؟!
قالوا: إن القصيبي الذي لم يعتد الهزيمة، لن يقبل بما جرى له عام 1999م، وسيعاود غازي quot;غزوquot; المنظمة في معركة انتخابات 2009م، ليحقق في اليونسكو انتصاره. وبدأت الأسئلة تتوالى عليّ من السفراء العرب وغير العرب: هل حقاً أن غازي سيعاود الترشح لمنصب مدير عام اليونسكو في هذه الانتخابات؟.

كنت أفرح بالأسئلة، ولا أريد أن أجيب عنها حتى لا تتوقف.
في شهر نوفمبر/تشرين الثاني2008م كنت في السعودية. اتصلت بالدكتور غازي وطلبت أن التقيه، فاتفقنا على موعد في جدة.
أخبرته عن الشائعات والأقاويل التي تلوكها جدران المنظمة عن إمكانية عودتك إلى الترشح في انتخابات عام 2009م. ضحك، وهو يعبث بسبحته الصغيرة بين يديه الكبيرتين.

الدكتور القصيبي في منزل الدريس

قلت له، بإصرار مفاجئ: لكنني أريدك أن تعود، يجب أن تعود إلى اليونسكو.
طالعني باستغراب ودهشة من لهجتي، فبادرته: دكتور غازي، قبل أن تكون مرشحاً لمنصب رئاسة اليونسكو، أنت شاعر وروائي ومثقف وكاتب.

واليونسكو بُنيت أساساً لتكون بيتاً لك ولأمثالك، لا لتكون بيتاً لبيروقراطيين أو خبراء (استراتيجيين!). أريدك أن تغزو اليونسكو، هذه المرة، حاملاً راية الشعر والإبداع والانسانوية.

باختصار: أريدك أن تقدم أمسية شعرية في منظمة اليونسكو. تردد في الموافقة، مستنداً إلى أنه لم يعد راغباً في تقديم أمسيات منبرية شعرية جديدة، رغم إغراء اليونسكو. أبديت له إصراري على الدعوة، ووعدته بأن أجعلها، مع زملائي في المندوبية الدائمة، أمسية تليق به وباليونسكو معاً.

وافق، بعد مجادلة وقلق .. ربما من فشل يونسكي آخر!
حددنا موعداً للأمسية الشعرية، يوم الثلاثاء 7 إبريل 2009م. تطايرت رقاع الدعوة داخل اليونسكو وخارجها، وتطايرت معها الأسئلة والشائعات بصورة أقوى، وقد اقتربنا من الانتخابات أكثر:
(غازي القصيبي يعود إلى اليونسكو. غازي القصيبي يفتتح حملته الانتخابية بأمسية شعرية! هل يلتوي غازي القصيبي على المرشح العربي quot;فاروق حسنيquot; كما فُعل به من قبل؟!).

كنت أستمع إلى كل هذه الأقاويل ولا أجيب عنها بما أعلم .. حتى لا نخسر الإثارة التي ستغلف الأمسية الشعرية وتزيدها وهجاً.. فوق وهج الشاعر والشعر.

وفي أحد أيام فبراير الباردة تلقيت اتصالاً دافئاً من شاعرنا أبي سهيل يخبرني فيه أن حرمه المصون أم سهيل أبدت له البارحة رغبتها في أن تصحبه إلى باريس، وأنها قالت له: أنت دائماً تسافر في مهمات من دون أن أثقل عليك، لكنك هذه المرة ستذهب إلى باريس لتزور اليونسكو وتلقي فيها شعراً .. فهل أملك أمام هذه الإغراءات الثلاثة أن أمتنع عن مرافقتك؟! فقال لها أبو سهيل، بمنتهى الحصافة واللباقة، دعيني استأذن مضيفنا أولاً. قلت، من فوري، يا أبا سهيل.. أنت وأم سهيل في عيوني.

أجابني: لا لا خلِّ أم سهيل برا، أنا حطني في عيونك بس، وأم سهيل في عيوني أنا.
قلت له: بعد هذا العمر... وما زلت تغار عليها؟!.
رد بشقاوة: لا ليست غيرة، لكنني أعرف أن عيونك بالكاد ستتسع لاستيعابي.. أنا الضخم!
ضحكت، وأجبته: أنت كبير.. لا ضخم.

في خضم هذه البهجة التي كنا نعيشها ونترقب ذروتها، جاءني اتصال قبل الأمسية بعشرة أيام، يفيد بأن غازي القصيبي أصيب بوعكة صحية شديدة. خفت أن تكون هذه هي الهزيمة الثانية للقصيبي من اليونسكو.. يا لهذه اليونسكو؟!.

بعد يومين أجابني على الهاتف قائلاً: quot;لا تخف، سآتي إلى الأمسية بإذن الله، وعكة بسيطة وتعدّيquot;. لكنها لم تكن لاحقاً وعكة بسيطة أو أنها من النوع الذي يمكن تعديتها!.

وصل عريسنا المنتظر إلى باريس قبل الأمسية بيومين، وشرّفني في حفل عشاء في منزلي مع نخبة من المثقفين العرب المقيمين في باريس، كان فيها غازي، كعادته دوماً، نجماً متألقاً بموسوعيته وبديهته وفكاهته الخاطفة. وقبل أن يخرج سألني: هل أنت متأكد من أن أحداً سيحضر إلى الأمسية غداً؟! قلت له: ما يهمني هو أن أتأكد أنك أنت ستحضر إلى الأمسية غداً!.

قبل الأمسية بساعة، كانت القاعة الكبرى في منظمة اليونسكو، توشك أن تكتظ بحضور ثاني أمسية شعرية عربية تقام في تاريخ المنظمة (الأولى كانت أمسية الشاعر الراحل محمود درويش، عام 2008م).

افتتحتُ تلك الأمسية الشعرية بكلمة، نشرتها بعد ذلك في صحيفة الحياة، تحت عنوان (غازي في آخر غزواته)، وبالفعل تحقق العنوان، وليته لم يتحقق، فكانت تلك الأمسية عام 1430هـ 2009م، هي آخر أمسية شعرية، وآخر مشاركة منبرية له في حياته، رحمه الله. بل إن الصديق الكاتب والروائي أحمد أبو دهمان كتب عن الأمسية أيضاً، في صحيفة الرياض، تحت عنوان (القصيبي يسجل وصيته في اليونسكو)!

ما حكاية هذه العناوين الجنائزية؟!
هل كان غازي القصيبي بهذه الدرجة من الشفافية، بحيث يعلم أصدقاؤه بقرب وفاته؟!
مكث غازي القصيبي أسبوعاً في باريس ليس لديه همّ، كما كان يردد، سوى الاسترخاء بعد الوعكة والتهرب من جولات التسوق مع أم سهيل.

في أحد لقاءاتنا في ردهة فندق البريستول، سألته: لماذا اختار هذا الفندق تحديدًا؟ فقال: هذا هو الفندق الذي كنت أقيم فيه طوال أيام انتخابات اليونسكو عام 1999م، وقد تعودت عليه وألفته مذاك. قلت: ظننتك ستكرهه لأنه يذكّرك بالهزيمة!.
قال: لو كنت أريد أن أنسى الهزيمة أو أخشاها، لما جئت إلى اليونسكو مرة أخرى. قلت له: بالفعل، فأشباح الهزيمة في اليونسكو اكثر منها في البريستول. ثم ختمت هذا الحوار الاستفزازي بالقول:
كفى بالمرء نبلاً أن تُعدّ quot;هزائمهquot;!.

لاحقاً.. وفي لقاء ثنائي آخر في مكتبي هذه المرة، سألني عن أوضاعي العملية هنا في باريس وعلاقاتي مع الجهات المعنية؟! لم أشكُ له كثيراً، كما يفعل صغار الموظفين مع كبار الموظفين عادة (!)، لكنني حدثته عن الجميل والقبيح وعن الدعم والخذلان وعن الأبواب المفتوحة والأبواب المغلقة.

قال لي، بنبرة أبوية،: وهل كنت تتوقع يا زياد أن يقف الجميع معك ويفتحون لك كل الأبواب، أو أنك كنت تصدق كل ما يقال عن العمل الجماعي والأهداف المشتركة والرسالة الواحدة لخدمة الإنسانية أو حتى لخدمة الوطن؟! كان يجب أن تعرف بأنك كلما ازددت نشاطاً ازدادت المقاومة ضدك، وأن كل نجاح تحققه سيخلق لك عدواً جديداً. أكثر الناس راحة وطمأنينة هم الذين لا يعملون!
وأوجزت موعظته البيروقراطية تلك في عبارة كتبتها لاحقاً وأرسلتها إليه:
إن لم تعمل سيعتب عليك الذين يعملون، وإن عملت سيسخط عليك الذين لا يعملون!

* *
في ختام أمسيته الشعرية اليونسكية التي حضرها قرابة 1000شخص من الجمهور الفرنسي والعربي، وتجلى فيها بقصيدته المطولة quot;سحيمquot; مستثيراً بها آذان وجدران اليونسكو، للوقوف ضد الطبقية والعبودية، ومستنجداً بقيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان .. في معقلها، أو معتقلها! في ذلك الختام رأيت كيف تكالب الناس على غازي .. يريدون توقيعه أو التصوير معه. كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها سعودياً quot;نجماًquot; من غير الفنانين أو اللاعبين، يتحاشد عليه الجمهور بهذه الصورة.
كانت أمسية يونسكية خالية من الدنس .. مليئة بالونس!
نجحت الأمسية الشعرية الكبرى: شاعراً وجمهوراً ومقراً وتنظيماً، وخرج غازي منها وهو يردد: هذه أمسية العمر.
رحم الله ذلك العمر المكتنز بالسمو والعطاء، وغفر الله له ذنوبه كلها... وآخرها: حزننا عليه.

(3)
في عام 1999م، انهزم غازي القصيبي في اليونسكو بـ 34 صوت ..
في عام 2009م، انتصر غازي القصيبي في اليونسكو بـ 1000صوت!


كاتب المقال سفير المملكة العربية السعودية لدى اليونسكو.
مقتبسة بتصرف من مقالة مطوّلة نشرها الكاتب في العام الماضي في رثاء الفقيد.